السبت ١٤ آذار (مارس) ٢٠٠٩
بقلم عادل الأسطة

سوء حظ المؤلف

بداية هذا العام وجدتني أكتب عن (سلطة اللغة ولغة السلطة: تأملات في تجربة محمود درويش). كانت الجامعة الأردنية عقدت العزم على عقد مؤتمر عنوانه (جدل اللغة واللسانيات) في شهر أيار القادم، وقد أعلمتني عنه، قبل الإعلان عنه، الدكتورة إيمان الصمادي المحاضرة في قسم اللغة العربية في كلية الآداب في الجامعة. ولما قلت لها: لا اهتمام لي في الموضوع، أبلغتني أنه يضم محاور عديدة يمكن أن أكتب في واحد منها. أهدتني د. إيمان كتابها (رسالة الدكتوراة) عن سعدي يوسف، ووعدتني أن ترسل لي دعوة لأشارك في المؤتمر، وقد أوفت بوعدها.

وأنا أتصفح محاور المؤتمر وجدتني أختار محور اللغة والسلطة، وقلت: أتأمل في تجربة محمود درويش الشعرية، فقد كنت أنجزت دراسة مطولة نشرتها في الأسوار(2003) تحت عنوان (الشاعر، من خلال شعره، منظراً)، وكنت أنجزتها في العام 2000 لأشارك فيها في مؤتمر قرر بيت الشعر / رام الله عقده في نهاية أيلول من العام المذكور، وبدأت اللجنة بعقده ولم تتمه، لأن انتفاضة الأقصى قد انفجرت في حينه، في 28/9/2000.

ما فكرت في أن أكتب فيه تحت عنوان (سلطة اللغة ولغة السلطة)، كنت أنجزته تحت العنوان السابق: (الشاعر، من خلال شعره، منظراً للشعر). هل أكرر ما كتبت؟ سؤال طرحته على نفسي، وقلت: لماذا لا أفعل، فقلة قليلة هي التي قرأت الدراسة في الأسوار، عدا أنني لم أنشره، على الشبكة العنكبوتية؟ وأضفت: ويمكن أن أطوره، فقد نشر درويش بعد العام 2000 أربعة كتب شعرية وكتاباً نثرياً، وأجريت معه مقابلات عديدة. وهكذا قرأت دراستي السابقة، وسرعان ما وضعتها جانباً، وبدأت أكتب دراسة جديدة، فأنجزت شيئاً مختلفاً كلياً عما سبق. هل تعززت لدي مقولة أصحاب نظرية التلقي الألمانية، مقولة (هانز روبرت ياوس): (إن قراءة نص أدبي واحد في زمانين مختلفين تؤدي إلى قراءتين مختلفتين)؟ بالتأكيد. ولقد عكفت في الفترة نفسها على إنجاز دراسة جديدة عن صلة درويش بأبي فراس الحمداني، لأشارك فيها في مؤتمر ستعقده جامعة بير زيت في الحادي عشر من آذار من هذا العام. كنت كتبت عن قصيدة (من روميات أبي فراس) في العام 1996 ونشرت الدراسة في العام 1997 في مجلة كنعان. ولاحظت، بعد أن أعدت الكتابة أن ما أنجزته مختلف كلياً، فلقد توسعت في القراءة والكتابة، وعقدت موازنات بين درويش وأبي فراس، ودرويش والبياتي، وهكذا أتيت بجديد لم يظهر في كتابتي السابقة.

وأنا أقرأ نصوص درويش الجديدة التي ظهرت في (حالة حصار) (2002) و(لا تعتذر عما فعلت) (2003) و(كزهر اللوز.. أو أبعد) و(أثر الفراشة) (2008) لفت نظري مقطوعات، منها ما يذكر بمقاطع سابقة للشاعر، ومنها ما هو جديد يستحق أن يتوقف أمامه. فقلت أعاود الكتابة. أما كتبت مرة مقالة عنوانها: (أنا وحتى وأشعار محمود درويش) وقلت فيها: سأموت وفي نفسي شيء من أشعاره لم أكتب عنها.

في قصيدته، ما قبل الأخيرة – أي (لاعب النرد) لفت نظري المقطع التالي:

هو الحظ، والحظ لا اسم له
قد نسميه حداد أقدارنا
أو نسميه ساعي بريد السماء
نسميه نجار تخت الوليد ونعش الفقيد
نسميه خادم آلهة في أساطير
نحن الذين كتبنا النصوص لهم
واختبأنا وراء الأولمب...
فصدقهم باعة الخزف الجائعون
وكذبنا سادة الذهب المتخمون
ومن سوء حظ المؤلف أن الخيال
هو الواقعي على خشبات المسارح/
خلف الكواليس يختلف الأمر

وأخذت أكرر هذا المقطع، حتى كدت أحفظه عن ظهر قلب، وقد شرحته في دراستي (سلطة اللغة ولغة السلطة)، وشعرت مع ذلك أنني لم أوفه حقه. لماذا لفت نظري هذا المقطع؟ ولماذا أخذت أكرره؟ لماذا أرسلته (بلفونياً) إلى أحد أصدقائي؟

ربما شعرت أن درويش يلخص فيه ما جرى معي، وربما يكون جرى معه، بل إنه بالتأكيد حدث معه ومع كثيرين من المثقفين الذين كتبوا للسلاطين سابقاً، وللحكام والرؤساء والملوك في زمننا، نصوصهم التي ألقوها. وما من مثقف كتب لحاكم خطبه، وقرأ نص درويش إلا أخذ يكرره، شاعراً أنه أنا المتكلم في النص.

أنا، بحكم عملي محاضراً في الجامعة، أصحح للطلبة دراساتهم، وأصحح أحياناً أبحاثاً علمية لحملة الدكتوراة، وأحياناً كثيرة، بل غالباً ما أقترح موضوعات ليكتب فيها طلبتي وبعض زملائي، وتكون النتيجة أن يدعي أولئك أنهم أصحاب الفكرة، فيصدقهم باعة الخزف الجائعون، ويكذبني سادة الذهب المتخمون. وذلك هو سوء حظ المؤلف. ليرحم الله ابن البروة، ليرحمه الله! وسأتذكر رورو. وسأتذكر بعض قصصي.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى