الخميس ٢٠ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠١١
قراءة للراحل الشاعر طلعت سقيرق في
بقلم زاهية بنت البحر

صياد وسمكة لزاهية بنت البحر

 كأننا ما نزال نبحث في فن القصة القصيرة جدا بحث الذي يريد جوابا ولا يجد ..
 هذا الفن غنيّ .. وألاحظ أننا بحاجة فعلية لمعرفة الكثير عن هذا الفن ..
 تعالوا هنا ندرس هذا الفن بانفتاح ، على ان نثير مستقبلا نقاشا حيا يتناول هذا الفن ..

كاتب الموضوع: طلعت سقيرق المنتدى: القصة القصيرة جداً

رد: تفعيل مفاهيم فن القصة القصيرة جدا

********

القصة: صياد وسمكة
الكاتبة: زاهية بنت البحر

تنزل البحر كل يوم بحثًا عن صيد جديد، مازال طعم أول سمكة ظفرت بها قبل سنوات يشعرك بالجوع، سمكة ذهبية معشقة بالأخضر، ظننت يوم اصطيادها بأن البحر لن يجود بمثلها أبدا، ورغم ذلك بقيت تنتظر المعجزة. تزرع الشاطئ ذهابًا وإيابا وعيناك تجولان المكان بحذر شديد، تلتقط أنفاسك كلما تكسرت موجة فوق الصخور، وأزعج أذنيك أنينها فوق الرمال. أيقنت بعد كثير ترددك على الشاطئ بأن الموج يتألم، وله قلب كالذي ينبض في صدرك، يفرح ويحزن، يغضب ويهدأ، سألت نفسك كيف تشابهتما، لم تجد جوابًا يشعرك بالطمأنينة، ترفض أن تكون كالبحر فهو غدار، أنت تقر بهذا، أما أنت فغدار أيضًا، ولكنك تأبى الاعتراف بذلك رغم أنك مازلت تحس جوعًا منذ اقتناصك السمكة إياها قبل سنوات، أكلتها لحمًا ورميتها حسكا. تهرب من إلحاح فكرة الغدر عليك، تسرع الخطى فوق رمال الشاطئ ، السمكات يتماوجن فوق سطح البحر بما

يسلبك الوعي، ترمي الصنارة،
تعلق بها إحداهنَّ،
تشد الخيط،
تمسك بها،
تجفل،
تنظر في عينيها،
تنفر الدموع منهما،
تفرك عينيك بأصابعك المرتعشة،
الصيد ثمين.. ثمين جدا، جدا
تكاد تجن،
لاتصدق ماتراه،
تسأل نفسك برعب يفترس قلبك المتشوق للصيد:
كيف أصبحت ابنتك سمكة؟

——–

عندما نقرأ فن القصة القصيرة جدا علينا أن نتسلح بالكثير من التأني والتؤدة والتبصر والنظر إلى مسار القصة الذي يفترض ألا يتراخى في أي جانب من جوانبه ..

وبالتأكيد يفترض أن ننظر إلى التكثيف ، الإيجاز ، الجملة الوامضة ، حركة الفعل ، توظيف العنوان ، الاختصار ، التقيد إلى أبعد حد بعدد الكلمات ، إعطاء المعنى أو المغزى من فن القصة القصيرة جدا .. فالترهل داء ينسف هذا الفن ويلغيه ، والترهل لا يعني التقيد بعدد المفردات القليلة فقط ، لكن بجعل الحدث والشخصية والفعل في حالة من التوتر المفيد .. وهناك أشياء أخرى سأوردها في مناقشتي لقصة ” صياد وسمكة ” للقاصة زاهية بنت البحر ..

حددت القاصة مفرداتها بحدود ” 178 مفردة ” أي أنها التزمت بعدد قليل من المفردات يفترض أن يكون للقصة القصيرة جدا .. فالخلل الطارئ والضار الذي يقع فيه أكثر الكتاب هو السرد المطول دون انتباه أو حذر متناسين أنهم يكتبون قصة قصيرة جدا ، لا قصة ..

ونجد أن زاهية بنت البحر في قصتها هذه ، وفي مجال المفردات ، لم تخل بما هو مطلوب ، ولم تخل بما هو فني .. فقلة المفردات ساعدتها على الاختزال والتكثيف والجملة أو العبارة اللماحة وهذا شيء يجعل الفن عاليا مشغولا بإتقان وتميز ..

استهلت القاصة قصتها بالقول ” تنزل البحر كل يوم بحثًا عن صيد جديد” لتضع بسبع مفردات الكثير من الركائز اللازمة لبناء قصتها ..
هناك الخطاب ، فالبطل شخصية موصوفة مخاطبة تقف بمواجهتنا من خلال عيني الراوي .. وهناك البحر الذي يحدد لنا جغرافية القصة وفضاءها ويعطينا ركائز الجوّ الذي يعمل فيه البطل .. ثم هناك التحديد لعمل أو توجه البطل حيث يسعى إلى الصيد ..

ومفردتا ” يوم ” و” جديد ” محددتان نشطتان هامتان في هذا الاستهلال .. فهما يعطيان الديمومة في الصيد ، الاستمرار اليومي ، البحث عن المتغير والجديد في هذا الصيد .. واللفتة الهامة الذكية أنّ الصياد هنا ليس صيادا عاديا يسعى لرزقه ، بل هو يبحث عن شيء من المتعة ، عن الجدة والتغيير ….وبعد.. في هذه الأجواء التي قدمتها سبع مفردات ، ومن خلالها نخطو إلى الأمام في فهم القصة ..

الحدث التالي يقول ” ترمي الصنارة ” هذا هو الترتيب المنطقي .. لكن هل يجيء رمي الصنارة هكذا خبط عشواء ؟؟.. طبعا لا .. فأن نقول ” تنزل البحر كل يوم بحثا عن صيد جديد .. ترمي الصنارة ” لا نخرج عن الترتيب المنطقي للأحداث .. لكن أين جمال القصة ؟؟.. أين خلفية البطل ؟؟.. فهم نفسيته ؟؟.. شخصيته ؟؟.. المؤدى الذي يصل إليه ؟؟.. مقتل القصة أن نجتزئ هكذا .. وأوردتُ المثال لأشير لأخطاء قاتلة يقع فيها كتاب القصة القصيرة جدا الذين يستعجلون الكتابة من جهة ، ولا يعرفون قيمة هذا الفن من جهة ثانية ..

هناك فضاء غني جدا بين الاستهلال ورمي الصنارة ، هذا الفضاء يعني الكثير ويكاد يشكل اللحمة الحية والنفس الذي يعطي القصة هواءها الضروريّ .. بدون هذا الفضاء تصبح القصة ناقصة .. مبتورة .. وهذا غير ممكن بالنسبة لكاتبة منتبهة كل الانتباه لسير قصتها ، وسير بطلها .. ومنتبهة بالكثير من التميز لحركة الفعل واستفادته من الحالة النفسية .. فالفعل لا يأتي فعلا قاموسيا مجردا حين ينتقل إلى الإبداع .. وفي القصة القصيرة جدا يفترض أن يكون الفعل مسكونا بالكثير من الألوان وا]حاءات والصور والخلفيات ..وفعل ” ترمي ” هنا عائد إلى فضائه المشحون بالكثير .. إن جردناه من هذا الفضاء فهو فعل عاديٌ يمرّ أمام البصر والبصيرة دون كبير أثر ، لكنه بمحموله غني جدا .. كيف ؟؟..

تقول القاصة زاهية بنت البحر :” مازال طعم أول سمكة ظفرت بها قبل سنوات يشعرك بالجوع، سمكة ذهبية معشقة بالأخضر، ظننت يوم اصطيادها بأن البحر لن يجود بمثلها أبدا، ورغم ذلك بقيت تنتظر المعجزة. تزرع الشاطئ ذهابًا وإيابا وعيناك تجولان المكان بحذر شديد، تلتقط أنفاسك كلما تكسرت موجة فوق الصخور، وأزعج أذنيك أنينها فوق الرمال. أيقنت بعد كثير ترددك على الشاطئ بأن الموج يتألم، وله قلب كالذي ينبض في صدرك، يفرح ويحزن، يغضب ويهدأ، سألت نفسك كيف تشابهتما، لم تجد جوابًا يشعرك بالطمأنينة، ترفض أن تكون كالبحر فهو غدار، أنت تقر بهذا، أما أنت فغدار أيضًا، ولكنك تأبى الاعتراف بذلك رغم أنك مازلت تحس جوعًا منذ اقتناصك السمكة إياها قبل سنوات، أكلتها لحمًا ورميتها حسكا. تهرب من إلحاح فكرة الغدر عليك، تسرع الخطى فوق رمال الشاطئ ، السمكات يتماوجن فوق سطح البحر بما يسلبك الوعي… “..

انفتاح على الذاكرة .. انفتاح واسع كبير غير محدود .. انفتاح على الطباع .. انفتاح على النفس وتشكيلها الكلي من عادات ومحمول وصفات .. انفتاح على الملامح .. انفتاح على الحركات التي يتصف بها البطل ..

أيضا هناك صيد مفقود وحاضر يبحث عنه البطل .. سمكة مشتهاة بقيت عالقة في الزمن وكأنها تحث على التكرار .. الصياد يبحث عن الماضي في تكرار الحاضر .. يبحث عن سمكة ذهبية معشقة بالأخضر .. لندقق هنا بالوصف الثر الغنيّ ..

هناك مسافة من التمني .. مسافة من الظن .. مسافة من الأمل .. لماذا كل هذا الانتظار والبحث عن شبيه لسمكته التي صادها ذات يوم ؟؟.. لأنها عبأت فسحة الرغبة والعشق والتشهي .. ولأن السمكة تبدأ بالتحول كحالة نجد أن الكاتبة تؤنسن كل شيء ..لك ل أن تمضي مع القصة والقاصة ، وعلينا أن نسأل هل مازال فعل ترمي كما هو ؟؟.. هذا الفعل بؤرة كل شيء ، يلم بل يسحب ما قبله من مفردات لذلك يفترض أن ننتبه إلى الشكل الذي وصل إليه ..

الانتقال إلى التطابق بين الصياد والبحر ، هذا التطابق الذي يحرك المعنى نحو شيء تريد الكاتبة أن توصلنا إليه .. نجد البحر صيادا ، ونجد الصياد بحرا .. حتى في حالة الغدر وهو شيء نكرره كثيرا ” غدار يا بحر غدار ” نجد أن الصياد أيضا غدار على طريقته .. البحر جائع مهما أكل .. الصياد ما زال جائعا منذ أكل هذه السمكة ولم يجد شبيها لها .. لنلاحظ أيضا ” أيقنت بعد كثير ترددك على الشاطئ بأن الموج يتألم، وله قلب كالذي ينبض في صدرك، يفرح ويحزن، يغضب ويهدأ، سألت نفسك كيف تشابهتما” هنا الأنسنة نهائية ، والتشابه نهائي رغم محاولة الصياد لنكران ذلك أو التنكر له .. هناك رسالة يريد البحر أن يقولها .. هناك مأزق ما يريد الصياد أن يتنصل منه ..

طبعا كل هذا ، وهناك الكثير مما يمكن أن يدرس يجعل مفصل مفردة ” ترمي ” غني جدا ومحملا بالكثير من المعاني .. وعلينا دون شك أن ننتبه إلى نقلة في غاية الأهمية بعد “رمي الصنارة ” فالكاتبة تنقل السرد كله إلى حالة مغايرة تمام ، حالة بغاية الروعة كونها تحمل تسارعا وإيحاءات ومؤدى وتوترا وتصويرا وشيئا غير قليل من السيناريو السينمائي والحوار الخفي.. ومفتاح النقلة هنا جاء في الفقرة السابقة من خلال ” يسلبك الوعي “.. فهذا السلب للوعي نقل الصياد بل جعله حالة من التوتر المعبر عن مشهد سينمائي خالص ، وعن صفاء في الحالة النفسية لا مثيل لها .. لنقرأ :

تعلق بها إحداهنَّ،
تشد الخيط ،
تمسك بها،
تجفل،
تنظر في عينيها،
تنفر الدموع منهما،
تفرك عينيك بأصابعك المرتعشة،
الصيد ثمين.. ثمين جدا، جدا
تكاد تجن،
لا تصدق ما تراه،
تسأل نفسك برعب يفترس قلبك المتشوق للصيد:
كيف أصبحت ابنتك سمكة؟

****

أربعون مفردة .. أربعون تدفقا من الأعلى ..ثلاثة عشر فعلا كلها بصيغة المضارع ، لتعطي الحركة أوجها .. هنا لا مكان للفعل الماضي لأن الوصف في تسارع وغليان .. وعلينا الانتباه إلى أنّ كل فعل يؤدي وظيفته بإتقان شديد ..تعالوا نرتب الأفعال ” تعلق – تشد – تجفل – تمسك – تنظر- تنفر-تفرك-تكاد-تجن-تصدق-ترى-تسأل – يفترس “.. أفعال مبنية على الفعل ورد الفعل ، على التبادل في المشاعر ، على تحريك زمن التوتر .. كل هذا يحيل الصياد إلى حالة إنسانية مسكونة بالانفتاح على الانتظار .. وتكون الخاتمة المدهشة المحملة بسحرها الخاص والمشكلة لمصب حقيق لكل ما كان ” كيف أصبحت ابنتك سمكة ” ؟؟.. هذا الفعل ” أصبحت ” هو الوحيد الفعل الوحيد الذي جاء بصيغة الماضي ..لماذا ؟؟.. الجواب يحمله المضمون ، فليس من الممكن القول ” كيف تصبح ابنتك سمكة ” لأن التغير حدث من قبل ، ولم يحدث الآن .. فالتوتر الذي ساق الصياد والبحر والقارئ كان يقود إلى عاصفة حدثت .. والعاصفة هنا .. ويجب أن نعود إلى المفتاح الذي ذكرته ” يسلبك الوعي ” .. وبرأيي فهذه الخاتمة من أشد الخاتمات إبهارا ونجاحا في القصة القصيرة جدا ..

أحب هنا الإشارة إلى صيغة الراوي الواصف التي استعملتها الكاتبة ، وأحالت السرد إلى خطاب، وهذا شيء هام جدا في تقنية السرد التي اختارتها ..فلو أنها تحدثت بصيغة الراوي الحاضر ” الأنا ” لجعلت قصتها منقوصة باردة .. فهناك أشياء كثيرة ما كان للراوي الحاضر أن يصفها بكل هذه الدقة ، خاصة في المقطع الخير الذي نفترض انه تبادلي بين الصياد والبحر وحامل الفعل وردات الفعل ..

هذه القصة للكاتبة زاهية بنت البحر ، قصة ناجحة بامتياز ، استطاعت أن تستفيد من كل تقنيات هذا الفن ، إلى جانب استفادتها القصوى في اللغة من كونها شاعرة .. ولعمري فحين يكون الفن كذلك ، فهو يستحق الحياة والخلود والإشادة ..

****

هذه القصة للكاتبة زاهية بنت البحر ، قصة ناجحة بامتياز ، استطاعت أن تستفيد من كل تقنيات هذا الفن ، إلى جانب استفادتها القصوى في اللغة من كونها شاعرة .. ولعمري فحين يكون الفن كذلك ، فهو يستحق الحياة والخلود والإشادة ..
يتبع

أقدم قصة الشاعرة القاصة زاهية بنت البحر وهي بعنوان ” صياد وسمكة ” للدراسة .. راجيا أن نجد في دراستها شيئا مما نبحث عنه ..

النص : صياد و سمكة
القاصة : زاهية بنت البحر

تنزل البحر كل يوم بحثًا عن صيد جديد، مازال طعم أول سمكة ظفرت بها قبل سنوات يشعرك بالجوع، سمكة ذهبية معشقة بالأخضر، ظننت يوم اصطيادها بأن البحر لن يجود بمثلها أبدا، ورغم ذلك بقيت تنتظر المعجزة. تذرع الشاطئ ذهابًا وإيابا وعيناك تجولان المكان بحذر شديد، تلتقط أنفاسك كلما تكسرت موجة فوق الصخور، وأزعج أذنيك أنينها فوق الرمال. أيقنت بعد كثير ترددك على الشاطئ بأن الموج يتألم، وله قلب كالذي ينبض في صدرك، يفرح ويحزن، يغضب ويهدأ، سألت نفسك كيف تشابهتما، لم تجد جوابًا يشعرك بالطمأنينة، ترفض أن تكون كالبحر فهو غدار، أنت تقر بهذا، أما أنت فغدار أيضًا، ولكنك تأبى الاعتراف بذلك رغم أنك مازلت تحس جوعًا منذ اقتناصك السمكة إياها قبل سنوات، أكلتها لحمًا ورميتها حسكا. تهرب من إلحاح فكرة الغدر عليك، تسرع الخطى فوق رمال الشاطئ ، السمكات يتماوجن فوق سطح البحر بما يسلبك الوعي، ترمي الصنارة،

تعلق بها إحداهنَّ،
تشد الخيط ،
تمسك بها،
تجفل،
تنظر في عينيها،
تنفر الدموع منهما،
تفرك عينيك بأصابعك المرتعشة،
الصيد ثمين.. ثمين جدا، جدا
تكاد تجن،
لاتصدق ماتراه،
تسأل نفسك برعب يفترس قلبك المتشوق للصيد:
كيف أصبحت ابنتك سمكة؟

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى