الأحد ١ آذار (مارس) ٢٠٠٩

طائر نابلس الجديدة

بقلم: تيسير ياسين

قدمت إليك يا طائر نابلس الجديدة هاربا من العالم الملغوم . . . لاجئا لحمى عالمك المجهول . .. فهل ستمنحينني تأشيرة الدخول، ها أنا أمنحك سلاما وأمانا، فتعالي هذا فتات الخبز، ما بالك ترددين؟

أتراكِ مني تخافين، وكأنني من الصيادين؟

بكل صراحة عيوني تلاحقكِ، وأنت في المدى البعيد تظهرين وتختفين، ثم تقتربين على حذر، وسرعان ما تبتعدين . . . إلى أين يا طائر نابلس الجديدة، والسماء كلها ملكٌ لكِ فأي مدى تردين؟

من وهبك عيون خضراء كهذه حيث لا حدود ولا سدود؟ لا بداية أو نهاية.

على صفحة نابلس تنتشرين . . . ثم ترقدين في بقعة رمل نائية على قمة الجبل مع أسرابك عليها تجتمعين . . حتى تعودين تغنين وتصفقين وترقصين . . . وكأنك بي تشمتين؟ ترى أي شيء تخفين.

أأنت جائعة عن قوت يومك تبحثين، وتحملين هم صغارك المنتظرين، وعن الغناء لا تكفين ولا تتعبين قانعة بصيبك بالحياة راضية تجعلين نفسك ملكة دون التاج الثمين تلتقطين السمك الصغير . . بمنقارك الرقيق الدقيق الجميل . . وتبتسمين وعلى أسرابك تتمايلين وتتدلين.

أشعر بالغيرة منكِ يا طيور النورس لما تملكين كل شيء . . فليس أهدا للروح من المدى الكبير الكبير حيث الامتداد المستمر الطويل، وأتمنى لو أعرف لغتك، لأعرف ماذا تقولين، أو لديك مثلنا أسرار وآلام بها تبوحين؟ بأي منظار ترين الحياة وماذا عنها وماذا تأخذين.

كل حدودك مياه وسمك صغير. . وفتات خبز يرميه لكِ المتعطفون . . وتحتارين حتى تهبطين أو تطيرين أم تراني نسيت المدى الكبير الكبير.

كم سعيدة أنت ووديعة، أنيقة وقوية وجرئية . . . الإصرار فيك على الحياة يمنحني الكثير" أن الدنيا لسا بخير" بالله عليك يا طائر نابلس الجديدة اقتربي أكثر وامنحيني تأشيرة الدخول . . . تعالي إليَّ لنتوزان ما بين مجهول وعالم معلوم.

عندما قلت لي، اهتم بصلاتك وحدثتني عن البحر ذاك الطفل الماكر، ولما أخبرتني عن تاريخ ميلادك . . . كل هذا الأشياء كانت تنذر بوقوع معركة هائجة سرعان ما وصلت إلى مرحلة الثورة على الماضي . . . 9/12/1987م كان الميلاد بحق وحقيقة، وكم رحت أبكي مثل المفجوعين والغيورين على وطنهم، وذلك الوطن المأسور، وشكرا لكِ بأنكِ علمتني معنى البكاء الحقيقي، فقد اتاحت لي ومضات الوقت أن أبكي وأبكي لما عدت من نابلس إلى جنين وبعد أن انتهينا من التسجيل كنت حاملا نابلسَ على ظهري.

فطيف الهوى يلومني حين أنساكِ.

من أكون أنا . . .

سؤال وجيه بالنسبة لرحاب.

أرسم حياة بهيجة متحركة السماء فيها متعددة الألوان، وأوراق الأزهار كل ورقة منها بمئات الألوان، وكذلك وجهكِ ووجه القطة وريش العصفور، وتحسست جمر أنفاسك، والتي احترقت في صدري.

متى رأيت وردا أصفرا وأحمرا وأزرقا فهو بداية التعلم أيتها الصحافية . . . هكذا قال لي الدكتور عادل الأسطة، وبدأت أتعلم لا أحلم.

واصلت تعليمي، وأبديت تفوقا كبيرا وبارعا في خنق أحلامي، تعلمت أن الحياة أرقام وأشكال، وأن اللغة حروف، وأن كل أسرار الطبيعة قوانين تكتب على السبورة، حتى أن الموسيقا ليست إلا نوتات مركبة.

تعلمت أنني كلما خرجت من بيتي وجدت السماء زرقاء، والإسفلت أسود والسيارات صفراء، وجذع الشجرة بنيا، ووجوه النساء بلون واحد وهو الممزوج بمستحضرات التجميل والتي لا ترق لي.

ولأنني أصبحت افهم في كيمياء الكتابة، لماذا لون السماء ازرق فإنني لم أثر أبدا عليها قائلا: كفى . . كفى ! تطلين علينا بنفس الألوان.

ولم أثر على الأزهار ولا على الموسيقا والشعر . . ووجه الحبيب وابتسامة لا تتغير.

لم أثر لأنني كنت أعلم أن لا مجال للثورة فكل شيء باق على ما هو عليه لا يتغير، لأن لكل شيء تفسيرا علميا وتحليلا منطقيا ترتطم بها الأحلام، كما يرتطم رأس البائس اليائس بالجدار.

ومع ذلك فانا مثل "إيلينا شاوشيسكو" أحب الأحلام الكبيرة والتي قرأت مذكراتها وهي زوجة رئيس رومانيا السابق في الحقبة الشيوعية، وطبعا أحلامها لم تقتل ذبابة في مسيرة التاريخ، وخوفي أن أكون مثلها.

وحتى هذه اللحظة أحلم باختراع زر أضعة عند باب الخروج من البيت، أضغط عليه فتبدو لي الدنيا حين أقابلها كل يوم بألوان كثيرة، وجديدة تفوق تصوري وأحلامي.

إلى الوراء وتحديدا ذلك اليوم التاريخي، وتخيلتك وحيدة . . وهذا ما لم استطع احتماله . . يا لها من لحظة مفعمة بالبكاء، وإن سرعان ما انقطع وميض التخيل، حتى عدت إلى رشدي وصوابي
لكنني وصلت إلى حل وحيد هو أنه في اليوم كان الإبداع الآخر.

ثمة أمرٌ قال لي : إنها ولدت في ذاك اليوم . . ماذا يجري في نابلس . . لا احد يدري ولا أنا . . وأهل الضفة وغزة المحتلتين لا يدرون، وما من أحد يجبيني . . لكن فيما بعد دَّوت وسط عيبال وجرزيم صرخة كانت صاحبتها رحاب وجاءت من دم الغزال، فبعد أن جاء المخاض أمكِ وبعد أن ابتلعت صراخها واستنجدت بالله العلي القدير في ألمها، بدأ العالم الجديد.
جاءت إلينا رحاب . . وكم أنت جميلة مثل وردة جديدة وشعلة نار ولهب وبداية التاريخ لقضيتنا الفلسطينية، وما عرف بانتفاضة أطفال الحجارة.

عندما كتبت كل هذا لم أعرف ما هو برجك، لاسيما أن الصفحة الوحيدة التي أهملها هي صفحة الأبراج في الصحيفة . . . لكنك أنت من برج المجانين الذين قرروا أن يسرقوا من السماء النار،فكوني صُحفيةً لا من أهل الأحجار والشعارات الرنانة.
فكتاباتي معادلة صعبة . . تلك هي سنوات الانتفاضة وتاريخ ميلاد رحاب . . . كان القتل والتشريد والظلم والرعب الذي حاق به شعبي، والإبداع الآخر.

فيا سيدتي الحرب معادلة صعبة لا يتناسب مع خرابها إلا الجمال المطلق فلقد علمتني أن بكي جمالا واتزن وأن أبدع، وأبدعت الانتفاضة ببدايتها بولادة جيل جديد أولهم رحاب والبقية.

وأن الإنسان لا يولد بطلا، وإنما يُصنع مع مرور الزمن.

بقلم: تيسير ياسين

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى