

طفل عائشة وجانيت
ابكى... أرجوك يجب أن تبكى.
البكاء سوف يحررك من الخوف والغضب والحزن، فتحررى بالبكاء.
انزفى دموعاً وأنت قابعة فوق تلك الصخرة مثل نبته صحراوية ترنو إلى السموات، ولا قطرة واحدة تأتيها
تذكرى ماحدث حتى لا تندمل جراحك، فالجراح حين تبرأ تمنح صاحبها الراحة، وأنت يجب ألا تشعرى بالراحة أبدا. كانت تتطلع إلى أفق مغسول بالسراب، ظهرها منحنى فى جلسة طالت لساعات، فلم تشعر إلا والمساء يتمدد من حولها. ناداها من خلفها.
– جانيت.
– لم تسمع فكرر النداء، ولم تنتبه إلا حين اقترب منها، ومد يده فلمس برفق كتفها، إلتفتت إليه.
– جانيت.. أرجوك عليك العوده.
لم تقل شيئا، فقرفص إلى جوارها، ونظر إلى عينيها الخضراوين ثم قلب عينيه فى أنحاء الكون.
– المكان هنا ليس آمنا.
– ندب عنها ابتسامة ساخرة وقالت:
– كأننى أنشد الأمان، أو أخاف الخطر
– عليك ذلك... ولو حتى من أجلها
– دعنى
– إلى متى؟
وصمت قليلا قبل أن يكمل وبحسره وكأنه لا يصدق.
هل نسيت أننا قطعنا وعداً، وعلينا تنفيذه.
– هل تصدق ما تقول؟
– نعم.. من أجلها... من أجل الطفل الذى يجب أن ننجبه
– مصطفى.. أنت
ولم تكمل.. ربما خشيت أن تقول ما يغضبه، أو ما يخيفه، على الرغم من أنها تستطيع قول أشياء كثيره، ولكنها آثرت أن تصمت
مد يده فأمسك يدها برفق.
– هيا.
ولم تستجب، وفكرت أن تنزع يدها من يده، لكنها لم تفعل.. هل قررت أن تنفذ ما تعهدت به أم لم يكن أمامها سوى التسليم والإذعان.
قامت معه، وسارت إلى جواره صامته، وكانت خطواتهما مترنحه فاقده للسبيل، مدفوعة بنبضة حياة قد غادرت الدنيا
سارا فى طريق العودة الى القريه، كانا فى مهمة صعبة من أجل إنجاب طفل لطالما حلمت به عائشة، ومن أجل عائشة كانا عليهما فعل أى شيئ
عام مضى منذ قطعا الوعد لعائشة، حين أقسما أن ينجبا طفلا يرث جمال جانيت واخلاص مصطفى، وفطره هذا الوطن المسكون بالخوف.
حين نطقا وعدهما، لفظت هى آخر أنفاسها، واسترخت يدها المدماة، لم يبكيا، ولم تهطل دموعهما، بل قاما بلف الجسد بالقماش الأبيض، وزفوه إلى اللحد، فى يوم كان المطر يغسل طل شيئ إلا حزن القلوب.
وصلا إلى أول القرية، وانعطفا فى درب صغير متجهين إلى الدار.
كان الليل قد حل فانقطع الماره عن الطرقات، وعربدت الريح على واجهات البيوت والشرفات، وأسقطت من أشجار البرتقال ثمارها، فتدحرجت الحبات الحُبلى بالسُكر إلى الأرض، وقنوات المياه.
– لا أريد
قالت وهى تتوقف عن الدخول إلى الدار، وتطلعت إلى وجهه بضعف
– إننى مازلت أراها واقفه فى الشرفه، تنشر الملابس المغسولة تماما مثلما تمنت وحلمت، كانت تقول لى جانيت أختى وحبيبتى كم أتوفَ إلى أحضان مصطفى، سوف أكون أما لأولاده، وحين يخرج إلى عمله، سأبدأ عملى فى الدار، أكنسها، أرشها، أغسل الملابس وأنشرها فى الشرفه
– هيا
– لا
– أرجوك.. إن هناك من يقف خلف نافذته ويراقبنا
– تمنت أن تضمها، وتحنو عليها، وكنت أقول لها أننى ايضا أحلم أن يضمنى جورج، وأن أصبح أما لأولاده.
– لنكمل حديثنا فى الداخل، أنت الآن زوجتى ويجب أن تطعيننى.. ولو من أجلها.
– من أجلها..؟ لقد تزوجتك من أجلها.. ولكننى لا أستطيع أن أكون زوجتك ولا أم أولادك
عندئذ، دوت فى المكان أصوات طائرات تعبر السماء، فارتعبت جانيت وارتمت فى أحضانه ثم ارتدت بعيدا عنه.
كانت الطائرات تعبر دائما القرية، قد تقذف من وقت لآخر إحدى الدور فتهدمها، وتقتل من بها، وصار الناس يعيشون فى انتظار تلك اللحظة التى يرتقون فيها إلى ملكوت السموات، وترسخ لديهم أن الموت مثل كل شيئ يمارسونه، مثل الطعام والشراب وربما اللعب
– لندخل الآن.
وعلت نبره صوته قليلاً
كانت عائشة لاتتحدث إلا عنه، وكانت جانيت لا تتحدث إلا عن جورج وكلتاهما عاشقة، وكلا من الرجلين عاشق، والجميع يعشق الأرض والوطن.
وكانت القرية تعرف كل شيئ عنهم، عائشة وجانيت، وعشقهما لبعضهما وعلاقتهما القوية، الفتاة المسلمة الجميلة بملامح تشبه ملامح العذراء فى أيقونات الكنائس.
وجانيت الفتاه المسيحية الفاتنة بملامح الأوربيين، كلتاهما لا تترك الأخرى
وكان جورج قد غادر إلى فرنسا ليكمل دراسته، بينما بقى مصطفى يزرع أرضه، ويناضل من أجل إتمام زفافه بعائشه
– هيا ياجانيت.. أرجوك.
وانصاعت لطلبه، ودخلت خلفه إلى الدار، كانت قد زفت إليه منذ عدة شهور، وبعد استشهاد عائشة بعدة شهور، حدث كل شئ أمام أعين أهل القرية، ولم يكن الأمر باليسير فقد مانع أهل جانيت ورفضوا زواج ابنتهما الوحيدة من رجل مسلم، لكنها أصرت على ذلك
دخلا إلى الدار، وجلسا يواجه كلا منهما الأخر فى صمت ووسط ظلام مقدس، تتسارع دقات قلباهما، ويتقلبان مع ومضات الذكريات.
كان قد حدد موعد زفافه بعائشة، وذهبت جانيت لتساعد العروس فى التزين، دخلت الى حجرتها على أطراف أصابعها لتفاجئها وتحتضنها فى فرح طفولى، وارتفع صياحهما.
وعبرت عائشة كحوريات الأساطير، تؤطر وجهها هالة من ضوء لا يُرى إلا بالقلب
وانسكب الضياء من ابتسامتها، فتوهجت فى الكون ألوانا من ابتهالات النجوم
– ياأجمل عروس رأتها عيونى. أدعو الرب الكريم أن يديم فرحك.
قالت جانيت وهى تلثم جبهه عائشه، وتتطلع فى عينيها بعينين صادقتين ثم سألتها.
– ما بك؟
– قلبى يشعر بشئ من الخوف
– أنت هكذا دائما لاتستطيعين الفرح
– الأمر ليس بيدى.. صدقينى
– زفرت جانيت ثم قالت:
– لتأملى خيراُ، فالرب عظيم للغايه
– أعلم
وتطلعت عائشه إلى السماء عبر زجاج النافذة، فرأت حمامات بيض تطرن فى دائرة، وتحوم بحثا فى شيء، فأوجست خيفه
– ثم عادت إلى جانيت وسألتها
– هل جاءتك رسائل من جورج؟
أجابتها جانيت ساخره
– كعادته يطلب ويلح أن أسافر لنتزوج هناك
– وأنت لا تريدين أن تبرحى القريه
– أنا لا أستطيع ياعائشة، لقد ولدت هنا , وعشت وسأكمل ماتبقى لى هنا، وسأدفن هنا، لن أتركها لليهود
عندئذ ابتسمتا، واحتضنت كلا منهما الأخرى
– ألن تأكلى شيئا؟
سألها مصطفى كى تعود من شرودها، هزت رأسها نفيا
– أذهب أنت وتناول شيئاً
لم يعلق، والتزم الصمت
كان عائدا من حقل البرتقال حين قابل الشيخ صالح.
– ولد يامصطفى.. أليس زفافك هذه الليلة؟
– نعم ياعماه
– ما الذى كنت تفعله فى الحقل؟ إن لبدنك عليك حق.
– ومن يقوم بعملى؟
– عملك هذه الليلة ليس فى الحقل.
وضحكا، واستكمل مصطفى طريقه ليستعد للزفاف.
– سأقوم وأعد لك العشاء
– لا عليك ياجانيت فأنا متعب وليس لدى رغبه.
قامت جانيت بتخضيب أطراف عائشة بالحناء، ألبستها ثوب الزفاف الأبيض، زججت عينيها بالكحل الحجازى
– كحل عتيق
– نعم.. أورثته لنا إحدى الجدات.. أتت به من الحجاز حينما ذهبت إلى الحج كان هذا قبل مجئ اليهود
– والأن لنضع الطرحة
وضعت الطرحة على ليل شعرها، ولثمت جبينها هامسه بقلبها
– ليباركك الرب.
ومن الخارج أتت جلبة فسألت عائشه
– هل جاء مصطفى؟
– سأذهب وأعرف.
وخرجت جانيت سريعا لتستطلع الأمر، سألت فأجابوها أن العريس فى الطريق ومعه الأقارب والأحباب، همت أن تعود لتخبر عائشه ولم تكد تخطو خطوة تجاه الدار حتى كانت الدار قد تحولت الى كتلة من النيران.
كانت طائرة اليهود قد قذفت صواريخها تجاه الدار، والأحلام، وكل جمال الكون، وترانيم الروعة
سقطت عائشة داخل الدار، واشتعلت النيران فى جسدها، وسقطت جانيت خارج الدار، واشتعلت النيران فى قلبها
وأسرع الخلق إلى الدار، فتحول الدرب إلى ساحة من ساحات يوم الحشر، ومابين صراخ وبكاء وعويل، وذهول مقيم تقلبت الأفئده، وأسرعت الأيادى تبحث عن الطهر وسط الحطام
وخرجت عائشه وقد تدنس ثوب زفافها بحقد اليهود، خرجت بوجه قد أذابت النار ملامحه، وبعينين تبحثان عن جانيت ومصطفى.
أسرعوا بها إلى المستشفى، كانت بقايا الروح تترنح وهى تخرج، لكن العقل كان ثابتا.
قالت لجانيت يوماً
– لو حدث مكروه لى، تزوجى بمصطفى، أنجبا طفلاً يحمل من ثلاثتنا أشياء لتظل مقيمة حيث وُجدنا وعشنا وحتى لا نمحى من ذاكرة العالم
– علقت جانيت
– أيتها المجنونه.. لسوف تنعمين بالزوج والطفل فكفى عن أفكارك السيئة
وقالت لمصطفى
– أوصيت جانيت أن تتزوج بك إذا ماحدث لى شيئاً
فعلق ساخراً
– وما رأيك أن أتزوجكما معا، من أجل الوحدة الوطنيه
كانت عيناها تقولان لجانيت ومصطفى أن يقطعا على أنفسهما وعدا لها بالزواج وانجاب الطفل
– جانيت.
– مصطفى
نادى كلا منهما الآخر، بلا صوت، ووسط صمت قاسٍ، وأدرك كلاً منهما أنهما تزوجها من أجل الوفاء بوعدهما لعائشه، ولكن أن ينجبا طفل فهذا الأمر من أجل الوطن.
مد يده وجذبها إليه، أجلسها بجانبه، كان أزير الطائرات يقترب حاملاً الموت. قال.
– ربما سنموت بعد لحظات وندفن فى هذه الأرض.
قالت:
– ربما
قال:
– لكن.. لو كان لنا طفلاً فربما يعيش، ويعمر هذه الأرض
قالت:
– ربما
– سألها
– ماذا نسميه؟
قالت وهى تسند رأسها على كتفه، وتحيط خاصرته بذراعيها
– دعنى أفكر.