ظلّها من بعيد
تحت مطرٍ قديمٍ يشبه صوتكِ،
كنتُ أمدّ يدي إلى الهواء،
لعلّي أقبضُ شيئًا منكِ،
شيئًا من دفءِ الذي كان يملأ البيت،
حين كانت رائحةُ الطبخ
تعلو مثل صلاةٍ صغيرةٍ من مطبخكِ إلى السماء.
كان البخارُ على زجاج النافذة
يرسمُ ملامحَ وجهكِ كلّما اشتقتُ،
وكنتُ أكتبُ عليهِ اسمي،
ثم أمسحهُ خوفًا من أن يراكِ أحدٌ غيري.
تحت المطر،
أتذكّرُ القطةَ التي كنتِ تُطعِمينها آخر الليل،
وكيف كانت تلتفّ حول قدميكِ
كما ألتفّ أنا حول حكاياتكِ القديمة.
كلُّ شيءٍ منكِ كان يتركُ أثرًا:
الوشاحُ على الكرسيّ،
القدحُ الفارغُ الذي نسيَ أثرَ شفتَيكِ،
المرآةُ التي ما زالت تحفظُ ضوءَكِ،
حتى الأبوابُ التي كنتِ تفتحينها بيدٍ ناعمةٍ
صارت تُفتحُ بصعوبةٍ بعدكِ،
كأنّ المفاتيحَ لم تعُد تعرفُ الطريق.
أتذكّرُ وداعي لكِ في المطار،
كيف انكمشَ العالمُ في لحظةٍ،
كيف صارَ صوتُكِ المطرَ كلّه،
وكيف صار حضنكِ المظلّةَ الوحيدةَ التي لا تُغلق.
كنتِ تلوّحين،
وكلّ ما فيكِ كان يودّعني إلا عينيكِ،
كانتا معلّقتين بي،
كأنّهما تخافان أن أفلتَ من الدعاء.
يا الله،
كم في المسافةِ من وجعٍ حين لا يُشاركُكِ أحدٌ الوداع،
وكم في اللقاءِ من نشيدٍ حين تمتدّ يدكِ نحوي
وتقولين شيئًا لا أسمعه،
لكنّه يوقفُ دمعي.
كبرتُ…
صرتُ أضعُ رأسي على وسادتي
فأسمعُ أنفاسًا ليست لي،
كأنّكِ تمرّينَ بين الغرف،
ترتّبين الوقت،
وتهمسينَ: نامي، الدنيا بخير.
حين يطلُّ الصباح،
أشعل قهوتي وأشمّ رائحة الهيل،
وأشعر بأنّ الضوء يعود إلى الغرفة،
كأنّكِ هنا،
تدعمين أيامي بصمتكِ،
تمدّين العمر في جسدي،
وترفعين قلبي فوق كل وجع.
يا امرأةً لا تشيخُ في الذاكرة،
يا مَن تسكنينَ ظلي كلّما غابت شمسُ المسافة،
يا سرَّ الضوءِ حين يخفتُ العالم،
كلَّ ليلةٍ،
قبل أن أنام،
أرفعُ وجهي نحو السماء
وأطلبُ بهدوءٍ،
أن يطولَ فيكِ العمر
يا أمي…
ليبقى قلبي مطمئنًّا.
