عاشق البطيخ
(تخليدا لذكرى الفنان فتحي غبن)
"لا أنكر أنّني فخور بكوني من مواليد الجحيم .. هاجرتُ مع عائلتي على درب آلاف العائلات الفلسطينيّة المشرّدة، وسط همهمة الكهول وزمجرة الرّجال وصراع الأطفال وعويل النّساء. هاجر الشعب تاركاً وراءه آثار أقدامه الغائصة في الأرض وشجر الزيتون الحزين، وهو يسمح للحمائم الجاثمة فوق أغصانه أن تغادر عشّها. هاجر السلام من فوق التراب الفلسطيني ليترك وراءه شرارة غضب تتجسّد في بركان .." - (فتحي غبن - الرسام الفلسطيني المعروف).
أين وصل بك ترحالك وتشرّدك يا فتحي؟ أما قطَعتْ سفينة صبرك شاطىء غزة ويمّها الغاضب الهائج؟ أم أنها لا تزال ترسو على الشّاطىء حائرة بين الأمواج تنتظر الفرج والعودة الى "هربيا"؟ هربيا، اسم جميل للقرية التي هي مسقط رأسك يا "فتحي"، والتي هُجِّرت منها من فردوسك المفقود، مع أسرتك، عام النكبة الى قطاع غزّة، الى مخيّم جباليا.
عجوزك تقف خلف السّياج الشّائك تمسك طفلك لتشحنه بتاريخها وقصصها الملوّنة، مشيرة الى داخل السّياج حيث كانت "هربيا"، والطفل يبحلق بأقصى ما استطاعت حدقتاه متأمِّلا بالآتي الـمُنير، ومنفعلاً مشحوناً مسحوراً تائهاً بالماضي الغامض الرّمادي، وزوجتك تتوكأ على جذع شجرة، حزينة كأنّ دهراً من الـمُعاناة والصّبر والانتظار مرّت على ملامح وجهها الذي أضاءته شمس غزّة بالأبيض الربّاني.
ما ذاك الجواد الجامح الذي تريد أن يطال السّماء بثورته؟ وما ذاك الفارس الغاضب وقد امتطى صهوته، وقبضته مغلقة بإحكام، مرفوعة الى أعلى لتُطاوِل النّجوم؟ ما ذاك الجمل الصبور الذي يسير على رمال غزّة الحارقة، يداه رِجلا امرأة فلّاحة صامدة، ورجلاه رجلا فلاح غزّاوي صبور، وسَنامه العالي الذي يطاول أشجار النّخيل، هو وجه تلك الفلّاحة، وذاك الفلاح.. ثلاثتهم نُحتوا قطعة واحدة تُجسّد الصبر بأسمى معانيه..
"مات ولدي البكر .. ولكن أولادي ثمانية.. مات أثر مرض عضال وهو في ريعان شبابه.. هذه المرة لم يكن الاحتلال سبباً في الموت في غزة.. ولكي أخفّف عن نفسي وطأة المصاب تخيّلت انّه أحد ضحايا المخيّمات المزروعة على أطراف الوطن الصغير، فحيث يكون الموت جماعيّاً يكون المصاب أخف وقعاً على النَّفس، فالموت بين الناس نعاس، وهكذا خفّفت عن نفسي وقع المصاب الأليم.. وما كدت أخفّف عن نفسي وقع المصاب، فإذا بابني الثاني يسقط شهيدا مع آلاف الشهداء، فكيف أستطيع أن أخفّف عن نفسي بعد كل هذا الكم الذي لا يُحتمل من مصائب؟ أشعر بالاختناق.. أريد أن أتنفّس، وما من مجيب" فتحي.
تابِع الرسم يا فتحي، فالرّسم مثل المسرح، مثل باقي الفنون يجعل الآخرين جزءاً منك وجزءاً من مأساتك، ومَن شاركه النّاس مصابه هانت مصيبته.. تَفنّن في خلط ألوانك الأربعة البطّيخيّة المحبّبة اليك، فليس عيباً أن يكون الإنسان عاشقاً للبطّيخ، وخاصة في عزّ الحر وعز الموسم. رسوماتك ليست ألوانا بطّيخيّة فحسب، بل هي الوان بلادنا الصارخة بالأخضر والأحمر والأبيض والأسمر..
أما تخيّلت مرّة وطنك بطّيخة؟ في رحمها الأحمر تسبح الأجنّة السوداء، مسيّجة بسياج طاهر البياض، وتتستّر بعباءة خضراء تلفّها وتزيّنها.. ما أروعها، إنها وطن بأكمله، واذا كبرت اكثر تصبح العالم بأسره أو كرة أرضيّة بطّيخيّة صيفيّة لها نكهتها الخاصّة اذا ما جمعت صفات سهل البطّوف شمالاً وشاطىء غزة غرباً وحرارة الغور شرقاً ورمل سيناء جنوباً..
أيُعقل أن يُسجن "عاشق البطيخ" لستة أشهر لأنه علّق رسوماته البطّيخيّة على جدران وطنه؟ لقد زرعها بعرق جبينه وجعل ألوانها الأربعة تتفرّع وتتوالد وتنتشر على ثنايا لوحاته بشكل صارخ غاضب ثائر ومنفعل، كأنها تريد أن تتفجّر وتفجّر مَن حولها وتنطق ما بها..
قالوا له: رسوماتك تحريضيّة.. انك دائما تستعمل الوان العَلَم الفلسطيني فيها..
قال لهم: انها الوان وطننا، انها الوان كل الأعلام العربية، فلماذا أخافتكم الواني؟ أعلام مصر ترفرف الى جانب أعلامكم فوق تل-أبيب، فلماذا لا تخيفكم؟ أم يا ترى انكم جعلتم ألوانها " كالحة " و "مهجّنة " و"مبَندَقة" بشكل يليق بـ"سلامكم المنشود"؟ البطيخة يا سيّدي فيها نفس الألوان، فلماذا لا تصادرون كلّ بطيخ بلادنا الحبلى بالبطيخ؟ ام انكم "هجّنتم" البطيخ لتغيروا الوانه الأصلية التي نحبّها؟ لقد حوّلتم بذرته السّوداء الى بيضاء لتحرموني احد الواني الأربعة. بطّيخكم الجديد المجدَّد هذا يا سيدي ليس أصليّاً. انه تركيبة مزيَّفة، لا نكهة فيها ولا شكل لها.. بطيخكم الـمُبَندق الـمُهجَّن الـمُرَكَّب يا سيدي، والذي ألبستموه بيجامة مخطّطة بالأبيض والأخضر بدلا من بدلته الخضراء الصارخة الأصلية والرسمية، يحتاج الى النكهة الأصلية التي فرضتها عليه أمُّه الأولى..
إنها بلادنا يا سيدي، بلاد البطيخ والحليب والعسل، وأما انتم يا عاشقي البطيخ أقول لكم:- ضعوا بطّيخة صيفيّة في بطونكم واهضموها بسرعة قبل أن تُقدَّموا للمحاكمة تحت طائلة قانون الطوارئ الحربيّة..