"عبيد" الحرية
ليست الحرية أن نستطيع ما نريدهبل أن نريد ما نستطيعهجان بول سارترالنساء يفبركن لأنفسهنّ قيودالم يكن الرجل ليرغب تكبيلهنّ بهاسيمون دو بوفوار
بعد ست وعشرين سنة على موت صاحب "الكائن والعدم"، وعشرين على غياب صاحبة "الجنس الثاني"، لا تزال العلاقة الأسطورية التي جمعت الكاتبين الفرنسيين الكبيرين سيمون دو بوفوار وجان بول سارتر، وامتدت طوال ما يزيد على خمسين عاما، تثير فضول الباحثين والقراء على السواء.
نرجسيّ، أنويّ، عاشق نفسه: هكذا هو الكاتب، وإن في درجات متفاوتة من التصعيد، قد تراوح بين امحاء الذات الكامل وراء غرور الكلمة، وجنون العظمة ونفي الآخر وإلغائه. فهل تحتمل نرجسية الكاتب العالية أن يقدّم "تـنازلات" تخدش أنانيته المعلنة أو الكامنة؟ هل يقبل الخلاّق اقتران صورته بخلاّق آخر يـشكّل ربما تهديدا لكيانه و"ألوهته"؟ وكم يحتمل الحب من تحديات وتسويات قبل أن ينقلب الى وجهه الآخر، الكره؟ أين تبدأ الحرية بين رجل وامرأة متحابين وأين تنتهي؟ هذه هي بعض الأسئلة التي تراود المرء إذ ينحني مجدداً على قصّة بوفوار وسارتر، وهي قصّة أريق فيها حبر كثير وتناولها عدد كبير من كاتبي السيرة، آخرهم الأميركية هايزل رولي في بحثها الممتاز، "وجهاً لوجه"، الصادر حديثاً بالفرنسية لدى دار "غراسيه".
منذ لقائهما الصاعق عام 1929 الى حين وفاة سارتر عام 1980، عقد الكاتبان ميثاقا غراميا قائماً، بالنسبة إليهما في الأقل، على مفهوم "الإخلاص الحر": اتفقا على ان يسمح الواحد منهما للآخر بإقامة علاقات جنسية وعاطفية موازية، شرط الشفافية المطلقة بينهما وانعدام الخبث والاسرار، درءا لوحش الغيرة وبشاعة الغدر. هكذا عاش الاثنان عددا لا يحصى من العلاقات، منها العابر ومنها غير العابر، قد تكون أبرزها علاقات جان بول بسالي سوينغ ودولوريس فانيتي ولينا زونينا، وعلاقات سيمون بنلسون ألغرن ورينه ماهو وجاك لوران بوست. الا أن كل واحد منهما ظل الشريك الأساسي والمحوري والأقوى في حياة الثاني، وحرص على قول "كل شيء" له عن حيثيات مغامراته، حتى التفاصيل الصغيرة "المزعجة" والمحرجة فيها.
في ظل هذا الميثاق "المثالي" من خارج، عرف الثنائي مراحل من "الشرقطة" والتحفيز المتبادلين أعطيا الأدب والفكر الفرنسيين الكثير. خمسون عاما من التواطوء والتقدير والتفاهم والصداقة و"الخداع المكشوف" والشغف والخلق والمزاجية، كانت فيها مراحل طويلة من التناغم والتواصل والانسجام تتعاقب مع فترات قليلة جدا من الصدام والتباعد والخصام. الاثنان "صادقان" حدّ تعذيب الذات والآخر. الاثنان مجبولان بتراب باريس ومائها وكلماتها. الاثنان موهوبان ويكرسان كل حياتهما للكتابة. لكن التوتر الايجابي بينهما كان يتحوّل أحيانا نوعا من الحرب النفسية بسبب دينامية هذا التواطوء وذلك "الميثاق" الغرامي الغريب الذي أصرّا على احترامه، احتراما للصراحة والحرية، على قولهما، وترسيخاً لعلاقة من نوع جديد، بلا قوانين، بلا حدود ولا تابوهات.
"أخونك بمعرفتك": قدّم سارتر وبوفوار هذه "الفلسفة" على أنها المعادلة السحرية لإنجاح العلاقة بين اثنين وحمايتها من كل تهديد يتربص بها. وعكسا طوال حياتهما قابلية هذه المعادلة للنجاح، في الموازاة مع "التزام" الكتابة. لكن الباحثة هايزل رولي تكشف في عملها الجديد أنه باسم هاتين الصراحة والحرية بالذات، باسم هذا الانتصار "الوهمي" على الغيرة، كانت العلاقة ممسوخة وغير متكافئة، فعانت بوفوار من جهتها الأمرين بسبب تعلقها بسارتر وخوفها الهوسي من فقدانه لصالح احدى "غريماتها". من جهته كان سارتر يخفي حقائق كثيرة عن بوفوار ويكذب عليها غالبا. بذلك يكون الكاتبان خدعا نفسيهما طوال حياتهما، وخدعا الآخرين ايضا وخصوصا.
ليس هذا فحسب. بل تسبّب هذا الميثاق، الذي أعجبت فيه وحاولت اعتماده كوبلات كثيرة من بعد سارتر وبوفوار، بمعاناة عدد هائل من الرجال والنساء الذين نشدوا في شرط الحرية المطلقة مفتاح الراحة من عذابات الغيرة في علاقاتهم، وإذا بهم يضحون أسرى حريتهم المنشودة هذه. صحيح ان مفاعيل هذه المعادلة السلبية غالبا ما طاولت النساء أكثر من الرجال، وان الرجل عرف كيف "يستفيد" منها ويستثمرها اكثر من المرأة، لكن كانت هناك استثناءات وبعضها شهير: الشاعر بول ايلوار مثلا، بدا انه شارك بـ"رضاه" زوجته غالا مع الرسام ماكس ارنست، قبل أن يخطفها منهما دالي لاحقا، لكن اتضح في ما بعد انه تعذب كثيرا جراء ذلك، على ما كشفت مراسلاته، وتبين أنه كان "يضحّي" فحسب في سبيل رغبات المرأة التي يحب. فكيف تستطيع أوجاع التضحية المبرحة ان تخدم الحرية؟ وهل في مقدور انتهاك العلاقة، حتى ولو كان انتهاكا متفقا عليه سلفا، ألا يتسبب بألم أحد الطرفين على الأقل، مثلما تتساءل الباحثة رولي؟
رغم أن المقارنات والتعميمات لا تصحّ في مسألة شديدة الخصوصية كالحبّ والعلاقات العاطفية، ورغم الكثير الذي قيل عن علاقة سارتر وبوفوار التي استقطبت الانظار، وعن غيرها من العلاقات التي ربطت بين كتّاب عبر التاريخ فمثّلت الأسطورة المتحققة والعلاقة الكاملة لجمعها بين "الغرام" الفكري والعاطفي والجسدي على حد سواء، سوف تظل الأسئلة الكبيرة المطروحة هي: هل يمكن ان تنسجم طقوس الكتابة المتطلبة مع طقوس العلاقة الغرامية التي تضاهيها تطلبا؟ ما هو "ثمن" نجاح علاقة بين اثنين، وهل ينبغي ان يكون هناك "ثمن"؟ أوليس بعض الصدق اكثر "نفاقاً" من الكذب نفسه؟
كثر هم الأحرار، الأحرار في الحب، الذين لا يحتاجون الى رفع شعار الحرية لكي يعيشوها أو لكي يُجلسهم حبّهم على عرشها. في المقابل، كثر هم الذين يرفعون شعار الحرية وهم في الحقيقة عبيدها: ما أسوأهم.
ترى كم للحرية من "عبيد" بإسم شعاراتها الفارغة؟ وكم من العشّاق "الأسرى" الأحرار، بفطرة الهواء غير المدرك أنه هواء وأنه حرّ؟