الثلاثاء ٢٠ أيار (مايو) ٢٠٢٥
بقلم إيمان زهدي محمد أبو نعمة

على قيد الموت

القصة الفائزة بالقائمة القصيرة في مسابقة ديوان العرب رقم ١١ دورة الصمود، والمقاومة، ٢٠٢٥

قال لي بنبرة تهديدٍ مرعبة:

 اعترف بالحقيقة و إلا مزقتك إرباً.

نظرتُ إليه بازدراء، كان ذو سحنة بيضاء، و شعر أشقر تشوبه خصلات من الشيب،عيناه تكادان تخرجان لالتهامي،عابس الهيئة في بذلته العسكرية ذات النياشين المزركشة، تجمدت الدماء في عروقي، و بدأت حفلة التعذيب التي تراقص فيها أبرع الجلادين بمهارة، حتى خارت قواي، و أضحيتُ عاجزاً عن مراوغة سلحفاة ميتة، مادَتْ بي الأرض، ولم تعد قدماي ترفعاني، بلغ بي الوهن مداه والضعف غايته، كنت كسارية من حديد صلب مستها نار مستعرة؛ فشرعت تتلوى رغم قساوتها، لأول مرة أضعف و ألتمس من جلادي شربة ماء، فقد جفّ حلقي ويبست حنجرتي واختنق صوتي، لم يؤذن لي برشفة ماء واحدة، حتى فقدت توازني بالكامل، ولم أعد أتحكم بعقلي، من الشاق تصوير حالي وقتها، فلا يقدر أي شخص سواي أن يشعر بعمق الألم الذي كنت أعانيه.

واصلت التقوض، فرجوت المحقق أن يسمح لي بالجلوس فأبى مستنكراً ذلك عليّ، كنت أشبه بالمتسول إذ لم يكن صحيحاً وصف ما أقوم به بالرجاء، بل كان استجداءً.

عرف السجان أنها فرصته المثالية لتوجيه الضربة القاضية فاستغلها حد الثمالة.

 اعترف أنك منهم وسوف أطلق سراحك (قالها بخبث)

قلت بحزم: لا لست منهم، لقد كنت محاصرًا في المستشفى التي أقبع بها بسبب إصابتي و هجموا علي و أسروني.
عاد لخبثه من جديد و هو يقول : أنت منهم إذن، لأنك مصاب و بالتأكيد أصبت أثناء اعتدائك على جنودنا.

علا صوتي و أنا أسأله: و هل أنتم قاتلتم من اعتدى على جنودكم فقط؟ أخبرني من الذي يقصف البيوت الآمنة ؟من يحرق الخيام البالية؟ أليس أنتم؟ هل احتوت على مَن يقاتلكم؟ أليس فيها أطفالا و نساء هربوا من الموت طالبين الأمان؟
أخمد سيجارته في جسدي المنهك و هو يقول : اخرس.. أنت منهم إذن..

أجبته و أنا أتلوى وجعاً : لستُ منهم و لكني أعجب من سؤالك و أنت تعلم أنكم تقتلون المدنيين الذين لا حول لهم ولا قوة.

 كلامك.. لهجتك.. قناعتك.. طريقة تفكيرك توحي بأنك منهم.

 لستُ منهم و لكني متمسكٌ بوطني و عارفٌ لقضيتي و موقنٌ بنصر الله لنا.. لكني لست منهم.

أمسك رقبتي و هو يغرز مخالبه بها : يبدو أنك بحاجة لمن يلقنك الأدب يا هذا.

ثم فتح الباب و تركه مفتوحا لكلب شرس ينهشني حتى شبع من لحمي، فصار القبر أحلى أمنية لي في تلك اللحظة، ليت الأرض تفعلها فتبلعني،أو السماء تستعجل أمرها فتتلقفني، لكني مع ذلك حاولت الثبات فما الحياة إلّا الحرية والعزة و إلا فالموت أحب لي.

اليوم سُلخت عن الحياة تماماً، وحدها الروح تعطي لجسدي الحياة، أما جسدي فقد بات كورقة هشة تتكسر، قبل سويعات، كنت أرى نفسي مثل خيل لا تنال منه السيوف ولا الرماح والآن سهم واحد يقتلني.

السجان الذي صرعته بصمودي أخذ يضحك ساخراً مني و أنا أتقلب بين أنياب الكلب التي تنهشني، استجديته شربة ماء أروي بها ظمئي فأتى بسرعة بكوب ماء و قربه من شفتيّ،فلما لامسهما سكبه أمامي على الأرض و هو يضحك ثم قالي لي ساخرًا :هل ارتويت يا بطل؟

ثم أخرج قهقهة ثقبت أذني، و دار حولي و كأنه يستلذ بالنظر لي و أنا أنزف دمًا و تعبًا، ثم قال صارخاً: أخبرني الآن هل أنت منهم؟

فقلتُ بما تبقى من قوتي : لستُ منهم، و يا ليتني منهم لأفوز فوزًا عظيماً عندما أشرب من دمائكم..

قلت هذا بقهر و غضب،ثم وقعت مغشيًا عليّ من وقع ضرباتهم العنيفة و صرخاتهم المقهورة من ثباتي..

دخلتُ على أصحابي متلاشياً، كنبتة تذوي حتى الموت،أحمل على وجهي وجعاً رسمته ساعاتُ التعذيب المتواصل، تجمهر علي الرفاق، سقوني ماء ثم مسحوا وجهي من آثار الدماء التي شوهته، لعل الموت كان شهداً لو قورن بما حصل لي للتو و بما تجرعته من حنظل، إن كان في الحياة ساعة تتجمع فيها الآلام كلها فقد كانت هذه الساعة التي مزقوا فيها بقسوتهم أوصالي، إنها ساعات ضالة لا تنتسب لتاريخ الإنسانية، كنت كمن يجلس في ساعة رمل محبوساً في زجاجة يعجزه الخروج من عنقها الضيق ويستمر تساقط ذرات الرمل عليه ليدفن تحته بلا أيّ مقاومة.

رغم ذلك كان يتملكني شعور جارف بالعزة ليس لأني صمدت أمام تعذيبهم، بل لأن المقاومة ترعبهم، تبطش بهم، أصبحوا يهلوسون بها حتى اعتقدوا أن شيخًا ستينيًا مثلي كسا الشيب شعره يكون مقاومًا شرسًا، ما لهم كيف يحكمون بل كيف يفكرون، يسجنون عجوزًا مريضًا مثلي و يتهمونه بالمقاومة و هو لا يستطيع تحريك كرسي من مكانه، كان عندي إحساسٍ البطولة والتحدي، لأترك مرارةً في نفوسهم لأنهم لم يستطيعوا إخماد عزيمتي، لن أخاف من الموت بسببهم، فالشجاع يموت مرة والجبان في كل يوم مرة، لا بل ألف مرة،ضحكت في ذهني عندما دارت هذه الأفكار في عقلي.

كنتُ أجلس بجانب رجل في الأربعين ملقى على الأرض بإهمال قد تلطخت ملابسه بالدماء من آثر التعذيب، عاجزاً كلياً عن الحركة، وقد شُلَتْ ذراعاه من قسوة ما لقي منهم، بدا ضعيفاً منهكاً لا يقوى على الكلام إلّا بصوت واهٍ خافت ضعيف إلا أنه كان يذكر الله و يشد من أزر الشباب رغم تعبه، و كان معنا شباباً بعمر الزهور ثبتوا في التعذيب حتى الموت، ما خانوا الوطن و ما باحوا بما حفظت صدورهم من أسرار، يريدون أن يرحلوا أنقياء يروون الوطن بدمائهم حتى ينال حريته، يريدون أن ينيروا المستقبل المظلم لأولادهم ليعيشوا أحرارًا لا سلطة للعدو في أرضهم.

الحياة في الأسر تغيرك كثيرًا، تشعر أنك على قاب قوسين من الموت، لولا جرعات الأكسجين التي تتنفسها لتبقيك حيًا على قيد الموت.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى