غابريال غارسيا ماركيز ورؤيته للحياة في روايته الأخيرة
إن "مذكرات مومساتي الكئيبات" هي أول رواية من الخيال الرومانسي، إن صح التعبير، لغابريال غارسيا ماركيز منذ عشر سنوات والتي كتبها وهو في ذروة نشاطه وعافيته أي منذ صدور روايته " الحب والعفاريت الآخرين" التي جاءت على شكل رواية قصيرة أيضا والتي كانت كناية عن رومانس مستحيل. لقد ملأ وقته إلى وقت صدور روايته الأخيرة أي بعد صدور رواية "الحب والعفاريت" بكتابة أول جزء من مذكراته: "يحيا ليروي القصة" وقد تم نشرها في الولايات المتحدة الأمريكية في سنة 2003. ولذا، ولربما من الطبيعي، بعد 10 سنوات من العودة إلى الوراء أنه يقدم لنفسه ولقرائه هذه الرواية الجديدة التي تلتفت إلى المستقبل وإلى الأمام لا للماضي أو الخلف.
يبدأ الراوي الصحافي المغمور والأعزب الدائم، الذي لا يعرف له اسم، قصته في ليلة عيد ميلاده التسعين بأنه قرر أن يمنح نفسه هدية " ليلة حميمية مع عذراء مراهقة". العذراء الصغيرة تقدمها عجوز كان من زبائنها في الماضي. هذه الفتاة تمتلك القوة الصامتة بجمالها النائم. ليلة الحب هذه تتحول إلى عام آخر. إنها سنة يعيشها ثانية في مذكرات سريعة حياته ومغامراته الجنسية وتجاربه وكان الحب يقربه إلى حافة الموت ليس من التقدم في العمر وإنما من حب حقيقي.
إن بطل وبطلة قصة "مذكرات مومساتي الكئيبات" هما رجل طاعن في السن يبلغ التسعين من عمره وفتاة ذات الأربعة عشر ربيعا. يتقابلان من فترة إلى أخرى في غرفة في بيت روزا كابركاس الذي يطلق عليه الرجل العجوز "مسرح الليالي" ويتخيل دائما أن الستائر لا تسدل أبدا. هذا الراوي (بطل القصة) كان العمر المديد من إحدى صفاته المؤثرة حقا. فهو لم يتزوج قط رغم أن الفرصة الحقيقية قد سنحت له، ومع أنه لا يزال يكتب في عموده الأسبوعي في الجريدة، لا يزال مصيره المهني أقل من النجومية.... (ولا يعتقد في قرارة نفسه أنه أكثر من صحافي مغمور.)
ومن بين الأشياء التي يفتخر بها : أنه لم يعاشر أي أمرأة مع أنه عرف أكثر من 500 دون مقابل. وعند التسعين من عمره، يريد مغامرة أخرى مع عذراء شابة. والفتاة التي أحضرت له هي عمليا لا تزال طفلة ولم تجر الأمور كما يجب في تلك الليلة أو كما توقع – لقد نامت ونام هو قربها طوال الليل. ولكن الفتاة غيرت فيه الكثير رغم أنه لم يعرف اسمها الحقيقي أبدا وبقيت علاقته بها طيلة الليالي التي نام بقربها غريبة ولا تخلو تصرفاته من الغرابة ولكنها في نفس الوقت كانت كافية لأن تجعل منه رجلا جديدا وكاتبا صحفيا لامعا أيضا.
إن القصة هي جزء من ذكريات الماضي ( والحياة التي لم تذهب هدرا تماما حيث انقضت في التسكع) والجزء الآخر هو اكتشاف رغبته الجديدة في حياة أتت مع ما يشعره حيال هذه الفتاة الصغيرة. لقد أيقظت مشاعره وذكرياته ليس كعاشق بكل ما لهذه الكلمة من معنى ولكن كشرارة لتخيله فهو يعترف قائلا: " أفضل أن تبقى نائمة".
إن حياته تم رسمها بسرور وعفوية هنا. يعرف الراوي أن ليس لديه الكثير ليفتخر به: ففي كل الحالات ستكون " رواية كل التعاسات لحياتي الخاطئة" ولكن مع الفتاة لا يظهر أنها خاطئة تماما على الرغم من أن كل الإنعكاسات تبقى محبطة وحزينة. هناك جانب مشرق الآن يتبين من الوميض الذي يمكن أن يرى في عينيه. الفتاة هي منقذته ولكن حتى في وجود تعقيدات كالمرأة التي ترتب له المواعيد فكان عليها مثلا إغلاق أو إنهاء مؤسستها لمدة ولم تساعده في إيجاد الفتاة التي لا يعرف عنها الشيء الكثير. ولكن محاولاته للعثور عليها تدفعه للحماقة ولكن أيضا تمنحه القوة.
وهذا الرجل التسعيني هو الأحدث في شخصيات غارسيا المتهالكة. يظهر من البداية على الأقل أنه عجوز قذر جدا. عندما يبدأ قائلا: "عندما أصبحت في التسعين، اردت أن أقدم هدية لنفسي عبارة عن ليلة حميمية مع فتاة عذراء مراهقة." افتتاحية عظيمة- ولكنها ليست من النوع الذي بعطي انطباعا جيدا عن المتحدث. فهو يكتب معرفا عن نفسه،لا يعير اهتماما لقرائه، ويقول: " أنا قبيح وخجول وخاطئ،" وأنه في مجرد البداية.
قد يكون الراوي قبيحا وضعيفا ورجلا مغمورا لا يعتد به ولكن سحر غارسيا يشع ويزيد من عنصر التشويق. فالراوي (البطل) القصير القامة والمشوش والمرتبك يشعرنا بأنه يمكن أن يكون راويا أكثر جاذبية. "مذكرات مومساتي الكئيبات" ليست شيئا قذرا أو رجلا عجوزا آيلا للموت ولكنها أكثر للعودة إلى الحياة كما أنها للحاضر وأنه لا يزال شيخا – إنها ليست مجرد مذكرات فقط وإنما إمكانيات تحمل بعض السعادة. وفي الغالب هذا الرجل ابعد من الاعتزاز والفخر وأبعد من الخجل ايضا. ولأن غارسيا لا يروي قصصه بشخصية الأنا ولأن القصة تثير حتما المقارنات بقراء لوليتا يمكن أن يتوقع أن هذا الكتاب الصغير أن يكون ابتعادا عن أسلوب الكاتب المعتاد أو المألوف – التهدئة ولهجة قصص ما قبل النوم ساعدته دائما على الفرار بالجريمة وأنواع الحب أيضا.
وبسبب الموضوع الرئيس (الوقت أو الزمن) في روايات غبرائيل غارسيا، ليس هناك قارئ لروايته الجديدة لا يستطيع أن يعي كمية الوقت الذي قضاه كاتبه على الأرض. فعندما نشرت "مذكرات مومساتي الكئيبات" بالإنجليزية، كان عمر غارسيا 77 سنة وهو لا يزال مستمرا في الكتابة ،كما هو عهده غالبا. يكت عن أناس توقف عندهم الزمن. لقد كان دائما مهتما كثيرا إما بكبار السن جدا أو بصغار السن جدا- لسبب أعتقده هو أن تجاربنا الأولى في الدنيا وآخرها هي التجارب التي تتوقف فيها مسارات حياتنا وتحول الإرتباك والتشوش الطويل في أيامنا إلى شيء ما يشبه القصص.
ولكن ليس كل هذا ما يريده غارسيا. إن براعته تكمن في الكلام غير المتوقع وفي صدقية الراوي. فهذا الشاذ الأحمق بطريقته الخاصة هو ثقة مثله مثل القديس أجستين لأن قصته شبيهة بقصة القديس في الحوار التحولي. منطقه في الكتابة هو تسجيل "بداية حياة جديدة في سن حين مات معظم الذين هم في سنه،" ما يعني بالطبع أن ليس لديه دافع ليكون شيئا إلا أن يكون أمينا جدا حول كرهه الشديد للحياة السابقة أي التسعين عاما حتى هذه الدقيقة التي "أضاع" قبل ان يرى النور. إن النور في هذه الحالة ليس إلهيا أو سماويا ولكنه فقط "معجزة الحب الأول في حياتي في سن التسعين،" موضوع عاطفته هي العذراء المجهولة ذات الجسم العاري التي تقدمها له روزا كابركاس Rosa Cabarcas: الفتاة التي تنام عادة عندما يأتي إليها والتي نادرا ما تتكلم حتى وهي يقظة وكذلك لا يمارس معها رغبته العضوية.فهو يقول: "أفضلها نائمة،" ويعترف أكثر أن " رؤيتها ولمسها يظهر أنها أقل حقيقة من مخيلتي." نعم، إن العذراء الشابة-التي أطلق عليها اسم ديلقادينا Delgadina على اسم فتاة في أغنية- هي خيالية وكما نعرف جميعا أنه لا أساس هناك لعلاقة طبيعية وصحية بين الإثنين.
إن حياة البطل تتغير بسبب البداية المتأخرة لعاطفة غير طبيعية وغير صحية. إنها الرومانسية النرجسية المثالية المؤلمة في المراهقة. والراوي يعرف كل هذا جيدا أنها خارج المضمون وهذا الحنين اليائس وكيف يكون غباء من رجل في عمره.
يقدم غارسيا ماركيز إحساسا جميلا بتغير الأوقات على مدى العقود التسعة والتراجع البطيء لبطولته عبر هذه السنين – وكونه أيضا خطأ ما جعل منه ذا أهمية فتم الإبقاء عليه في الجريدة لأنه هو الوحيد القادر على التعامل مع التقنية القديمة ونظرته التقليدية للاشياء جعلته نجما أيضا. إن بيته المتصدع وقطه المسن الذي أتاه هدية في عيد ميلاده يذكرانه بالحالة التي لا مفر منها وهو يحاول المحافظة على ممتلكاته المتبقية والحفاظ على علاقة من نوع ما مع مخلوق آخر. وفي الحالتين لم يلاق أي نجاح يذكر.
مشاركة منتدى
11 أيلول (سبتمبر) 2007, 11:17, بقلم علياء
كثيرا ما احاول ان اتمسك بنفسي حتى احتفظ بالوعي و باللاوعي عند قرائتي اي شيء لهذا الاديب الرائع لكن كثيرا ما افشل فهو اعظم من ان نملك القدرة على التحكم بانفسنا ...حقا لن ينضب الادب العظيم مادام هناك ادباء عظام.. تحياتي .علياء الخالدي .. العراق
19 آذار (مارس) 2008, 01:58, بقلم محمد العبودي
ماركيز حلم اخر يجعلني احلم محمد العبودي
19 آذار (مارس) 2008, 10:27
حقيقة غابريال رائع يلهب الخيال ويثيره بحوادث وتداخلات زمنية رائعة .. التحية لاهل العراق الذين يحافظون على القراءة رغم مابهم من بلاء
قديما قيل القاهرة تؤلف، بيروت تطبع ، الخرطوم تقرأ، لكن بغداد تفعل كل ذلك
عمر من السودان