الأحد ١٥ حزيران (يونيو) ٢٠٢٥
بقلم كنده عبده محمد عبدالدايم

غدر البحار

"حين تأخذنا الأمواج إلى المجهول، لا نعلم ما الذي ينتظرنا في الأفق… هذه حكاية فتى شجاع، تحدّى البحر وأهواله، باحثًا عن والده وسط العواصف والتيارات العاتية. في رحلته، سيواجه الخطر والخداع، لكنه لن يفقد الأمل ,و سيقاوم التحديات. فهل سينجو من غدر البحار؟ أم أن القدر يخبئ له مصيرًا آخر؟ "

إهداء:
إلى عائلتي، أساتذتي، وكل من فقد عزيزًا...
إلى عائلتي العزيزة، التي كانت دائمًا مرساي في بحر الحياة،
إلى أساتذتي، الذين أناروا لي الدرب بعلمهم ودعمهم،
إلى كل قلب تائه فقد عزيزًا وما زال يبحث عنه بين الأمواج…
أهدي إليكم هذه القصة، علّها تكون نورًا في ظلمة البحر.

فتحت عيناي، فوجدت أنّ العتمة و الظلام قد أحاطا بي من كل مكان، إلا أنّ تلك العتمة قد أُنيرت قليلا عندما وقعت عيناى على ضوء خافت في الزاوية. بحثت عن مصدر هذا الضوء فإذا هي نافذة صغيرة يكاد يدخل منها ضوء القمر. لقد كان مكتملا و منيرا و واضحا جدا.

لم أهرع أبدا، بل أسندت ظهري على إحدي زوايا تلك الغرفة الضيقة. تنهدت قليلا ثم أغمضت عيناي شاردًا في ما قد أتى بي إلى هنا.

بدأ الأمر في ليلة جميلة. كنت جالسا فيها بجوار أبي مستمتعا بقصصه التى يقصها علي، فقد كان أبي بحارًا كبيرًا، وكنا في كل ليلة جمعة نجلس في غرفتى ، و كان يحكي لي قصصًا عن البحارة و السفن و المفقودين و ما شابه ذلك.

كنت في كل مرة أنتظر تلك الليلة بفارغ الصبر ؛فلقد كنت مولعًا بعالم البحار و المحيطات، بل و كنت دائمًا ما ألحُّ على أبي ؛ليأخذني معه، ويبحر بي بسفينته، و كنت دائما أشعر بشعور غريب عندما أكون بجانب الماء، و حتى الآن أنا لا أستطيع تفسير ذلك الشعور.

لم تكن تلك الليلة كبقية الليالي؛ فلم يخبرني أبي وقتها أنها الأخيرة . في اليوم التالي استيقظت مبكرًا باحثًا عن أبي ، فلقد اعتدت أن أستيقظ باكرًا يوم الجمعة ؛لكي أودعه قبل أن يذهب للإبحار، حيث أنه كان يغيب بالأيام. أثناء بحثي، رأيت أن بيتنا قد اكتظَ بالناس. كانوا يرتدون الملابس السوداء، و يبكون كثيرا، و ينظرون لى بنظرة شفقة لم أفسرها.

لم أفهم ماذا يحدث ، و لم أكترث؛ فكل ما كان يشغل بالى هو بحثي عن أبي الذي لم أجده في البيت، و عندما سئمت من البحث ذهبت إلى أمي أسألها بكل براءة:" أين أبي؟ هل ذهب للإبحار قبل أن يسلم علي؟". انهارت أمي وقتها، وكانت دموعها تسيل كالنهر ،و عندها أمسك بي عمي و قال:"يا بني ...إن سفرة والدك سوف تطول هذه المرة". لم أفهم كلامه، و لم افهم لماذا قد تطول تلك السفرة؟ فلقد كنت وقتها في الثامنة من عمري.

لقد عشت بعدها في تساءلات و آمال على أن يعود أبي ، ولكن اتضح لي بعد ذلك أن أبي قد ذهب للإبحار مبكرا ،وعاصفة كبيرة قد أحاطت به حتى حطمت سفينته ،و للأسف لم يستطع أحدا إجاده.

في البداية كنت في صدمة كبيرة ، و لم أكن أصدقهم، فكنت في كل يوم أذهب لشاطئ البحر منتظرا أبي، ولكن أمي كانت تهرع، وتأتي لتأخذني إلى البيت في منتصف الليل. لم يتغير حالى أبدا حتى تعرفت على صديق أتى ليسكن بجورنا، وعندما علم بحالتى أشفق علي، وكان دائما ما يحاول أن يخفف عني وطأة ما ألمَّ بي .

في البداية لم أكن متجاوبا معه، ولكنه عندما سئم مني تلفظ بكلامات جعلت عقلي يعود إلى مجددا، و مازالت اتذكر تلك الكلمات حتى الآن حيث أنه في يوم من الأيام أتى غاضبا قائلا: "أتظن أن أباك سوف يعود إليك إذا بقيتَ على هذا الحال؟ أتظن أنه سيكون سعيدًا بأن يرى ابنه الوحيد ضعيفا هكذا؟ أفق يا "غيث" و قاوم حزنك ، فهذا هو قضاء الله".

و بالفعل أيقنت أن جلوسي هكذا لن يفيد بشيء ، فعلي أن أذهب و أبحث عن والدي. عندما سمع صديقي بقراري نعتني بالجنون كذلك أمي قالت لي:"إنك تمزح، أنا لن أدعك تذهب كأبيك".

في الحقيقة لم أبالي لكلامهم ،فقد كانت الفكرة مسيطرة على عقلي تماما. مرت الأيام و كنت في كل ليلة أحمل صورة أبي و أقول:و"لا تخف سوف أجدك لا محالة". و بعد بضعة سنين التحقت بالكلية البحرية بعد إلحاح كبير على أمي.

كنت دائما أركز في أدق التفاصيل أثناء تطبيق أي رحلة بحرية فلقد كنت أعلم أن رحلة طويلة تنتظرني، و مع مرور بضعة سنين تخرجت بتفوق، و لم أنتظر لحظة حتى أخبرت أمي أني ذاهب للبحث عن أبي، وقتها تشاجرت معي وحاول صديقي منعي، و بعد وقت طويل من الشجار أخبرتهم أني تنحيتُ عن هذه الفكرة، و الحقيقة عكس ذلك.

عندما أصبح البيت هادئا، و تحديدا في منتصف الليل، جهزت أغراضي و كتبت رسالة لأمي فيها ما يأتي:

إلي أمي العزيزة:

في الوقت الذي تقرأين فيه هذه الرسالة سأكون أنا في السفينة وسط الأمواج. لا تقلقي إنها أيام قليلة و ستجدينني عائدًا مع أبي، و عندها ستعود بهجتنا التى فقدناها منذ سبعة عشر عامًا."

وبالفعل انطلقت. لا أنكر أني في البداية كنت خائفًا ،و لكني كنت أقاومُ ذلك الخوف عندما أتخيلُ في عقلي أني جالس أضحك مع أبي، و استمع إلى قصصه الممتعة.

كان البحرُ في البداية هادئًا، و كنت أعتقد أن كل شئ على ما يرام، و أن تلك الرحلة ستكون يسيرة، و لكن في اليوم الثالث حدث ما لم أكن أتوقعه أبدا. فجأة و بدون أي سابق إنذار شعرت أن البحر بدأ بالغضب؛ حيث كانت الأمواج ترتفع أكثر فأكثر، و كانت الغيوم في السماء كبيرة و رمادية.

بدأت في تهدئة نفسي و قلت:"إنها أمواج بسيطة و سوف تذهب سريعا"، و لكن الحقيقة أن السفينة قد بدأت بالفعل بالميلان، وما جعل الأمر أكثر صعوبة أن الرؤية كانت شبه مستحيلة.

فورا بدأت بفتح الأشرعة و ضبط زاوية السفينة، و كنت أحاول جاهدًا المحافظة على توازن السفينة، ولكن باتت محاولاتي بالفشل حتى أوشكت على الاستسلام، ولكن سرعان ما تذكرتُ كلمات أبي وبدأت تتناقل في عقلي: "يا بني إن عالم البحار عالم كبير و مذهل، ويجذب أي أحد مغامر إليه، و لكن جانبه المظلم مخيف جدا، فهو خداع، وأمواجه غدارة فإن ثار بوجهك فلا تستسلم له و قاومه و اصمد أمامه وأظهر له قوتك، عندها تجده خاضعا لك، مجيبا لك و لسفينتك".أعطتني كلمات أبي دفعة قوية جعلتني كالجبل صامدا شامخا أمام تلك الأمواج، و فورا بدأت برمي كل الأوزان الثقيلة من على السفينة، وغيرتُ اتجاهها لتتفادى الأمواج، ثم تشبثت بأحد الزوايا القوية فيها.

لقد كانت من أصعب الليالي،و لكني نجوت، وقتها استلقيت في السفينة حتى أشرقت الشمس و عندما استيقظت وجدت نفسي محاطا بأناس غريبة المظهر، و مخيفة، وقفت لكى أدرك أين أنا فوجدت نفسي في جزيرة كبيرة و سفينتى مهلكة قليلا، و عندما حاولت التكلم مع أحدهم قال لي بنبرة حادة و مخيفة: "سوف نصلح تلك السفينة ونأخذها" . فقلت بغضب: "إنها ملكي فاتركوني و اتركوها " ولكن لم يستمع لي أحد و أخذوا سفينتي و أخذوني أيضا ,و ألقوا بي في قبو داخل سفينتهم .

اتضح لي أنهم قراصنة و متاجرون في تهريب العملات و الآثار، و عندما رأوني في العاصفة بسفينتي انتظروا لتهدء العاصفة ثم أتوا ليأخذوها.

مرت الأيام عصيبة و شاقة، وكلي أمل أن أجد أبي أثناء تلك الرحلة، و لكن حدث ما هو ليس متوقع، و هو أن تلك العصابة قد اخطأوا في تحديد مكان أحد التجارة مما أدى إلى القبض عليهم، و بالطبع أخذت لأني معهم و ها أنا الآن في تلك الغرفة.

قطع تفكيري صوت الضابط ينادي بحزم على المسجونين الجدد ليتحاكموا، فعندما التفت أنظر إليه وجدت أنه هو، لقد كان صديقًا هذا، كان متفاجئا و ينظر إلي بنظرة عتاب و لوم، ولكني لم أستطع التبرير.

أخذني صديقي إلى مكتبه؛ ليتحدث معى فقصصت عليه القصة، شعر بالغضب و الخوف علي و قال باستهزاء: "و هل وجدته؟" لم أستطع الرد، وكنت أنظر إلي الأرض، وللأسف حاول صديقي أن يخرجني لأنه يعلم أني برئ، و لكن لم يكن هناك أي أدلة تثبت براءتي فسجنت، و كانت حقا أياما عصيبة و شاقة صمدت فيها بكلمات أبي التى كانت تساعدنى.
و أخيرا مضت مدة السجن، وعندما خرجت وجدت أمي تنتظرني فلقد كلمها صديقي و حكى لها، و بمجرد أن نظرت إليها امتلأت عيناي بالدموع لأرتمى بصدرها باكيا.

عندما عدنا إلى البيت تشاجرت معى أمي كثيرا، و كان صوتنا قد علا كثيرا، فخرجت من البيت حزينا مكسورا. أنا أعلم أنها ليست مستعدة لخسارتى، و لكن لا أحد يشعر بما أشعر به من ألم و حزن ،فلقد ذهبت بسمتى منذ أن كنت صغيرا.

و بينما أسير، وجدت جامعا صغيرا. ذهبت لأنام فيه، وعندما أذن الفجر أيقظني إمام الجامع لكي أصلي، وكانت هذه أول مرة أصلي فيها منذ سنين كثيرة، فلقد ابتعدت عن الله منذ ذلك الوقت، و بالفعل لا يمكن وصف شعور الراحة الذي شعرت به بعد الصلاة.

قرر الإمام أن يخطب قليلا، فكأن تلك الكلمات كانت موجهة لي فقال: "الفقدان، الفقدان قد يكون من أصعب المراحل التى تمر على الإنسان، و لكنها اختبار من الله عجز وجل؛ ليختبر صمودنا و صبرنا على البلاء، فلا تحزن إن الله معنا".

وقتها عدت إلى البيت أفكر في هذه الكلمات، و عندما دخلت إلى البيت ذهبت إلى أمي و أسندت رأسي على حجرها باكيا بشدة حتى نمت. و عندما فتحت عيناي وجدته، لقد كان هو أبي، ركضت إليه مسرعا لأرتمى في صدره باكيًا فقال لي: "أنا فخور بك يا "غيث" فلقد صمدت و قاومت رغم صغر سنك."

كل ما كنت أفعل وقتها هو البكاء، و بعد بضع دقائق قام أبي ليرحل فقلت: "إلى أين؟ لقد بحثت عنك في كل مكان فأين أجدك؟ فقال مبتسما: نعم لقد بحثتُ عني في كلِّ مكانٍ، ثم أشارَ إلى قلبِه و قال : "إلَّا هنا".


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى