«غصن على شجرٍ» لجلال برجس
كأي غصن على شجر مجموعة شعرية لجلال برجس, صدرت في العام 2008 عن وزارة الثقافة الاردنية،حيث لاقت هذه المجموعة اهتماماً ومتابعة من حيث لغتها وأسلوبها الذي أكثر ما يميزه الروح الشفافة النقية التي يلمسها القاريء أثناء تنقله من قصيدة الى أخرى بحيث تضعه في عوالم تلامس عوالم القاريء ذاتها رغم لغة الرمز العالية واللعب على المتناقضات وإقصاء الموضوع الذي تميز به شعر تيار الحداثة ومابعدها،فالتوق للحرية بكل أبعادها لازمة انسحبت على كثير من القصائد ابتداء من العنوان الملفت للنظر فقبل أن اقرأ (كأي غصن على شجر) ألف معنى للعنوان تبادر الى ذهني، فقد رأيته عنواناً مؤهل لأكثر من معنى، رغم أن معنى الحرية هو أكثر المعاني قرباً لنفس القاريء قبل أن يفتح بوابة الكتاب ويتجول في فضاءه الواسع، أول قصيدة أتت في بداية مجموعته الشعرية كانت هي الاجابة لذلك السؤال الذي يطرحه جلال برجس وهي التي جاء عنوانها "إشارة" فهي قصيدة مليئة بالتمرد رغم شعوره بالقهر وضبابية الواقع وكل ما يدور حوله, اذ أنها قصيدة ساخرة من طراز مختلف اذا نظرنا اليها من زاوية اخرى، سخرية بطريقة أنيقة تليق بشاعر يرى الحياة من زاوية مهمة، فمن خلال انسياب الشعرية الجميل لدي جلال برجس، تاتي أشارته التي تحمل صوتاً واضحا فيه نسقاً شعرياً عالياً يؤكد على الاصرار والتمسك بحقه في الحياة، اذ يقول كما لو انه ينوه للقارىء عن شيء ما:
سأبقىرغمَكلِّ الذينَداستْ على جسديخُطاهُمْنقِيَّا
حيث نلاحظ هنا حالة تجاوز أكثر من انسانية وهو يخاطب الآخرين الذين لانعرف من هم بالضبط، لكن الشاعر يفتح لنا باب التأويل على مصراعيه ليبني كل واحد من قراءه فهماً خاصاً به- وهذا حال الادب والفن الحديثين- ثم ما يلبث الشاعر أن يحيل القارىء الى تجليات في غاية الروعة الشعرية وهو يرسم لنفسه صورة فيها من الانسانية مايدفع للدهشة، فهو يكمل قصيدته وقد اعطى للمتلقي نفساً جميلاً من رؤية الكون:
أُعَرْبِشُ الأقمارَ في روحيْوأغرِسُفي جراحي وردتينْ
اذ أن الحزن يصنع منه مسيحاً يتجاوز مرارة الواقع أملاً بفضاءات أكثر اتساعاً، وتأتي نهاية القصيدة تأكيداً على إشارته اذ يعود للبوح الذي ربما يستشف القارىء منه مغزى الشاعر:
سأبقىرغمَ من ظنّوا بأن اللهَلَهُمْوَحْدَهُمولداً تَقِيَّا
الطريقة التي ابتدأ بها جلال برجس مجموعته الشعرية من حيث انه افتتحها باشاره انسحبت على مساحة المجموعة بأكملها حيث جاءت طقوسه الشعرية مرهونة للغرابة والرمز،فهو يتجول في نصوصه الشعرية غامضا، ينوء بصدره حلم ولكنه يتلاشى في خضم عالم مترع بالتناقضات،ففي قصيدة (رسائل) التي بدت تحمل في مشهديتها طابعا سريالياً جميلاً, ينعكس تناقض ما حوله على نصه الشعري فيأتي حلمه على أهبة الغرابة نفسها:
أُذنٌ تنظرْوتحملقُ عبر الشبَّاكْتحاولُ رسمَ خيال ٍ ما:غيمشجرصدر امرأة ٍويد تختزلُ القضبان
فلنا ان ندرك في هذه القصيدة كم يتوق الشاعر لحريته التي تمثلت بالفضاءات عبر الغيم وبالطبيعة عبر الشجر وبالمرأة عبر صدر المرأة الذي أراده للبوح عبر البكاء وباليد التي تختزل القضبان فهذه الرباعية المؤلفة من الغيم والشجر والمرأة ويد الحرية هي حياة بحد ذاتها فالمرأة في شعر جلال برجس رمز يتكرر كثيراً، فهي عنده بنية أساسية للقصيدة كما هي بنية أساسية للحياة, اذ يتجلى ذلك عبر هذه المقطوعة الشعرية من نفس القصيدة:
لا أعرفُ
إنساناًيرسمُصدراً لامرأةبجدار الغرفةلينوحَعليهينوح ينوح ينوح ينوحإلاّي
هنا تأتي المرأة على شكل حلم له أن يخلصه من مرارات تحسها ذاته الشاعرة, فالبكاء هنا استجداء لحالة التوازن، اذ تتعدد مستويات قراءة هذا النص لكنه بوح جارح جداً يحلم بالضوء إزاء العتمة كما هو واضح في هذه القصيدة:
الضوءُطقوسُ الخصبلصبح الكهرباءوالعتمةُ رقص لتتارٍلمغولٍيأتون الآنالانَ الانْ
لكن عتمته هنا تحمل بعداً قومياً أيضا فإشارته للتتار تدل على ما يقع الان على أرض العراق من قتل ودماروخراب,الخراب الذي ينعكس على وعي الشاعر تماماً مثلما ينعكس على وعي المتلقي,اذ ان الشاعر هنا يرى الضوء خصب ونماء ويربط العتمة بالمغول والتتار الذين كان لهم سابقات تاريخية في الاحتلال والقتل والدمار,لكن طرح هنا الشاعر هنا ليس طرحاً مباشراً انما ياتي عبر تلميحاً شعرية يريد للقاريء عبره أن يبتكر قوله الشعري الخاص.
ففي قصيدته (وتر في ركام) يحلم الشاعر بحالة تجعلة قادرا على ترميم ما اعتراه الخراب,الخراب الذي أنتجة الحروب من أجل النفط بآلة العصر الحديث التي لاتعرف غير لغة القتل والبارود,فنراه يشد من أزر المتلقي وهو يقول عبر قصيدته:
تعالوانُضَمد ُ جرح َ الرياح ِونَرْتِق ُ خصر المدى
فهو يدرك حجم الجرح الذي حل بالعراق ويدرك أن المدى العربي بات مجروحاً كما لو انه يود أن يقول بأن جرح العراق جرح انساني وليس فقط عربي، ففي هذه الكلمات محاولة لاستنهاض المتلقي الى أمل جديد وشحذ همته بامل يقف بوجه التراجع رغم مجانية الموت:
تعالوا نلم ُّ نشيج َ الشموس ِ
نحيب َ المجرَّة ِعويل َ الكواكب ِونُهدي السكوت َ لرتم الصدى
ويرى جلال برجس أن الحقيقة ليست في تفشي لغة البارود أنما في انتشار اللغة الإنسانية التي هي الحقيقة الدائمة بعينها:
تعالوا
لِنُقنع هذا الخراب ِبأن الحقيقة َأوسع ُ من شاشة الرادارفي مرمى الأباتشي
كأي غصن على شجر, مجموعة شعرية تحمل في جعبتها كثيراً من القصائد التي تشي بحلم الشاعر ورغبته بشكل آخر للحياة, فالحلم جاء عبر المرأة والأم والوطن,مقولات شعرية أثثت صفحات المجموعة الشعرية,امتازت بلغتها الرشيقة وفرادة صورها الفنية وروحها التي بانت على سجيتها كما لو أنها صرخة ضد وحش يود أن يلتهم العالم.