فضاء ثقافي لتكريم الإبداع وصيانة الذاكرة
بين أزقة طنجة الصاخبة الملتوية وبين حواريها العتيقة الضيقة تطلّ مقهى (لحظات) كعذراء عفيفة عنيدة عصية على كل تحرش أو إغواء، أصيلة في روحها الثائرة، متشبّثة بجذورها الحية، معتصمة بألقها القديم الذي ورثته عن سحر التاريخ بكل تفاصيله. بصمات الماضي لا تبرح هذا الفضاء الملهم المحرك لحساسية الإبداع، ورائحة الأصالة والجمال تفوح منه باستمرار، بل تلتصق به وتلازم كل جزء من زواياه، وتوحي بتجدد خلايا الحياة. فضاء تاريخي حي نابض مسكون بالألفة ومطرّز بالبساطة، يغري رواده بارتشاف رحيق المتعة المنساب من كل جزء، وبتغذية العقل بصور الخيال الآسرة التي تبثها أبيات الشعر وأناشيد الروح وألحان خالدة تدغدغ نفوس الجالسين والحالمين والغارقين في يمّ الجمال. متحف حقيقي لتكريم الإبداع، يصارع النمطية والابتذال، ويكسر رتابة الزمن العقيم، ويخرق الاتجاه المألوف لسير الحياة. فضاء روحي وفكري وإنساني يتم فيه بشكل يومي تخليد أسماء وأحداث وإنجازات خالدة ومتجددة وشمت ذاكرة مدينة البوغاز، كما أنها ألهمت الفنانين والأدباء العالميين الذين استقروا بطنجة العالية زمنا ودفنوا تحت ترابها الندي. فضاء فريد يعاكس صخب الحياة الطنجاوية ويلونها بألوان التفرد والاتزان والتنوع البديع. على جدرانه تقرأ التاريخ وقد كتبت صفحاته بسطور واضحة وبلغة لا يفهمها إلا أهل الفن والأدب والذوق الرفيع. تخاطبك لوحة (محمد شكري) المنتصبة في شموخ، وتدعوك للحفاظ على الأمانة التي وضعها هذا الأديب العملاق على أكتاف أهل طنجة والمغرب جميعا. تلتفت إلى رفوف المكتبة فتسمع نداء إلهيا نورانيا خالدا يقول لك:( إقرأ ). تنتقل بين المرافق فتصاحبك ألحان المتعة وأنت تلمس البساطة في أجمل تبرجها وأبهى إغراءاتها.
جاذبية هذا الفضاء مغناطيس قوي يفتح ذراعيه لعشاق الجمال المبثوث في هذا الكون، يضم إليه الذين يحلمون بالممكن وينتظرون التغيير القادم، ويتجاوزون السائد المبتذل القائم. الذين ترنو أنفسهم إلى الآتي المنتظر، وتتطلع أفئدتهم إلى صورة أحلى لهذا الوطن؛ إلى وطن جميل أليف يستعيد جلبابه القديم ورائحة ترابه الأصيل الذي يتوارى قسرا خلف جدران البشاعة والميوعة والقيم العصرية. يبادرون إلى ترميم صروحه المتآكلة، ويزرعون فيها بذور الأمل، و يكتبون ملحمة التغيير بمداد قلوب عاشقة وفية لتركة الأجداد، قلوب ملتزمة تأبى الحياد.
في مقهى (لحظات) تجلس العيون المتطلعة إلى المستقبل، وتلتئم النفوس المسكونة بهاجس التغيير، ويرسم فيها الحالمون لوحات الحياة بألوان أصيلة ترفض الزائف ولا تطيق محاورته، وتعرض عن المبتذل ولا تقبل الانصياع له. تجتمع العقول المبدعة بين أحضان الأصالة التي يتسع الفضاء بجمالها وإن ضاقت جدرانه، وتنضح اللذة والمتعة فيها بانسياب وإن غابت المساحيق وكل أدوات الإثارة المبتذلة والزينة الزائفة. هناك تنتعش خلايا الذاكرة وتتداعى صور كثيرة وألحان ملهمة وحكايات من الزمن الجميل. هناك يستعيد المرء تفاصيل هويته ويحس بانتمائه، ويدرك بأن وجوده لا يمكن أن يكون عابرا في مدينة متفردة اعتادت على التميز في كل شيء.
(لحظات طنجة) صورة حقيقة تترجم قيم أهل طنجة البسطاء الأصلاء الذين يحبون التميز في بساطتهم، في سلوكهم، في نمط عيشهم، ويعتصمون بحبال أصالتهم على الرغم من انفتاحهم القوي على الحياة، ويعتبرون الانتماء مرادفا للوجود والكرامة بعيدا عن منطق الربح والثراء وصناعة الجاه. كما أن تواجد هذا الفضاء ب(المدينة القديمة) يعكس ذلك الارتباط المقدس بالجذور التي تزداد انغراسا وعمقا في الوجدان مهما تعالت ناطحات السحاب وامتدت الشوارع وتراقصت الأنوار وتبرجت مظاهر الحداثة. فالعودة إلى الأصل أصل كما يقال. هناك فقط يحس المرء بكيانه وقد بدأ يستعيد البهاء، وتتدفق فيه الدماء. فنعم هذا الخيار الحكيم العميق الذي آثر الاستثمار في صناعة الإنسان، في بعث الذاكرة، في تهذيب الذوق، في صيانة تاريخ مدينة بل وطن بأكمله، وهيأ المجال للفعاليات الثقافية والفنية لتمارس لعبة الإبداع بكل حرية وانطلاق، ولتمتع الآذان وتنعش الضمائر وتفتح الأنفس على الفعل الثقافي الجاد في زمن الإعلام المشبوه والكراكيز الورقية الجوفاء المنتفخة بالهواء. وشكرا لكل من صان هذا الصرح الثقافي البهي في مدينة البهاء السرمدي.