الأربعاء ٢٥ حزيران (يونيو) ٢٠٢٥
بقلم محمد عبد الحليم غنيم

فقط عشرون ثانية

بقلم: فرجينيا فاينمان

عندما أخبرتني أمي أن خالتي كلوديا قادمة من المكسيك، شعرت بالتوتر. كان الزلزال الأخير قد أثّر عليها، وكانت بحاجة لرؤية عائلتها. أكلتُ كثيرًا تلك الليلة. تقريبًا كل البيتزا. لم تلاحظ أمي ذلك، ولم تلحظ عدد المرات التي ذهبتُ فيها إلى الحمّام وعدتُ، وفي النهاية قلتُ لها:


 أتخيّل أنهما لن يناما هنا، صح؟
أجابت وهي ترمش
 لا... ـ ـ أعني، نعم، هي وحدها... العم لن يأتي.

هدأت، لأنني في النهاية كنت أحب خالتي، وكنت أشعر بالأسى لأنها تأثرت كثيرًا بالزلازل، وربما أيضًا لأنني، رغم مرور ألف عام، كنت في قرارة نفسي ما زلت أترقّب اعتذارًا. شيئًا ما.

كانت ستبقى أسبوعًا. فقلت لأمي ألا تقلق، وأنني سأجهّز وجبة ترحيب خفيفة: مخبوزات، وقُصاصات محشوة بالحليب المكثف المحلّى والكاسترد، أشياء غير متوفرة لديهم هناك.أومأت أمي موافقة.وقالت لي :
 يالها من فكرة لطيفة ـ
كانت الخالة كما هي دائمًا. بشعر أشقر طويل، رغم أنها كانت الآن امرأة كبيرة في السن.
قالت لي، رغم أنني أيضًا كنت سيدة كبيرة في السن. وربّتت على رأسي قليلاً :
 أدريانيتا ـ أنتِ دائمًا هنا.
جلسنا. فرشتُ مفرش الطاولة المصنوع من نسيج جوز الهند، وأحضرتُ أيضًا المفارش التي كنت قد طرزتها عندما كنت صغيرة في المدرسة. قالت أمي إنها لا تتناسب مع المفرش.
قلتُ لها:
 فكّرت في ذلك ، لكنني رغبت في وضعها.
نظرت إليّ قليلاً، لكنها تركتها. وذهبت إلى المطبخ.

كانت الخالة تمرّر يدها فوق تطريز الزهور البارزة، الزرقاء والبرتقالية، وتنظر عبر النافذة الكبيرة. عادت إليّ بنظرها، مركّزة عليّ:

أدريانيتا ، أما رغبتِ يومًا في العيش بمفردك؟
 بلى ـ
بدأت أضع القطع المحشوة بالحليب المكثف في طبق، جميعها مصطفّة باتجاه واحد ـ. أضفت :
 لكنني لم أستطع. كنت خائفة.
قالت، وقد أومأت برأسها مرارًا :
 طبعًا ، هذا مفهوم.
 أليس كذلك؟ كنت أريد. حتى إنني أحببت مرة. لكن بعدها بدأت تنتابني نوبات هلع. وهكذا أصبح الأمر صعبًا.
قالت الخالة:
 طبعًا.
 ربما لو كنت فعلت، لكان لي زوج... وأولاد، لكن لا بأس، أنا مرتاحة.
 نعم، عزيزتي ـ

كانت تبتسم وتنظر إليّ.

جاءت أمي.قدّمت الشاي لنا نحن الثلاثة، وسألنا الخالة عن حالها. كانت في حال سيئة جدًا. لم تعمل صفارات الإنذار الخاصة بالزلازل لأن الزلزال لم يأتِ من البحر، بل من تصدّع في الأرض. شعرت هي بالاهتزاز وبدأت تنزل عبر السلم. اتّضح أن المقاول كان فاسدًا، والسلم لم يكن مثبتًا، بل مستندًا فقط. كان أول ما انهار. لحسن الحظ كانت قد خرجت إلى الشارع.
 الذي عانى أكثر هو العم.
نظرت إلى أمي.
 العم!

تابعت خالتي بعينين شاردتين ـ بقي وحده في الأعلى. السلم كان قد انهار بالفعل، ولم يكن يعرف كيف ينزل. المصاعد ممنوعة. ثم اهتزّ المبنى من جديد، لعشرين ثانية إضافية، وكان العم ما يزال في الأعلى. ثم اضطر إلى الانتظار حتى وصل أفراد الإنقاذ، لأنه كان من الخطر النزول وحده، كما أن القوانين لا تسمح...

قلتُ:
 عشرون ثانية؟
 نعم، مسكين العم ...
 فقط عشرون ثانية؟
نظرت إلي أمي. تنهدت وكأنني أضحك.
 مسكين العم بسبب عشرين ثانية ؟
قالت الخالة وعيناها دامعتان
 نعم ـ ـ، أترين؟ مسكين...

جمعت الصحون بسرعة. مسحت كلًّا منها بمنشفة ورقية بقوة قبل غسلها. فتحت الماء على أقصى درجة حرارة، وبدأت أفرك الصحون جيدًا بالإسفنجة والصابون. دخلت أمي.
 أخذتها لتنام القيلولة، يجب أن ننزل بطانية، أنتِ أطول...
 أمي، ألم تتحدثي معها؟
 نعم، لكنها متعبة جدًا.
 ليس الآن. قبل ذلك.
 قبل الزلزال؟
 لا، عندما كلمتك ، عندما كلمتك عن العم.

فتحت أمي عينيها كبيضتين مسلوقتين وأغلقت الباب الذي يفصل المطبخ عن غرفة المعيشة.
 أنا...
بقي فمها مفتوحًا قليلًا، ثم نظرت إلى صنبور الماء وقالت :
 أغلقيه إذا انتهيتِ.
 قلتِ لي إنك أخبرتِيها، وإنها بكت. قلتِ إنك أخذتيها إلى حانة وأخبرتيها، وإنها بكت.
 لمّحتُ لها.
 كيف؟
 أننا كنا نثق به، وأننا تركناك معه ليعتني بك.
 و... لا شيء غير ذلك؟

جفّفت أمي يديها، رغم أنها لم تكن قد بللتهما، بمنشفة مطبخ وخرجت. قالت شيئًا عن الزمن، وأن الزمن قد مضى.قلت لها :
– لقد أخبرتك عندما تذكّرت!
لكن أمي كانت قد أغلقت باب المطبخ عند خروجها.
تركت الماء يجري. ثم أغلقت الصنبور بغضب.

كانت الخالة جالسة على الأريكة تنظر من النافذة الكبيرة. كانت قد ارتدت روبًا منزليًا لأمي، لونه أزرق سماوي. تدخّن ببطء شديد، والدخان يبقى قريبًا منها. قلت لها:
 صباح الخير ، هل ترغبين في شرب شاي الماتيه ؟
 نعم، يا حبيبتي، صباح النور.
أحضرت الأعشاب وبدأت أجهز الشاي.
 ما أجمل أظافرك يا خالتي.
 نعم .
مدّت يدها الحرة وأبعدتها قليلًا لتنظر إليها .
 هناك يعرفون كيف يعتنون بها جيدًا.
 تعلمين، البارحة، عندما ذكرتِ العم...
 نعم.
 ظننت أن أمي قد تحدّثت معكِ. منذ زمن. قبل أن تسافرا.
كانت الخالة تبتسم ووجهها محاط بالدخان. كانت تهز رأسها بالإيجاب.
 حسنًا، إذًا هي أخبرتكِ. بما حدث. عندما كنت صغيرة.
 نعم، كنتِ جميلة جدًا.
 عندما كان العم يعتني بي.
أمسكت الخالة بيدي وبقيت تمسكها. كانت يدها دافئة وناعمة، وشعرت برغبة في البكاء.
 لا تتصورين كم كان صعبًا عليّ أن أخبرها، خالتي، ثم...
 هل ترغبين في أن تعملي أظافرك مثلي؟ توجد هنا مانيكورة جاءت من المكسيك. لقد أعطتني بطاقتها حين أكون في بوينس آيرس. إنها رائعة.
– لا...
سحبت يدي منها برفق.
 ستبدين رائعة بها.

ركّزت في تحضير الشاي، لكن غيمًا خفيفًا غطى عينيّ. مسحت عينيّ. واصلت الخالة التدخين والنظر من النافذة الكبيرة.

ذهبت إلى المطبخ وفتحت علبة المخبوزات المتبقية من أمس. أكلتُ الكرات المحشوة بالحليب المكثّف، واثنتين من القطع بالكاسترد، و تشوروس محشوة. تركتُ قطعة مربعة، نصفها كاسترد والنصف الآخر جيلي السفرجل. أردتُ أن أترك شيئًا. أكلتُ جزء الكاسترد فقط. ثم ثم جيلي السفرجل. وتركت القطعة الصغيرة في المنتصف. لففتها. ثم فتحت العلبة مجددًا وأكلت القطعة الصغيرة أيضًا. رميت الورق في سلة المهملات. دخلت الحمام وأغلقت الباب. قالت الخالة:
 هذا أستور ، كلبٌ لطيف. في بيت الكلاب، أطلقوا عليه اسم والدورف أستوريا ، هل يُعقل؟ لقد غيّرنا اسم بيت الكلاب. لحظة، انتظري، ريثما أجد الكلب الذي أردتُ أن أُريكِ إياه.
كانت جالسة أمام حاسوب أمي المحمول، تحرّك الفأرة بصعوبة فوق مفرش قماش جوز الهند، قالت لها أمي:
– إنه يتجعّد ، سأجلب لكِ شيئًا.
بدأت الخالة تبحث بينما كانت تقول:
 ها هي، ها هي. هذه "ديلي".

كانت أمي تمشي ويداها ممدودتان، تنظر إلى الأسفل وإلى الجانبين. بقيتُ واقفة في مكاني؛ فكادت أن تصطدم بي.
– ماما.
 آه، ألا تعرفين أين يمكن أن أجد شيئًا أضع عليه الفأرة حتى لا تتعطل بسبب المفرش؟ لوحًا صغيرًا، أو...
 لا، لا أعرف .
وتحركتُ لأستلقي على الأريكة.
كانت الخالة تقول:
 في المزرعة أطلقوا عليها اسم "ديليريو" (هذيان). نحن غيّرناه. العم هو من اقترح "ديلي"، حتى تظل تستجيب. ديليريو – ديلي، ليس فرقًا كبيرًا.
قلتُ من مكاني على الأريكة.
 خالتي، ألا تعلمين أنه لا يجب شراء الحيوانات؟ من الأفضل تبني تلك التي في الشارع.

عادت أمي من المطبخ بلوح تقطيع ووضعته تحت فأرة الخالة. قالت إن كل الحيوانات طيبة، وكلها تستحق الحب. وإن كل شخص يفعل ما يراه صائبًا. فذهبتُ إلى الحمام من جديد.

ظلت الخالة عدّة أيام وهي ترتدي ذلك الروب الأزرق السماوي. كانت تدخن كثيرًا، وتقول إن السرير يتحرك تحتها أثناء الليل، كما حصل وقت الزلزال. وأنها هي والعم لم يتمكنا من النوم بسلام منذ ذلك الحين. كانا يتناولان الحبوب. حتى أستور وديلي كانا في حال سيئة.

وكان الخال يعطيهما زهور باخ لتهدئتهما. وكانا يصعدان إلى السرير معهما، لكن إذا تحرك غصنٌ في الخارج، كانا يبدآن في النحيب.

في تلك الليلة كانت الخالة تقطع الخضار في المطبخ.
 يسلّيني هذا. مثل المسلسلات. وأنتِ بما أنكِ تبقين في البيت كثيرًا، فستعجبكِ. ألم تقرئي شيئًا لفلورنسيا بونيلي؟ تمزج الحب بعلامات الأبراج، بالعاطفة، بالرومانسية.
 لا، لا أحب هذه الأشياء.
كانت تقطع الجزر إلى شرائح رقيقة جدًا. أنهت واحدة وأخذت أخرى وبدأت بتقطيعها بنفس الطريقة.
 مرة وقعت في الحب، خالتي. هل تذكرين عندما قلتِ لي؟
كنتُ أنظر إليها، لكنها كانت تنظر إلى الجزرة .
 هل تذكرين عندما سألتيني؟ وقلت لكِ إنني مرة أحببت؟ كان شابًا يعمل في كشك على بُعدين من هنا، كنت أراه عندما أذهب للتسوق.
 نعم.
 بدأنا نتحدث. أحيانًا كنت أبقى في الكشك أساعده، أو أستمع إلى الراديو معه.

كانت الخالة تقطع الجزر إلى شرائح متقنة. وكان وجهها يشبه من يستمع إلى موسيقى كلاسيكية. قالت لي:
 كم هو جميل، أدريانيتا
ودَفعت الشرائح بسكينها إلى قدرٍ أمامها.
– ذات يوم قبّلني.
 جميل، حبيبتي .
وبحثت عن مزيد من الجزر.
 بدأ جسمي كله يرتجف. وانغلق حلقي. وأصبح كل شيء حولي أسود.
 نعم، هذا من شدة العاطفة. هذا ما أقوله لكِ عن الروايات، أنها ستعجبكِ.
 لم أستطع أن أتنفس، وكأنني على وشك الإصابة بنوبة قلبية. كنت أختنق.
اقتربت الخالة بيدها من طبق الجزر لتتابع تقطيعه، لكنني سبقتها وأمسكت به. أخذت كل الشرائح. قالت لي
– هذا للمرق...
 كنت أعتقد أنني سأموت. لم أكن أستطيع التنفس.
 أعطيني إياها، حتى أطبخ.
 كنتُ أريد تقبيله، لكن لم أستطع...

وقفت العمة ممسكة بالسكين في يدها، تنظر إلى الجزرة التي كنت أقبض عليها. بقوة.
 قلتُ له إن كان يمكنه أن ينتظرني قليلاً... إنني عندما كنتُ صغيرة، حصلت لي مشكلة.
 هل تعطيني الجزر؟
 قلت له إنني عندما كنت صغيرة، حصلت لي مشكلة.

اقتربت مني.
هل تعطيني إياها، أدريانيتا؟
أعطيتها الجزر.

لم أرغب في أكل شيء من اليخنة. انتظرتُ حتى ذهبا للنوم ورميتُ ما تبقى. صنعتُ خليطًا من الحليب المجفف والمربى والماء، وأكلتُه من العلبة. ثم أكلتُ عدّة أرغفة خبز بالجبن، وبعدها فتحتُ علبة أخرى من الحليب المجفف. أضفتُ إليها ماءً وسكرًا، وأكلت الخليط حتى أصبتُ بتسارع في نبضات القلب. بعدها ذهبتُ إلى الحمّام.

بدأت الخالة تتحسن. أصبحت ترتدي ثيابها، وتنام طوال الليل. في أحد الأيام جهزت حقيبتها وقالت إنها مستعدة، وإنها ستعود إلى المكسيك. أخرجت وشاحًا حريريًا ورديًا بنفسجيًا ولفته حول عنقي.
 يليق بكِ جدًا.
قالت أمي:
- يليق بها جدًا وتحتاج لشيء أكثر أنوثة.

حمل كل واحدة منّا حقيبة، ورافقناها إلى الأسفل حتى وصول سيارة الأجرة. بدأت تشكرنا. قالت إنه لولا دعم العائلة لما كانت تمكنت من تجاوز الأمر. نحن كنّا ملاذها، مصدر عاطفتها، حبلها الذي يربطها بالأرض. تذكرت أمي علبة حليب الدُّلسي دي ليتشي من ماركة شيمبوتي التي أرادت أن تهديها لها. يبدو أنها كانت تخبئها عني. طلبت أن نصبر ثانيتين حتى تصعد وتحضرها. وعندما أُغلِق المصعد، سارعتُ بالكلام.
 خالتي، أريد أن أقول لك شيئًا.
 نعم، حبيبتي، لا تتصورين كيف أثر فيَّ الزلزال. لا زال صداه يتردد في رأسي.
 عندما كنتُ صغيرة، أنتما كنتما تذهبان إلى العمل...

كان هناك رجل يطرق زجاج باب العمارة. ركضت الخالة إليه. ثم استدارت وقالت لي إنه سائق سيارة الأجرة. حملتُ الحقيبتين إلى الباب. الرجل حمّلهما وألقى إحداهما فوق الأخرى في صندوق السيارة.
 اسمعيني .
حاولت إيقافها.
صعدت إلى السيارة وأغلقت الباب. وصلت أمي وفي يدها علبة حليب شيمبوتي، وناولتها للخالة من النافذة. أبعدتُ يد أمي، وأدخلتُ رأسي داخل السيارة، وأمسكتُ بيدي الخالة. قالت الخالة :
 حبيبتي ، من وقت الزلزال وأنا ضائعة.
أغلق سائق السيارة صندوقها بعنف.
 كان العم يقول لي إنني حبيبته.
– مسكين العم… حاله مثل حالي.
 قال إنني حبيبته، هل تفهمين؟
 بالكاد نستطيع التركيز، بالكاد نتحدث.
وعندما بدأت السيارة تتحرك، قالت لي إنها سترسل له تحياتي.

الكاتبة : فيرجينيا فاينمان/ VIRGINIA FEINMANN (بوينس آيرس، الأرجنتين، 1972) صدرت لها رواية بعنوان كل أنواع الأشياء الممكنة (Mulita، 2016)، ومن المقرر صدور كتابها التالي عن دار Emecé. تم تحويل العديد من قصصها القصيرة جدًا إلى برامج إذاعية، ومسرحيات، وعروض سرد شفهي.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى