فلسطين بين حلول الضَمّ والتقسيم والتشارك؟
كما هو الحال في كل مرة حين يتعرض الشعب الفلسطيني الى عدوان اسرائيلي غاشم يعود ويطفو على السطح السؤال الأساسي الذي يختصر مستقبل القضية الفلسطينية وهو (وماذا بعد؟) و(ما هو الحل؟)، اذ أن التضحيات الكبيرة التي قدمها قطاع غزة تستدعي طرح السؤال الملحاح مرة أخرى. وفي هذه العجالة سنستعرض وإياكم الحلول المتوافرة حتى الآن، والمعلنة على الأقل، وسنحاول تقصي أسباب نجاحها او نجاح بعضها لما فيه من خير يعود على الشعب الفلسطيني.
حتى الآن هناك ثلاثة حلول تدور في أروقة الدبلوماسية العالمية، أولها حل اسرائيلي تحاول فرضه على الجميع يتمثل بضم غزة الى مصر والضفة الغربية الى الأردن، مستغلة بذلك مطالبتها للمجتمع الدولي بوقف (تهريب السلاح) الى غزة عن طريق وضع غزة تحت الإدارة المصرية. إلا أن هذا الحل يستحيل تحقيقه، فهو غير مقبول فلسطينياً ومصرياً وأردنياً مهما كانت حجم الضغوط التي تمارسها اسرائيل على مصر والأردن. هذا بالإضافة الى أن مثل هذا الحل، على فرض أنه قد يتحقق، لن ينهي الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، بل سيزيد من شدته وربما بوسائل مقاومة جديدة لم تعهدها اسرائيل من قبل.
أما الحل الثاني فهو الحل الأكثر تداولاً وقبولاً لدى كل الأطراف بما فيها المجتمع الدولي، وهو الحل القائل باقامة دولة فلسطينية مجاورة لدولة اسرائيل (اي حلّ الدولتين لشعبين على أساس تقسيم فلسطين التاريخية بين الشعبين)، وما يعنيه من الاستمرار في مفاوضات السلام التي مضى عليها حوالي عقدين ولم تُثمر شيئاً ولو حتى بصيص أمل. هذا الحل لم ينجح ولن ينجح، لعدة أسباب أهمها أنه في نظر اسرائيل ليس هدفاً وانما تكتيكاً لكسب المزيد من الوقت لتغيير الواقع على الأرض لصالح اسرائيل، وما يعنيه ذلك من استنزاف ممنهج ويومي لفلسطين وللشعب الفلسطيني الذي ما زال يدفع ثمن هذا التكتيك دماً وأرضاً وحلماً وحياة. هل نحتاج الى المزيد من الشرح؟!
هذا من الناحية العملية، اما من الناحية المنطقية الجدلية فإن هذا الحل غير قابل للتطبيق بسبب وجود تعارض جوهري أو عضوي في ثناياه له علاقة مباشرة بمسألة الوجود. فالقول بإقامة دولة فلسطينية معناه أن تكون هذه الدولة قابلة للحياة والاستمرار والتطور بما تعنيه كلمة دولة من كل معاني السيادة والحرية والاستقلال وحرية التحالف او التوحد مع المحيط العربي إن أمكن. ولكن هكذا دولة إن قامت فلسطينياً فإنها بالنسبة لإسرائيل تُهدد بقاءها كدولة، وهو أمر مرفوض اسرائيلياً، لذلك فهي ترمي باتجاه كسب الوقت (التكتيك) لإنهاء الدولة الفلسطينية المقترحة بحيث تأتي كسجن كبير (او كانتونات) مُحاصر اسرائيلياً، بحيث يعكف بعض الموظفين الفلسطينيين على ادارته تحت اشراف اسرائيل مع اعطائهم بعض الامتيازات السلطوية والاقتصادية على حساب الشعب الفلسطيني السجين. وهذا بدوره مرفوض فلسطينياً لأنه لا يحقق طموحات الشعب الفلسطيني.
من هذا المنطلق فإننا نرى أن المضي في مفاوضات السلام الفلسطينية الاسرائيلية ليس إلا تحايلاً على هذا الشعب، ولا يعني للقائمين عليه من الناحية الفلسطينية سوى نوع من أنواع البزنس الذي اعتادوا عليه، فهم، وحسب ما نقلته وسائل الاعلام الكثيرة منذ توقيع معاهدة اوسلو، يوفرون فضاء السلطة الفلسطينية كمناخ استثمارات اقتصادية تزيدهم وأبناءهم غنى وسلطة. هذا علاوة على أن معظمهم لم يعرف في حياته أي مهنة سوى أنه قائد!!.
وفي هذا السياق تبلور في الساحة الفلسطينية منهجان للتعامل مع المفاوضات: الأول سلمي تقوده منظمة التحرير الفلسطينية التي أصبحت مُفرغة من معناها، والتي يتمسك بها جهاز السلطة الفلسطينية، لما يعنيه ذلك من مكاسب شخصية لرجالات المنظمة والسلطة. والثاني تيار مُقاوم تمثل المقاومة الفلسطينية الاسلامية نواته الحقيقية. وهو منهج لا يختلف كثيراً عن الأول لجهة حل الدولتين لشعبين، بل يكمن الاختلاف في أن المنهج الثاني يرمي عبر المقاومة الى تحسين شروط التفاوض بمكتسبات تحققها المقاومة على الأرض، الأمر الذي قد يساعدها مستقبلاً على الحصول على مكاسب أفضل بخصوص الدولة الفلسطينية المقبلة.
ولكن هذا النهج المقاوم يبقى نهجاً وليس هدفاً بحد ذاته، الأمر الذي يعني أنه سيصطدم عاجلاً أم آجلاً بالتناقض العضوي والمنطقي الجدلي الوجودي الذي ذكرناه أعلاه. فهذه المقاومة غير قادرة على هزيمة اسرائيل هزيمة نكراء نهائية، فهي مقاومة لها حدودها وطاقاتها، ولا تستطيع القفز على شرطها التاريخي الذي تعيشه مع وضوح مقولة أن الصراع العربي الاسرائيلي قد انتهى على مستوى الأنظمة العربية على أقل تقدير، وما العدوان الأخير على غزة سوى خير مثال على ذلك، والتفوق الحضاري الغربي الداعم لإسرائيل لا يشير الى قرب حدوث تغير في موازين القوى العالمية. أما القول بالوحدة العربية فإننا نسأل أصحابه: متى كانت هذه الوحدة؟ فالتاريخ العربي منذ تفكك الدولة العثمانية المريضة لا يشير الى وجود مثل هذه الوحدة. فهل ستوافق اسرائيل، في ضوء هذه المعطيات، على شروط المقاومة لإقامة دولة فلسطينية قابلة للحياة قائمة على تطبيق كافة القرارات الدولية بما فيها حق عودة اللاجئين؟ بالطبع لا لأن في ذلك بداية نهاية اسرائيل من وجهة نظر اسرائيلية، وهذا مرفوض اسرائيلياً.
ما الحل إذاً؟ قبل الاجابة دعونا ننظر في بعض المفاهيم: ما معنى السيادة؟ ما معنى الاستقلال؟ ما معنى التحرير والحرية؟ ما معنى المساواة؟ ما معنى تحرير الأرض والانسان؟ بل ما معنى الحياة والحق في الحياة؟ اذا كانت هذه المفاهيم تعني تحرير الأرض، بغض النظر عن مساحتها، فعلينا أن ننظر الى الدول العربية المستقلة ونرى هل هناك أي معنى لهذه المفاهيم! هل هناك أي دولة عربية مستقلة حقيقياً؟ هل تمارس هذه الدول السيادة الحقيقية؟ هل فيها مساحة غير مشروطة لحريات شعوبها؟ أين المساواة وكرامة الانسان وحقوقه في هذه الدول؟ سأترك الجواب للقارئ العربي الذي يعيش في هذه الدولة او تلك. أما بالنسبة للإنسان الفلسطيني فأقول له: هل تريد تحريراً ودولة على طريقة الدول العربية؟ هل يريد الانسان الفلسطيني بعد قرابة قرن من النضال والتضحية أن يعود ويدخل في نضال ليحقق سيادته وحريته كشعب (على افتراض أنه حرر الأرض)؟. ماذا يفيد الانسان، اي انسان، إن حرر الأرض وأقام دولة وهو فيها ليس حراً؟ هل تريدون دولة على طريقة النظام المصري؟ أم السعودي؟ أم على طريقة النظام الايراني؟ أم الجزائري الذي قام بعد حرب تحرير؟ اسألوا اخوانكم المصريين والسعوديين والعرب والايرانيين عن رأيهم في حجم الاستبداد والظلم والقهر والقمع. ماذا تتوقعون من دولة المفاوضات الفلسطينية المقبلة إن تحققت؟ إنها ستكون نسخة عن الأنظمة العربية الراعية لها، وما رفض السلطة ومنظمة فتح لنجاح حماس في الانتخابات إلا دليل على ذلك.
هنا يبرز الحل الثالث القائل بحلّ (دولة واحدة لشعبين)، دولة ديمقراطية علمانية حداثوية معاصرة تُقام على أرض فلسطين التاريخية (من البحر الى النهر) تستوعب سكان اسرائيل من يهود وفلسطينيين (مسلمين ومسيحيين) وسكان الضفة الغربية وسكان غزة واللاجئين الفلسطينيين الراغبين بالعودة. هذا الحل القائم على تشارك أرض فلسطين التاريخية ليس جديداً، فقد تكلم فيه الكثيرون من البحاثة والسياسيين ونشطاء السلام والمساواة من فلسطينيين واسرائيليين ويهود وغربيين وغيرهم. وعُقدت له مؤتمرات وألّفت فيه كتب وأبحاث كثيرة. ولكني أعيد طرحه الآن لأنه أصبح ضرورياً بعد تداعيات العدوان الغاشم والمجزرة الرهيبة على قطاع غزة من ناحية، ووصول إدارة جديدة للبيت الأبيض حمل الرئيس الجديد باراك أوباما شعار التغيير أساساً لها.
قبل المضي في مناقشة هذا الحل، أود أن أوضح أن هذا الحل ليس شرطاً أن يكون بديلاً عن خيار حل الدولتين لشعبين أو خيار المقاومة، وإنما يجب طرحه بجدية كحل موازي لحل التقسيم. فهذا الحل لا يحمل في طياته التناقض العضوي والمنطقي الجدلي الوجودي الذي أشرنا إليه أعلاه والذي يحول دون نجاح حل التقسيم. لهذا فهو يتمتع بفرص نجاح أكبر إن طُرح بشكل جدي ضمن رؤية واضحة على شكل مشروع مدروس بعناية وبأدق التفاصيل، يوضع على طاولة الرئيس أوباما وادارته الجديدة كخيار موازي لحل الدولتين.
حل التشارك هذا لا يتطلب من الجانبين الفلسطيني والاسرائيلي البحث في مساحة الأرض ونوعيتها وجغرافيتها، وما يتوفر تحتها من مصادر طبيعية، التي ستُعطى للفلسطينيين، لأن التشارك بالأرض يعني عدم تقسيمها. لقد عاش الفلسطينيون واليهود المهاجرون هذه التجربة في النصف الأول من القرن الماضي قبل صدور قرار التقسيم عام 1947 الذي كان بمثابة الشرارة التي أطلقت القضية الفلسطينية، فما هو الخطأ في العودة الى نقطة ما قبل التقسيم خاصة وأن هذا الحل يفترض عدم وجود منظمات صهيونية ارهابية كما كان عليه الحال قبل عام 1947. وحل التشارك هذا لا يحمل في ثناياه قنبلة إلغاء الآخر قدر الإمكان، كما هو الحال في حل الدولتين، بل على العكس فإن التشارك سيوجّه كلا الفريقين نحو التحديات المشتركة لضمان التطور الحضاري للدولة التشاركية الجديدة.
هل يمكن التشارك؟ وهل التعايش ممكناً؟ هذا السؤال بحد ذاته مطروح أيضاً في خيار حل الدولتين على أساس التقسيم. هل بإمكان دولة فلسطينية سيادية مستقلة (هذا إن وجدت) أن تعيش بسلام وتفاهم مع دولة اسرائيل؟ فإن كان ممكناً في حل الدولتين فلماذا لا يكون ممكناً في حل الدولة التشاركية؟ إن كان التطبيع العربي الاسرائيلي ممكناً في حالة حل الدولتين والسلام العادل فلماذا لا يكون التعايش السلمي التشاركي في حالة حل الدولة الواحدة لشعبين غير ممكن؟ خاصة وأن الدولة التشاركية ستحمل مفاهيم الانتماء المشترك من كلا الطرفين.
هل تستطيع أرض فلسطين التاريخية استيعاب هذا العدد الكبير من السكان بمن فيهم من يريد العودة؟ الجواب نعم، حسب الدراسات التي قدمها بعض الفلسطينيين وبعض الاسرائيليين. ففي اسرائيل يعيش حالياً 85% من الشعب في 15% من الأرض، أي أن هناك نسبة عالية جداً من الأرض الخالية في اسرائيل تستطيع استيعاب اللاجئين، بالاضافة الى الأراضي الخالية الموجودة في الضفة الغربية والتي من الممكن استغلالها. أما قضايا المياه والزراعة فإن التطور الهائل في التكنولوجيا المعاصرة يوفر الحل لهذه الدولة التشاركية ذات الكثافة السكانية العالية نسبياً، إذ أن تكنولوجيا تحلية مياه البحار توفر حلاً لمعضلة المياه، وتكنولوجيا الزراعة العمودية وزراعة البحار والصحاري والاستنبات الاشعاعي والتكاثر الزراعي بالجينات توفر حلاً لتضائل الأرض الزراعية السطحية التي ستذهب لصالح مشاريع الاسكان. وماذا عن توفير الطاقة؟ سؤال أيضاً برسم حل الدولتين!! مسألة الطاقة هذه مسألة عالمية ولا تقتصر على الدولة التشاركية فقط، والتوجه العالمي في الاستثمار بمشاريع الطاقة البديلة يمكن تطبيقه في الدولة التشاركية أيضاً.
هذا من ناحية المصادر الطبيعية، أما من ناحية القبول السياسي لحل الدولة لشعبين فإن قبول طائفة من الفلسطينيين والاسرائيليين واليهود والعرب والغربيين يعدّ مؤشراً ايجابياً لجهة قبوله على مستويات أوسع تصل الى مستويات الادارات السياسية. فقبل كل شيء يجب أن يكون واضحاً أن هذا الحل لا يمكن له النجاح في ضوء سياسة اسرائيل القائمة على مبدأ (الدولة اليهودية)، فهذا وكما يقول بعض المثقفين والنشطاء الاسرائيليين يجب تفكيكه ويجب فصل الدين عن الدولة، وصياغة دستور ديمقراطي علماني حداثوي يضمن التدوال الديمقراطي للسلطة على كافة مستواياتها بغض النظر عن الانتماء العرقي والديني والجندري.. دستور يضمن حريات الفرد والمساواة بين الأفراد وحقوق الانسان، كما هو الحال في الولايات المتحدة وغيرها من الديمقراطيات العالمية، ونموذج جنوب افريقيا قد يكون مفيداً في هذا المجال. هذه الحالة الديمقراطية لا يمكن تحقيقها في خيار حل الدولتين لأن دولة فلسطين بهذا الحل لن تكون سوى سجن من كانتونات محكومة من قبل طغاة لهم امتدادهم العربي الذي يحميهم حسب التفاهمات العربية مع اسرائيل في حال التوصل الى حل الدولة الفلسطينية المستقلة.
أما بالنسبة لقبول اسرائيل بحل الدولة الواحدة لشعبين الذي قد يُنظر اليه أنه نهاية اسرائيل ويهدد وجودها، فإن على القائمين على صياغة مشروع هذا الحل أن يقدموا حججهم التاريخية والاستراتيجية في أن بقاء الشعب الاسرائيلي في المنطقة العربية لا يعني بالضرورة بقاء مشروع اسرائيل (كمشروع استيطاني استعماري صهيوني غربي) نتج عن تفكك نظام عالمي في الحرب العالمية الأولى، فالشعب الاسرائيلي يستحق العيش خارج هذا المشروع العنصري الذي أصبح غير مقبول في سياق نظام عالمي معولم ومفتوح على الآخر تتمتع فيه الأجيال الجديدة بعقلية تختلف عن عقلية جيل الحربين العالميتين.. أجيال تبحث عن المساواة والحرية والتعايش المشترك والاتحاد في وجه التحديات المعاصرة التي تواجه البشرية جمعاء. هذا بالاضافة الى أن تجربة اسرائيل في عدوانها على غزة أثبتت لها بأنها لا تستطيع كسر إرادة الشعب الفلسطيني، وأن الرهان على عامل الزمن الذي سيُنسي الأجيال الفلسطينية الجديدة وطنهم وقضيتهم رهان أثبت الجيل الرابع الفلسطيني أنه رهان خاسر. هذا علاوة على أن الاستنكار العالمي الهائل لإسرائيل أثناء العدوان أعطى شعب اسرائيل انطباعاً بأن اسرائيل منبوذة عالمياً.
مَن سيعرقل مثل هذا الحل؟ الحكومات الاسرائيلية؟ ربما، كونها ما زالت تعمل بجيل الصهيونية الاستعمارية الاستيطانية الاول، ولكن هذا الأمر قد يختلف مع الجيل الثاني الذي بدأ يفك ارتباطه مع النظرية الصهيونية. وماذا عن منظمة التحرير الفلسطينية ورجالاتها في السلطة؟ هنا ربما يكون التحدي الأكبر، فرجالات هذه المنظمة قد لا يروق لهم هذا الحل وإن كان بعضهم يصرح به من حين الى آخر من باب الضغط على اسرائيل لا أكثر، فهذا الحل قد يعني نهاية مستقبلهم السياسي غير الموجود خارج اطار منظمة التحرير التي أصبحت بلا معنى وتفتقر الى أي من مقومات الشرعية الفلسطينية، فلم ينتخبهم الشعب الفلسطيني في كافة بقاع تواجده. فهل بقيت مقولة (منظمة التحرير الفلسطينية هي الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني) شرعية؟ يبدو أن مقولة (القرار الفلسطيني المستقل) قد تجذرت أكثر من اللازم عند رجالات المنظمة بحيث استقل قرارهم نهائياً عن الشعب الفلسطيني.
وتبقى مسألة معنوية لا مناص من مناقشتها، وتتعلق ببعض القيم المعنوية، مثل اسم الدولة التشاركية ونشيدها الوطني والعَلَم الوطني وقابلية الشعب الفلسطيني معنوياً لتقبّل العيش المشترك مع الاسرائيلي وغيرها من المسائل المعنوية مثل الاعتراف بالآخر الاسرائيلي. وهي مسائل مشروعة بلا شك. فالاعتراف بحق الاسرائيليين بالعيش في أرض فلسطين التاريخية ضمن دولة تشاركية أفضل من الاعتراف فلسطينياً بدولة اسرائيلية تستحوذ على غالبية الأرض في حالة حل الدولتين، ففي كلا الحالتين هناك اعتراف وتنازل. أما اسم الدولة فيمكن الابتعاد عن اسم فلسطين واسرائيل واستعمال تسمية محايدة مثل (دولة او جمهورية الأرض المقدسة)، وما المشكلة في النهاية؟ أن تحصل على اسم فلسطين وتخسر ما يزيد عن نصف أرضها؟! أما النشيد الوطني فهو نشيد يأتي في سياق تطور الأحداث، ومن قال لكم أن نشيد (بلادي بلادي) هو نشيد فلسطيني منذ أيام الكنعانيين؟ لقد جاء هذا النشيد في مرحلة من مراحل تاريخ الشعب الفلسطيني.
وفي النهاية نؤكد أن هذا الحل ممكن، وأنه يمثّل تحدياً يجب عدم تفويته إن كنّا شعباً يرحب بالتحديات، ويستحق منا العمل على بلورته وعرضه على كافة المستويات المحلية والاقليمية والدولية. الفلسطينيون والاسرائيليون وإن كانوا يحملون كل الأسباب الداعية للصراع إلا أنهم يحملون أيضاً أسباباً للعيش المشترك، وتجارب ما قبل عام 1947 وتعايش فلسطينيي الـ 48 ووصولهم الى الكنيست رغم قساوة تمييز الدولة اليهودية، بل وتعايش عمال الضفة والقطاع في العمل داخل اسرائيل وتعايش الفلسطينيين في المهجر مع اسرائيليين ويهود، هذه التجارب تثبت بأن التعايش التشاركي ممكن. اللغة العربية هي أخت العبرية، وهذا مشترك ثقافي مهم، والثقافة العربية ليست بعيدة عن اليهودية، فهذه الثقافة فيها الكثير من المشترك بحكم الأديان السماوية الثلاثة التي تحمل في ثناياها الكثير من ميثولوجيا بلاد ما بين النهرين والكنعانيين والفراعنة: فالأنبياء مشتركون وقصصهم مشتركة وبعض تشريعاتهم مشتركة مثل الطعام الحلال وختان الذكور وتحريم لحم الخنزير وزواج المحارم وغيرها الكثير.
الشعب الفلسطيني يستحق الحياة بحرية، وما حل الدولتين لشعبين سوى دعوة لإرهاق المزيد من دمائه وقتل المزيد من أبنائه وبناته وسلب حرياته. من قال لكم بأن الشهداء الذين سقطوا في غزة لم يكونوا راغبين بحياة حرة كريمة، ان استطاعوا اليها سبيلاً؟ من قال لكم بأن الباقين على قيد الحياة غير راغبين بحياة حرة كريمة؟! ألم تصلكم أصوات الأمهات من قطاع غزة أثناء المجزرة؟! ألم تسمعوا الطفلة الغزاوية الذكية والجميلة التي رمت ألعابها المحروقة في الزبّالة؟!.
أرض وتاريخ فلسطين أكبر من الديانة اليهودية وأكبر من المسيحية وأكبر من الاسلام (مع احترامنا الشديد لكل الأديان)، وأكبر من منظمة التحرير وأكبر من فتح وأكبر من حماس... إنه تاريخٌ تشكلَ في الأرض منذ الألف العاشرة قبل الميلاد.. انظروا الى صلوات الكنعانيين وآثار النطوفيين وآثار الفرعون مرنفتاح إن لم تصدقوني. وما هذه الديانات وهذه التنظيمات سوى مراحل جزئية ومرحلية من تاريخ فلسطين، ولا يمكن أن يتم تعميم أحدها لتختزل هذا التاريخ العريق وتختطفه. هذا إن كنا فعلاً نتحدث عن تحرير الأرض والانسان.