الأحد ١٥ أيلول (سبتمبر) ٢٠١٩
شعرية الجسد في ديوان«
بقلم عبد الله المتقي

قبعة ضاقت عن رأسي» لسندس بكار

أصبح الجسد اليوم موضوعا مهما وملحا،بعد أن ظل لعدة قرون مسكوتا عنه، لاعتبارات دينية واجتماعية، فهو يمثل الجزء المرئي من كياننا، وهو"النص واللون. فلو لم يكن لدينا تماس مع أجسادنا كيف كنا سنعبر عن آلامنا، أحزاننا، فرحنا، شبقنا"على حد تعبير التشكيلية الفلسطينية عايدة نصر الله، أما الفيلسوف الألماني نيتشه فإنه يؤكد على أن الحياة لا تكون ممكنة إلا بأجسادنا، وحقيقة الذات تكمن في حقيقة الجسد.

الشاعرة التونسية سندس بكار احتفت بالجسد أيما احتفاء في ديوانها"قبعة ضاعت عن صدري"الصادرعن دار ميارة للنشر والتوزيع بالقيروان، ويقع في 95صفحة وعلى مقاس كتاب الجيب، ويتكون من ثلاثة أقسام من القصائد المختلفة الطول، وهي كالتالي:

رغبات، قبعة ضاقت عن الصمت
ومضات، قبعة ضاقة عن الحرف
سكرات، قبعة ضاقت عن العزلة

يلفت الانتباه في هذا المنجز الشعري حضور موضوعة الجسد، إذ قدمت الشاعرة صياغة تثويرية للجسد وخرجت به من حدود الرؤية الضيقة الى آفاق أرحب، لأن هناك علاقة دلالية تقرن الجسد بالكتابة فقد اعتبرا وجهان لعملة واحدة، لأن بينهما وشائج دلالية وثيقة الصلة"كما يذهب إلى ذلك هشام العلوي في كتابه"الجسد بين الشرق والغرب"ص_88
وعليه، تبحث الشاعرة عن الأسس والضوابط التي تجعل من هذا الجسد يمارس اللعب والتحول الدلالي و يزحزح القناعات التي قد تبدو ثابتة ويكسر الممنوعات، في كل الحالات يبقى الجسد سيدا في حضوره لكن كيف يحضر في ديوان «قبعة ضاقت على رأسي »؟
يحضر الجسد في قصائد الديوان كما أشرنا إلى ذلك سابقا، بتمظهرات عديدة وتجليات متنوعة، فقد يكون الحضور كليا وماديا:

"الواحد إلا لمستين
والجسد المندهش بالرغبات
يستجدي ليل طنجة
محاربة الصباح"
وقد يكون هذا الحضور جزئيا"
"شعر صدرك
وجه خاتله بياض الياسمين
حبة التوت أعلى جنبك الأيمن
تحرس خرائط"كريستوف كولومبس"

وفي حالات أخرى لا يحضر الجسد إلا من خلال بعض القرائن المرتبطة به: الفستان الأسود، القميص، وأكسسوارات أخرى.

وهكذا، تحضر صور الجسد بكل أجزائه ككينونة لاهبة لاحتضان الرغبات النارية ومن ثم انكتاب ما ترى و تشتهي وترغب فيه الشاعرة، أو ما ترغب حقيقة في رؤيته واحتوائه.

إن بكار سندس لا تخفي أي شيء، بل إن قصائدها تستمد تفردها وتميزها من هذا البوح نفسه، وبكل ما أوتيت من مكاشفات:

"أشعلني فيك بكل الألوان
بكل المتاهات
بكل الأطياف"

الشاعرة في هذا الشاهد الشعري تفتح كل شبابيك وأبواب الجسد على مصراعيها من أجل أن تستوفي شروط الرغبة حتى ولو تطلب ذلك لهيب واحتراق هذا الجسد، بحثا عن دلالات الجنون و الضياع والاستشهاد من أجل اندغام، مما يؤكد عمق رغباتها وصدق تفانيها في الإخلاص للمحبوب.

وبنفس الجرأة الرمزية، وفي تحد لكل الطابوهات واختراق لكل شيء نقرأ من قصيدة"تفاحة":
"قلبي تفاحة خضراء:

المشتهى..
وحده يقضمها"

هذا المقطع المكثف يقدم صورة وافية عن تمثلات الجسد وأشكال حضوره، وكيفية الاحتفال به من خلال مشهد القضم ولتضحية بعض القلب بأطراف الأسنان من أجل اكتمال الرغبة في اشتهاء الآخر واحتوائه

"البعوض الذي يتقاسمنا لحظات القبل،
يغار من لهفتنا اللامتناهية
يفتك يأجسادنا كل ليلة
لكن أرواحنا
لا تقبل القضم"

وعلى نفس الخط، تطلق الشاعرة العنان لجسدها القابل للسعات البعوض تساوقا مع لهفة القبل،في مقابل الروح الرافضة لهذا العض، لتحقق الشاعرة بذلك،صورة وافية الاحتفاء بالجسد والروح وهما في تفاعل أعمق وأقوى، فآلام الجسد"البعوض، يفتك، القضم"ومتعته"القبل، لهفتنا"لم يفقد الروح متعتها هي الأخرى، بيد أنها متعة العناد وتقوية المناعة ضد تعليب الجسد ضمن قانون استهلاك استهلاكه وتشييئه.

"القبلة ليست شفتين
القبلة مئذنة الليل
الحب ليس جسدين،
الحب تراتيل صلاة،
جحيم غواية ونزيف روح"

يلفت الانتباه في هذا المقطع الشعري أيضا، الحضور المميز للروح والجسد، لكن مع نفي لشهوات الجسد واستحضار للروح في طقوسها وكامل كحولياتها الروحية"تراتيل صلاة"، وبكامل فائض قيمة آلامها"نزيف روح"، دلالة على الالتئام والامتلاء الروحي والبحث عن هاجس البحث عن المعنى

ولم يفت الشاعرة سندس بكار، وهي تحتفي بالجسد من استحضار مجموعة من الأمكنة:

"تتنحى جانبا
تمنح الفزاعة أرضا وسماء
في"رأس الماء"
الطائر الساكن في اليد"

هكذا تستدعي الشاعرة بكار سندس"شفشاون، طنجة، مقهى الحافة، رأس الماء.."احتفاء بالمحبة في بعديهما الرمزي الخالص وانتصارا للاعتراف والوفاء لنوسطالجيا الحب ولحظاته السعيدة:.

أيضا تستحضر قصائد الديوان أسماء ورموز أدبية وتراثية من سجل التاريخ البعيد والقريب، كزليخة وبورخس و بيكاسو، وبودلير و نيرودا، جون فالجون هرقليدس، وابن ويوسف، عقبة... وتستدعى هذه الأسماء، لكن في أوضاع ومواقف معصرنة وفق تقنية المفارقة.
ومن مهارات سندس بكار، أننا لا نقرأ شعرا نقيا، بل قصائد تفضي إلى جمالية اللعب الذي يتسلل إلى الكثير من نصوص هذا المنجز الشعري، حيث انصهار لغة الشعر ولغة القرآن في بوتقة واحدة:

"السماوات السبع تخر على رأسي الآن
لا دعاء"عقبة"على الأرض المقدسة يكتنز المطر
ولا نداءات"يوسف"
تمنع جوع ذئب كل وجهه أنياب
ولا"دم كذب"يقدمه إخوتي"

ومجمل القول، إن ديوان الشاعرة سندس بكار، يستحق أكثر من مقاربة، لمدى إبداعيته، ودفقاته الشعرية المتحررة من كل قيد، ولعلها نار الشعر حين تبتغي الذات والأمكنة والآخر، بالجسد والروح معا

و.. أخيرا، أليست الكتابة فعلا جسديا أولا، ثم موضوعا لكتابة شعرية جديدة؟

ذلك هو السؤال..؟


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى