قراءة في رواية «تراتيل في سفر روزانا»
كعادتها في معظم نتاجها الأدبي والروائي، تواصل الأديبة نزهة الرملاوي الحفر في الهمّ الفلسطيني والغوص في يوميات ومعاناة ذاك الشعب الرازح تحت نير الإحتلال.
"تراتيل في سفر روزانا" لو أردنا تجنيسها نجدها أقرب ما تكون إلى الأدب السياسي المقاوم،كُتِبت بلغة سهلة وأنيقة في آن وبأسلوب سردي إنسيابي تجعل القارىء مشدودا لمتابعة مجرياتها وتشعره بأنه في قلب المشهد الروائي لا بل أحد شخوصه لما يطالعه من أحداث وتفاصيل سبق وأن تابع معظمها إن لم نقل عاشها في يعض المراحل والمحطات.
جاءت هذه الرواية لتؤرخ لا بل لتوثق ما جرى ويجري على سكان فلسطين عمومًا وقطاع غزّة ومخيماته على وجه الخصوص، هذا القطاع الذي عاش سكانه العديد من المآسي والحروب التي جعلت سبل الحياة فيه أقرب إلى المستحيل نتيجة ما يتعرض له من أخطار وحصار.
وللدلالة على تواصل الأجيال وتوارثهم للقضية الواحدة والجامعة إرتأت الكاتبة ان تبدأ روايتها هذه بالإشارة إلى الجدّة روزانا والتي حملت مشعلها وإسمها فيما بعد حفيدتها روزانا لتقدم لنا هذه الرواية "تراتيل في سفر روزانا".
روزانا الجدّة كما وصفتها حفيدتها بأنها تلك المرأة المقدسية، الآتية من عبق الحارات ومن تكبيرات المآذن وأجراس الكنائس،وإذ كانت تعتبر أن كلّ المدن مدنها، لكنّ يبقى للقدس ربيعًا آخر، وما يميزها أنّها حفيدة شهيد وأخت أسير ما زال جسده مدفونًا في مقبرة الأرقام.
ولإبعاد شبح الملل عن القارىء، لم تشأ الكاتبة ان تولي مهمة السرد إلى شخصية واحدة هي السارد العليم روزانا الحفيدة، بل لجأت إلى إيكال مهمة السرد أيضا إلى شخصيات أخرى مثل نورا وأيضا خالتها زهرة إضافة إلى بعض الشخصيات الثانوية الأخرى.
وكأن ميلاد الأطفال أصبح يؤرخ بتواريخ الحروب المتكررة التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني ، تشير الرواية إلى أن روزانا قد ولدت في شهر كانون الأول من العام 2008، مع بدء الحرب التي يسميها المحتلّ "حرب الرّصاص المصبوب"ويُسميها المقاومون بمعركةالفرقان، أو بقعة الزّيت اللاهب. ولقد أسهبت الكاتبة في الإشارة إلى ما يعانيه هذا الشعب من قهر وإذلال وحصار خاصة فيما يتعرض له سكان قطاع غزّة. كما سلطت الضوء على الأوضاع الضاغطة التي تعيشها المخيمات متخذة من مخيم الشاطىء وقطاع غزّة مسرحًا لأحداث روايتها. لتبرز الممارسات التي يقوم بها الإحتلال الذي أقدم على تفجّير الأرصفة والشّوارع بحجة هدم الأنفاق، فتكوّمت الأبراج على رؤوس ساكنيها،وأصبحت "حارات المخيم تضجّ بصياح السّاكنين، وآهات المجروحين. فالحرب لا تفرق بين الصالح والطالح، حتّى الأجنّة يقتلون قبل الولادة، والمساجد تهدّم،والمدارس تمسح دماء أطفالها عن الأدراج والمقاعد، ويحمل الآباء جثامين صغارهم، يصفّونهم كأشتال جميلة، تزهر في كل الفصول ذكريات واشتياق. ومئات الراكضين نحو مدرسة الوكالة، حفاة ينتعلون الخوف ويتألمون. يحملون أولادهم وكتبهم وأقلامهم ليكتبوا تراتيل بقائهم وتاريخ صمودهم. وللدلالة على همجية الإحتلال تسأل روزانا ما إذا كانت مكتبة الكتب التي أتلفها العدو كانت تقاوم وتطلق الصّواريخ؟ وهل كانت العائلة التي تتناول طعامها تقاوم أوتطلق المدافع؟ وهل أضحت زجاجات الحليب بين يديّ الأطفال قنابل؟ وتستطرد لتقول :كم نحتاج من الوقت كي نستريح من مشاهد القتل والدّمار؟ متى نتساوى مع العالم بشيء من الأمن والاستقرار؟ كيف نعتلي مراكبنا، ونمضي في البحر، دون أن تضربنا القذائف؟".
وتُبرز الرواية المعاناة التي يعيشها سكان المخيم بعد أن سرق الإحتلال المياه الجوفية العذبة، وحوّلها لآبار ارتوازية لريّ مستوطناته، وأبقى لهم مياه مالحة تفتك بأجسادهم وتبيد مزروعاتهم. كما تشير الى الوضع المهين والمُذلْ للسكان عند انتظامهم في طابور يوم المؤن، حيث يصبح العاطي إلهًا تركع له البطون، وتسجد له أوقاتًا طويلة من الانتظار، والمحاباة المعتمدة في توزّيع بطاقات التّموين.
تشير الرواية فيما تشير إلى ما يشبه المقاومة المدنية وإصرار السكان على العيش بكرامة، تقول روزانا "علمتنا الحرب أن نخرج من تحت الركام بقوة، إبنة عمّي ندى تحلم أن تصبح خبيرة في صنع أطراف متحرّكة، لتمنح من فقدوا أطرافهم في الحرب أملًا بالتّحرك والنّشاط، وأنا أحلم أن أسخّر طاقة الشّمس في إضاءة القطاع ليلًا؛ كي لا تُرهب ظلمته نور الحياة. كما ان شبابنا ابتكروا حجارة بناء بلاستيكية صديقة للبيئة، ساهمت في حلّ مشكلتيّ نقص مواد البناء وازدياد النّفايات البلاستيكية، لنثبت للعالم أننا صنّا ع للحياة، نبحث عما هو أفضل، ونبتكر ما يبقينا بكرامة".
بجرأة لافتة قد يتحاشاها الكثير من الكُتّاب قاربت الكاتبة بلسان شخوص روايتها الوضع السياسي وتعريته مشيرة إلى الخلافات القائمة بين الفصائل، بحيث أن التوافق فيما بينهم أشبه بمعجزة، فالكل يتربّص لفكر يعارض فكره، أو توجّه لا يمتّ لتوجّهاته بصلة. اللهمَّ عندما يوّدع المخيّم المقاومين في كرنفال يليق بتضحياتهم، تنام خلافات الفصائل، ويلتئم شملها لفترة لتعود وتصحو في نهار آخر. وفي موضع آخر تدعو للتمسك بحق العودة التي تعتبر أن "إتفاقية اوسلو" لم تشر إليه، وهذا ما يولّد الشعور بالتّخاذل والعتب والاستنكار.
وفي إنتقاد صارخ لصمت معظم الأنظمة العربية تصرخ والدة روزانا في وجههم قائلة:" وينكم يا عرب، وينكم يا أمة المليار، هذه مش حرب، هذه مجازر، إبادة، غزة تدافع عن شرف الأمة، عن الأقصى، عن القدس، وين النّخوة؟". وللأسف فإن الرد العربي على هذه الصرخة جاء على شكل مركبات جاءت بآلاف الأكفان، وبعض الأرز والعدس، وعلب السّردين والحمّص والفول وبسكويت منتهي الصّلاحية .في حين كان الدعم اللامتناهي الذي حظي به الإحتلال سواء من الأبعدين او الأقربين فأمعن في عدوانه متفلتًا من كل ضوابط وقوانين الحروب المعترف بها. فبينما كانت قوافل الشهداء تواصل صعودها إلى السماء، كانت قوافل المساعدات تواصل دعْم القتلة، بمليارات الدولارات وجنود وخبراء ودبابات وعتاد، وأقمار صناعية وسفن حربية وصواريخ تبيد العباد
وتنتقل الكاتبة لترسم بقلمها صورة مأساوية شاهدها العالم أجمع عن هؤلاء الأطفال الذين تزاحموا لكتابة اسماءهم على اطرافهم حتى يتم التعرف عليهم عند إستشهادهم، وتنقل لنا الرواية طلب أحد هؤلاء الأولاد عندما قال: "اكتب اسمي الرباعي على يديّ ورجليّ، إذا مت شهيدًا يعرفوا أنا مين وابن مين عشان إذا اتقطع جسمي يجمعوني" ويكمل بسخرية من لا يخشى الموت، "بلاش يحطوا إيدك بدل إيدي، أو رجلك بدل رجلي، أنت قصير وأنا طويل، ما ينفع بصير أعرج في الجنة". وقد ترجمت لنا الكاتبة هذه الحادثة وحولتها إلى نشيد مستوحى من نشيد بكتب إسمك يا بلادي فكتبت:
"أكتب اسمي يا هادي ، على رجلي وعلى الإيد
يمكن نال الشّهادة وألحق أخي الشّهيد
يا غزة الأحرار بلبقلك الانتصار
وتبقي مزروعة عالداير إكليل ورد وغار
ونعيّد عيدك والفرحة تزيدك قوة وعزم وإصرار." .
بواقعية وبدون روتوش تشير الكاتبة إلى ظاهرة العمالة والخيانة التي عرفها المخيم نتيجة لتجنيد ضعاف النفوس من شبابه هؤلاء الخونة خطرهم أقسى على السكان من الأعداء، ينخرون عظم الانتماء، ثمّ يتوارون بالخفاء"، تقول روزانا "رأى أبي جسّاسًا في زاوية، كان يراقب المشهد، ويخابر العدوّ من أجل بعض الشّواقل، ينجح ويخفق في ضبط أبطال المقاومة، وأيضا ما كشفته نورا عن تورط فريد وفريدة في تفجير الطّابق السّادس الذي يقطنه أحد المقاومين في البناية المقابلة، ورصد تحرّكات المقاومين، وتعاونهم مع العدوّ لتصفيتهم.وكانا يخابران العدوّ، ويعملان على نقل المعلومات له للقضاء على المقاومين من أجل الحصول على بعض النقود.
لقد وفقت الكاتبة في التطرق إلى كتاب يوميات آنّا فرانك اليهودية الهولندية، ومذكراتها حول معاناتها تحت الاحتلال الألماني،وكيف أن العالم تضامن مع معاناة اليهود، ولإبراز ان العالم يكيل بمكيالين تقول روزانا: "يبكي العالم على موت (آنّا فرانك) بفايروس وهي في معسكر الإبادة ، ولا يبكي على قطاع يسكن فيه مليونا إنسان محاصر منذ ستة عشر عامًا؟ وفي موقف سياسي مُعبّر تقرر روزانا التبول على كتاب آنّا فرانك وكأنها بذلك بالت على كل كتب التاريخ المزيف الذي يتلطى به الآخرين والذي يعتبر آنا فرانك مضطهدة في حين ينظر إلى روزانا على انّها إرهابية كما غالبية شعبها.
ربما لأن الكاتبة إمرأة وبالرغم من ان روايتها كما قلت تنتمي للأدب السياسي، إلا أنها لم تشأ إغفال بعض القضايا التي تتعرض لها المرأة ، سيما وان العنصر النسائي إستحوذ على مساحة لا بأس بها من الأحداث ومجرياتها وهذا ما يقربها أيضا من ألادب النسائي بشكل أو بآخر. وما يعزز هذا الرأي ما لمسناه من طرح الكاتبة لبعض القضايا التي تهم المرأة ومنها قضية الطلاق والتفكك الأسري كما هي قصة نورا التي انفصل والديها بالطلاق عن بعضهما وبدأت معاناتها مع زوجة أبيها فريدة واخوها المتحرش فريد.الذي لم يتورع أن يفبرك لها صورا فاضحة بغية إبتزازها ودفعها للرضوخ له ولمطالبه الدنيئة.
حالة نسوية ثانية أبرزتها الرواية تتمثل بالخالة زهرة التي نذرت نفسها للتعلم ولتعليم أخوتها، ونسيت نفسها بلا زوج وأولاد لأنها بقيت على عهد قطعته على نفسها أمام أمها ساعة الاحتضار، بأن تجمع شمل أخوتها كلّما اجتاحهم تيار القطيعة لأسباب واهية، وتقدّم لهم الدّعم الماليّ والمعنويّ ما استطاعت إليه سبيلًا.
في إشارة ولو بسيطة تشير الرواية لمسألة العنف الذي تتعرض له المرأة كما حصل مع والدة ابراهيم ونادين ومعاملة زوجها المخمور لها حيث كانت تتلقّى صفعة ترديها الأرض وتصيح من ألم: الله لا يسامحك، وينهض الأولاد من نومهم مذعورين، يتحلّقون حول أمهم التي تكوّرت في الزاوية، وقد أنهكت جسدها الرّكلات.ولم تغفل الكاتبة الدعوة إلى التعامل مع أصحاب الإحتياجات الخاصة بكل أنسانية وتعاطف في إشارتها إلى ليلى إبنة نادين فتقول روزانا "ازداد عطفي عليها، رحت أعاتب أيّ شخص يضحك على كلماتها غير المفهومة ولسانها الكبير المتدلي خارج فمها، أخبره أنها لا تستطيع التّنفس دون إخراجه".
لا يمكن مغادرة الرواية دون التنويه بالجانب الفنّي الذي نلمسه في أكثر من موضع، والذي يتمثل في تلك الأناشيد والأهازيج المعبرة والتي تخدم النص. كما ان بعض الأشعار امتازت بشىء من التناص الديني كما جاء في هذا المقطع:
"سأقتحم خلوة روحك إذا ما الليل عسعس..
وأكتب لك دهشتي .إذا ما الصّبح تنفّس..
وأرتّل عليك رقيتي.. إذا ما القلب توجّس خيفة،
إن أغمست حروفي بزيت عشقك المقدّس."
ولأن الحرب لم تضع أوزارها بعد في قطاع غزّة ولم تزل تعبث بأمن القطاع وسكانه، فإن تراتيل في سفر روزانا لم تنته فصولاً بعد ، لذا إرتأت روزانا ان تترك النهاية مفتوحة وان تشارك القارىء في وضع ما يرتأيه من نهاية لهذه المعاناة، من هنا جاءت دعوتها لكل من سيتسنى له الإطلاع على هذا السِفر بأن لا يتعجّل نهايات تراجيدية بائسة، وتدعوه لكتابة نهايات أكثر سعادة، ويزيّنها بالصمود المدهش" . ورداً على دعوة الكاتبة هذه فنحن بدورنا ندعوها لأن تواصل الكتابة لتترجم ألم ومعاناة هذا الشعب المقهوركما فعلت في هذه الرواية وفي غيرها من الكتابات التي ننتظرها.
ختامًا مبارك للأديبة نزهة الرملاوي هذه الوثيقة وإلى المزيد من التألق والنجاح في مسيرتها الإبداعية.