قراءة في قصيدة أيمن اللبدي
في ظلال على (هذه الأرض ما يستحق الحياة) و(أيها المارون بين الكلمات العابرة) و(مديح الظل العالي)، والقدس تواكب موسمها الثقافي، وجدت الشاعر أيمن اللبدي في: (القصيدة لم تقاتل) حيث (سيدة الجهات والوشوم والبلاغة) و (أي الخيارات التي لا تنتهي لن تعدم الظل المقابل) و (حوار موسم بدا للزائرين والعبور)، وغيرها من الدلالات والرموز المكثفة في قصيدة اللبدي، التي تشير بأجوائها الفلسفية وهندستها النفسية، وفنية تسلسل أفكارها الممزوجة بمفرداتها الثنائية، إلى النفس الدرويشي، أو ثقافة النص الدرويشي.
لقد أوقفني استعمال (لم) في عنوان قصيدة اللبدي في «دنيا الرأي» المنشورة بـ: 8/3/2009م، وأثار فضولي: هل قصد اللبدي شيئا بهذا الاستعمال اللغوي؟
وبعد قراءة القصيدة مرتين وجدت نفسي أقول: أحسنت أيها الشاعر؛ صدق حدسي بما أخفته (لم) في ثنايا العنوان، هذا الاستعمال الماضي المتكرر الذي حل في طياته ( لن) المستقبلية، هذه اللغة الثنائية في التعامل مع النص الشعري، قادتني إلى ثنائية المفهوم للقصيدة والرواية في نص اللبدي، وتلك العلاقة التي حاول الشاعر محاكاتها فنيا؛ ليصـل إلـى غـاية عنوان «القصيدة لم تقاتل».
ولكشف رمزية هذه الثنائية بين الرواية والقصيدة، توجب استعراض القصيدة؛ للوقوف على بعض دلالاتها التي تكشف ما سترته القصيدة المعاصرة في طياتها، وما أعلنته الرواية في مسيرتها التاريخية، هذه الثنائية التي لا تنفصل عن ثنائية (لم) و(لن) في قصيدة الشاعر أيمن اللبدي.
إن استهلال القصيدة بالحس الفلسفي، وثنائية اللغة، والتكرار، يؤكد هذه النظرية، حيث قال الشاعر:
عنك القصيدة لم تقاتللم تقاتلمهما تراكضت الأيائلمهما طغت فيها حروف النار واشتعلت كسوار المناحللا زال فيها الجمر عادياوسادياومائياولا يلد القوافلعنك القصيدة لم تقاتل
لم يأت هذا المقطع الشعري بمطلعه وقفله إلا ليؤكد مفهوم القصيدة المتمثلة بالدور العربي، وموقفها من القضية الفلسطينية، فـ (الأيائل) وإن أثارت غبارا من عدوها، فما هو إلا غبار سيزول بسرعة خوفها على حياتها من تهديد يطاردها أو يملي عليها هذه الحركة المتسارعة، وهي على ما وصفها الشاعر؛ لأن القرار في عدوها لم يصدر من ذاتها، ولكنه جاء على غير إرادتها أو صدقها، أو ربما تلذذها بما يحدث خلال ذلك، فما الذي نتوقعه منها؟ هل نتوقع ولادة قافلة موحدة ضد التهديدات الخارجية؟
وهذه النتيجة التي صرح بها الشاعر في مقطعه السابق ولّدت التشاؤم من هذا الواقع المتناقض حين قال في مقطعه الثاني:
لا شيء يأتي مع طلوع الشمس إلا خيبة أخرى جديدة
ويكرر الشاعر هذا المعنى في مقطعه الثالث؛ حتى جعله يختصر حال هذه الأيائل في قصيدتها بقوله:
لا شيء جديا تغيرنختصرلا شيء في الجوهروإنكان انتظارك في الزمانصار انتظارك في المكان
وهذه هي الثنائية التي ألح أيمن اللبدي عليها من البداية؛ ليبرز تناقض الواقع، وما فيه من ثنائيات في التعامل مع القضايا المصيرية، والنتائج المترتبة عليها جراء هذا التخبط المتعجل بدت في نهاية المقطع الثالث في قوله:
وقلادتان لاعتذار واحد قد جزؤوه في مواجهة المعاول
عنك القصيدة لم تقاتل
وقد حاول الشاعر في ظل هذه الحالة السوداوية أن ينظر ببصيص من الأمل في مستقبل مدينته المقاتلة، وحال الأيائل حين قال في مقطعه الرابع: «سنحاول».
فهذه التسويفية التي ملت الرواية منها بفعل القصيدة حاول اللبدي على لسان غيره أن يلتمس لها عذرا في احتفالية القدس عاصمة الثقافة عام 2009 م، حيث قال في مقطعه الخامس:
لا بأس في صدأ الخيول والسيوف
فربما كان المعيق نوع سجاد الخليفة
ولكنه يعود في نهاية هذا المقطع ليؤكد أن الرواية المتمثلة بالأرض المحتلة منذ أسس لها غسان كنفاني مشروعه في إثبات هويتها، وحق شعبها فيها، وسار على دربه بحرفية فنية واعية إبراهيم نصر الله:
ولكنها تبقى الرواية بين كل موسم للموت مزدحم وآخر
موسم يرضي الطريقة
عنك القصيدة لم تقاتل
ثم يخاطب الشاعر القدس في مقطعه السادس بلون حبيبها الدرويش الذي حرمه الموت من عرسها الثقافي، أو نصه الشعري قائلا:
وأنت سيدة الجهات والوشوم والبلاغة
وباقة الأسماء والقلائد
يا قدس آه
ويقارن الشاعر بين عاصمته والعواصم الأخرى، تلك العاصمة بحروفها الثلاثة، ولا ثالث لها، هي العاصمة بالمفهموم الدولى السيدة الأولى في بلاط العالم، وعلى الرغم من كل شيء فهي كما قال عنها اللبدي:
يا وردتي
هذا هو الفرق الوحيد بين ألف وردة مستنسخة
ووردة لم تجردها الدواليب قديم سرها في الرائحة
وكأني بالشاعر يرد على من يقول: «إن هذا الحدث الثقافي يثبت حقنا في القدس ومشرعية نضالنا»، بـ: لا تحتاج القدس من يثبت وجودها أو حق أبنائها في الدفاع عنها، هي القدس التي لا ظل يستطيع ستر ظلها:
أي الخيارات التي لا تنتهي لن تعدم الظل المقابل
قد جاء في السطر الوحيد بلا شروح مفزعة
اليوم لا قديس أو ( فلانتاين ) حقيقيا لوردتك
كل المشاهد خادعة
فالانتظارات التي تعددت أسماؤها خطأ لمطبعي سيد مخاتل
عنك القصيدة لم تقاتل
وبهذه النهاية يعانق أيمن اللبدي مطلع قصيدته، ويؤكد أن المشاهد خادعة، فلا تصدق كل ما تسمع ولا نصف ما ترى، فهل تحققت من مشهد تلك الأيائل التي لا فائدة منها أو هي كالزبد.
وهذا ما قصدته في مقدمة مقالتي عن قصيدة أيمن اللبدي التي أضعها في رتبة القصائد الموسمية لعام 2009م، والقصيدة في نهاية المطاف إن خرجت من عند صاحبها أصبحت ملكا للنقاد ولمتذوقي الأدب.