قراءة في مجموعة «بائع العطور» القصصية
الكاتب سليم أنقر، ابن مدينة الطيبة في المثلث، أهداني مجموعته القصصية، "بائع العطور" التي صدرت مؤخّرا، وهي إصداره التاسع ومجموعته القصصية السابعة. في المجموعة إحدى عشرة قصة، أولاها "بائع العطور" التي اختارها عنوانا. وفيها يُعالج الهمّ الفلسطيني في الأرض المحتلة. تليها تسع قصص يُعالج فيها الواقع الذي يعيش فيه، متّخذا من مدينته، "الطيبة"، منطلقا لنصوصه، ومن "الطيبة" وما يدور فيها، فضاء لأحداث القصص التسع، ورمزا للمجتمع العربي الفلسطيني داخل إسرائيل. ويُغلق المجموعة بقصة "السفر"، يطرح فيها قضيّة الإنسان وماهيّة وجوده.
من تنوّع القضايا التي يُعالجها الكاتب في قصصه، نجد أنّ كتابته تُشكّل صرخة هادئة إن صحّ التعبير، في وجه السلطة والمجتمع لكونهما مصدرا للقهر بأشكاله المختلفة. ولكنّه بالأساس، يكتب لإثبات وجوده كإنسان وكمبدع، ثم ليعبّر عن قلقه إزاء ما يحدث في المجتمع، محاولا لملمة شتات ذاته المتشظّية، بين مجتمع يتمزّق بين حاجات وجوده الأساسية وكماليات الحياة التي تطغى على أساسيّاتها غالبا، غافلا عن أسباب معاناته الكبرى، وبين سلطة ظالمة تحرص على ألّا يُفيق من غفلته، لأنّ مصلحتها تقتضي أن يظلّ كذلك.
من هنا، نجد أنّ سليم أنقر الذي يُعالج الهمّ الفلسطيني بأشكاله المنفصلة بين الأرض المحتلة وداخل الخطّ الأخضر، يُعالج أولا همّه الذاتي، منطلقا من حاجته إلى طرح سؤال وجوده، وإثباته كإنسان في واقع تبدّلت قيمه وفقد فيه الإنسان قيمته. وبذلك تُصبح الكتابة ملاذا للخلاص، وتحقيقا للذات وإثباتا للوجود.
الهمّ الفلسطيني في الأرض المحتلة
في القصة الأولى فقط، يُعالج الكاتب الهمَّ الفلسطيني في الأرض المحتلة. "بائع العطور" هي قصة شاب يُدعى "سامي"، من مدينة طول كرم المحتلّة، خريج جامعة بعلوم الحاسوب، لم تسعفه شهادته بالحصول على وظيفة، فاضطرّته ظروفه القاسية للعمل كبائع للعطور قرب حاجز التفتيش الأمني الذي يقيمه الاحتلال قرب مفترق عنبتا نابلس الطيبة (13)، حيث يمرّ العابرون من وإلى الأرض المحتلة. بعد يوم عمله الأول حيث يعود "سامي" إلى بلدته يجرّ الخيبة والإحباط ولا يجرؤ على التفكير: "كيف سيكون غدا؟" (20)، وهي نهاية لا تترك نقطة ضوء صغيرة، أو بصيصا من أمل يتسلّح به البطل، ويُنير قلبه وطريقه إلى المستقبل. نهاية متشائمة تعكس رؤية الكاتب حول مدى الإحباط الذي يعيشه شباب الأرض المحتلة، وحول غياب الحلّ لمعضلة الاحتلال والقضية الفلسطينية عامة.
اتّخذ الكاتب من "سامي" رمزا للشباب الذين يلفّهم القهر والضياع في معاناتهم المزدوجة. فهم من جهة، يقهرهم الاحتلال المرموز إليه بحاجز التفتيش، ومن جهة أخرى السلطة الفلسطينية التي لا تهتمّ بهم وبقضاياهم، ومنها إيجاد فرص عمل مناسبة لكفاءاتهم. زد على ذلك ما يزيدهم إحباطا، تعليقات أبناء جلدتهم من عرب الداخل الذين يمرّون بالحاجز، بما فيها من إشفاق أو لامبالاة، يكرّرونها على مسامعهم ولا يشترون بضاعتهم (16-17). بهذه التعليقات يفضح الكاتب موقف عرب الداخل السلبي أو اللامبالي من قضية الاحتلال وما يترتّب عليها من معاناة يعيشها أهلنا في الأرض المحتلة. فبالإشفاق والتعاطف، أو التهكّم واللامبالاة، لا ندفعهم نحو أيّ أفق لحلّ مشاكلهم العامّة والخاصّة.
"سامي" وأمثاله من الشباب حملة الشهادات الجامعية التي لا قيمة لها إلّا التعليق في البيوت، ترغمهم ظروفهم الاجتماعية والاقتصادية إلى مزاولة أعمال لا تمتّ لكفاءاتهم بصلة، مثل العمل في بسطات الخضار أو أيّة بضاعة أخرى في السوق أو في الشارع، أو العمل بجرّ عربات ينقلون بها بضائع المتسوِّقين إلى سياراتهم مقابل أجر زهيد لا يُسمن ولا يُغني من جوع، قد يصل بهم حدّ الذلّ في الحصول على لقمة العيش.
تبدأ القصة بمونولوج طويل، يهجس به "سامي" قبل خروجه من البيت ويستمرّ أثناء تسكّعه في الشوارع، إلى أن يصل إلى دكّان صديقه "محسن" (9). وهذا المونولوج الذي يُعبّر عمّا في نفس "سامي" من قلق وقهر، يُعبّر أيضا عن المعاناة القاسية التي يعيشها أمثاله والناس جميعا الذين يرحون تحت نير الاحتلال.
الهمّ الفلسطيني في فلسطين المحتلة عام ١٩٤٨
هذا ما تُعالجه القصص التسع التالية التي يتفاعل فيها الكاتب مع الهموم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية للجماهير العربية في إسرائيل، حيث يمتح شخصيات قصصه من الواقع الذي يعيشه في مدينة "الطيبة". وهو واقع مشابه لواقع المدن والقرى العربية الأخرى. وكذلك الزمن فيها قد يعود بنا إلى فترة عاشتها الأقلية العربية، قبل النكبة وبعدها إلى اليوم (زمن الكتابة)، أو عاشتها فلسطين كلّها قبل النكبة، منذ أيّام الثورة الكبرى عام 1936. وهذا ما يجعل "الطيبة" وناسها رمزا للبقية الباقية في وطنها بعد النكبة عام 1948.
لا تنفرد قصة في معالجة همّ بعينه، بل نجد تلك الهموم متداخلة متعالقة في القصة الواحدة، كما هي فعلا في حياة الناس، حيث لا تنفصل همومهم الاجتماعية عن همومهم الاقتصادية والسياسية. ومن خلال الشخصيّات والأحداث، يكشف الكاتب سلبيات المجتمع التي يرغب بفضحها وتغييرها، ولكنّه لا يغفل عن بعض الجوانب المضيئة فيه.
في قصة "وتأبى ذكراه أن تُنسى"، يُعجَب الراوي في صغره، بـ "الغريدي" ويُحبه لدرجة أنّه يرسخ في ذاكرته. وذلك يشي باستمرار الهمّ الذي تُمثّله تلك الشخصية، الهمّ الوطني والسياسي بشكل خاص. لشخصية "الغريدي" بُعدان: وطنيّ وسياسيّ، ساهما في تشكيل شخصية معظم الأطفال الذين وُلدوا قبيل النكبة أو بعدها، حيث تبلور وعيهم الوطني والسياسي، متأثّرا بما خلّفته النكبة من أحداث وشخصيّات، الأمر الذي يجعل "الغريدي" رمزا، بدليل أنّ دموع الراوي "لا تبكيه وحده، بل تبكي المئات بل الآلاف من أمثاله، هنا وهناك في البلاد العربية كلّها" (32). يبدو ذلك واضحا في تأثّر الراوي الذي ظلّ صوت "الغريدي" يرنّ في أذنه: "ليس مرضي السرطان، مرضي هزيمة العرب" (30).
تبدأ القصة من النهاية، من الذكرى التي كشفت المستور وأجّجت رغبة الراوي بالبحث عن قبر "الغريدي" وأمنيته أن يضع بجانبه شاهدا رخاميا ينقش عليه "بالخط الواضح الكبير: "هنا يرقد أنبل وأطهر رجل، قدّم ماله وحياته في خدمة بلده وشعبه، لكنّهم تنكّروا له وجحدوه، فعاش مظلوما ومات مجهولا (21).
الأطفال في صغرهم، ينتبهون لما يفعله الكبار ويهتمّون به ويتذكّرونه. ولذلك بالنسبة للراوي، وقد كان طفلا في بداية وعيه، يكفيه أنّ "الغريدى" يُسمّي كلبه "رمثاوي"، وهو لقب عضو الكنيست (البرلمان الإسرائيلي) ابن القرية الذي يكرهه الناس "بسبب تعاليه ودعمه للحكم العسكري وتأييده له في ظلمه واستبداده بأهالي البلدة" (23)، ويكفيه أيضا أن يراه يمرّ أمام بيته وهو ينادي كلبه: "يللا يا "رمثاوي" (23)، متحدّيا عضو الكنيست العاجز عن مواجهته، لسبب يجهله الراوي. ذلك الموقف البطولي الذي وقفه "الغريدي" من عضو الكنيست وأمثاله من عملاء تآمروا على شعبهم، كان كافيا ليهتمّ به الراوي بعد موته، ويبحث عن حقيقته، ليجد شخصية وطنية، "بطلا باع أرضه ورصد ماله للثورة، ثورة ال 36، تجنّد فيها ... وقاتل الإنجليز" (31) وفضّل حياة الفقر والتشرّد على الخيانة والعمالة. توظيف بيع الأرض لم يكن موفّقا في هذا السياق، فماذا ينفع المال إذا فقدنا الأرض؟
شخصية عضو الكنيست هي رمز لكل العملاء الذين خانوا شعبهم ووقفوا في صفّ السلطة الصهيونية التي اغتصبت أرضهم وشرّدت شعبهم، وأذاقت بمساعدة عملائها، كل من تبقّى في الوطن، كل أصناف الظلم والقهر. أمّا "الغريدي" فهو رمز لكل الشرفاء الذين فضّلوا الظلم والقهر على الخيانة. وكلا الرمزين كان وما زال موجودا في كلّ المدن والقرى العربية. والكاتب يدعو اليوم، إلى نبذ العملاء واحتقارهم، ونبذ الخوف الذي يدفع الناس إلى تجاهل الوطنيين الشرفاء من أمثال "الغريدي"، ولهذا ترك الراوي في كبره، يبحث عن قبره ليضع عنده الشاهد المذكور أعلاه.
في القصّة التالية أيضا، "مقهى النسيان وكرة القدم"، لا يبتعد الكاتب عن الهمّ الوطني وأبعاده السياسية. وقد أجاد في اختيار المكان، المقهى، ففيه يلتقي الناس بكلّ شرائحهم الاجتماعية، من كبار وصغار، عمال ومثقّفين، أغنياء وفقراء، متديّنين وغير متديّنين، ولأسبابهم الفردية أو الجمعية التي تتعدّد سلبا وإيجابا، ما يجعل "المقهى" رمزا أو صورة مصغّرة لمدينة "الطيبة" التي اعتبرناها سابقا، رمزا أو صورة مصغّرة للجماهير العربية في الداخل. في المقهى يلتقي الناس للمتعة أو قضاء الوقت ونسيان الهموم. وقد أجاد الكاتب أيضا في إضافة عنصرين مهمّين يخدمان القضية الأساس التي تعالجها القصّة: مشاهدة لعبة كرة القدم، ورجال المخابرات الذين يُمثّلون السلطة في إسرائيل.
ينتقد الكاتب المجتمع الذي يهرب من مشاكله ولا يُواجهها. انشغال الناس بكرة القدم ما هو إلّا هروب، يفضح فيه الكاتب لامبالاة المجتمع وانشغاله عن قضاياه الأساسية، اليومية والوطنية، ناسيا المؤامرة التي تُحاك ضدّه. وهذا الوضع يُشكّل أرضا خصبة لمُضيّ السلطة الصهيونية في تنفيذ مخطّطها لترسيخ جهل المجتمع ودوام سُباته. يبدو ذلك جليّا في الحوار الذي دار بين رجليّ المخابرات اللذيْن دخلا المقهى متنكّرين (45-49).
يطمح الكاتب في هذه القصّة إلى توعية المجتمع وإيقاظه من سباته. وينعكس ذلك في استدعاء المعلم لولي أمر "سميح"، الطالب الذي "شارك أباه وزبائن المقهى احتفالهم ... وعاد برفقة أبيه مع ساعات الفجر إلى البيت ... فاستبدّ به النعاس أثناء الدروس" (52). من حيث المبدأ لا يُعارض المعلم مشاهدة لعبة كرة القدم أو ممارستها، ولكنّه يرفض أن تكون على حساب القضايا الأساسية الهامّة، مثل التعليم، حيث أعطاها المجتمع أكثر مما تستحقّ، وجعلها مقدّسة يُضحي بكل شيء من أجل مشاهدة مبارياتها (54).
حاول الكاتب توعية المجتمع من خلال استدعاء المعلّم لوالد الطالب، وقد فضح بذلك قصور الأهل في تربية أولادهم. ظهر ذلك في شتيمة الأب لابنه، وفي تصرّف الابن الذي استغرب تصرّف أبيه و"راح يُفتّش في ثنايا ذاكرته بذهول وبراءة: متى قال له أبوه ذلك! (56).
قصة "الحلّ" تطرح عجز المجتمع عن إيجاد حلول جذرية وموضوعية تُناسب مشاكله المتورّط فيها. ظهر ذلك في عجز "أحمد أبو خشب" الذي نصحه "عبد الكريم"، صاحب المقهى، بالتوبة وقال له: "عليك بالجماعة (المشايخ)، هم الذين سيخلصونك مما أنت فيه بمشيئة الله" (65-66)، وأنّ ما من أحد يستطيع مساعدته إلّا "سامي زقلوط"، أحد أفراد عصابته سابقا، الذي حلّ مشاكله بهذه الطريقة، أصبح اليوم الشيخ الصالح الذي يعرفه الناس باسمه الجديد الذي اختارته له الجماعة، "أبو محجن"، (67-68).
هذا العجز الذي يعيشه المجتمع، أفرادا وجماعات، يُسبّب له ولأفراده، عمى البصر والبصيرة فلا يرى أحدهم أمامه إلّا طريقا واحدا للحلّ، الدين، متمثّلا بالتوبة واتّباع الجماعة التي تشترط لحلّ مشاكله، أن يتبعها ويُنفّذ تعليماتها ولا يُناقشها. وهذا يعني أن يبقى على جهله وعماه. وقد ظهر عجز المجتمع في صمت الأم التي أرادت الخلاص لابنها، ولكن لم يرق لها انضمامه للجماعة، لذلك عندما ذكّرها بماضيه وكثرة دخوله للسجن، "سكتت ولم تنبس بحرف" (80).
استغلال الدين بأشكال مختلفة، من أجل حلّ المشاكل الشخصية والتستّر على العيوب، آفة متفشية في المجتمع تُقلق الكاتب، لذلك نجده يُعالجها من وجوه مختلفة.
في قصّة "شيء يدعو للغرابة" التي تدور أحداثها في مقهى أيضا، يدّعي "عبد الوكيل" أنّه عالم بالدين لا أحد يُضاهيه في علمه. "أنا لا أقبل بأقلّ من "القرضاوي" ليجادلني في الدين" (83). والكاتب لم يختر "القرضاوي" عبثا أو اعتباطا، فهو شيخ رغم سعة علومه الدينية إلّا أنّه سيئ السمعة ومعروف بإقباله على السلطة وقبول أموالها مقابل فتاوى "شرعية" وتصريحات سياسة يدعمها بها. وعبد الوكيل مدّعي التديّن والعلم بالدين، لا يُصلّي، ولا يردعه دينه عن سرقة مائة شاقل سقطت من "فريد" حين قام ليدفع الحساب ويخرج، لأنّه سئم من حديث "عبد الوكيل" الذي أفتى للسرقة، بأنّها "لقية واللقية لمن لقيها حتى يظهر صاحبها ويسأل عنها"، رغم أنّه يعرف صاحبها (87-88). أمثال "عبد الوكيل" و"القرضاوي" موجودون بكثرة في المجتمع، الأول بجهله والثاني بعلمه، لا يردعهما رادع عن استغلال الدين لمصالحهم الشخصية.
في قصّة "شلّة المراهقين"، لا يبتعد الكاتب عن المقهى وإن كان المضمون مختلفا، حيث يُعالج مسألة التربية الخاطئة التي يقدّمها المجتمع والبيت لأبنائه المراهقين الذين ينشؤون بعيدا عن القيم والأخلاق، على كره التعليم وعدم احترام الكبار. ينتظمون في مجموعات (شلل)، لا همّ لهم إلّا الاهتمام بمظهرهم للفت انتباه المراهقات ومعاكستهنّ. وكلّ ذلك قد يتسبّب بكوارث وخسائر بشرية ومادية، كما حدث لـ "حماده" الذي تسبّب بحادث طرق بسبب حركاته الصبيانية وغير المنضبطة في الشارع، ليتظاهر أما المراهقين والمراهقات، وذلك في اليوم الأول لسياقته السيارة التي اشترتها له أمّه التي رضخت لضغوطه واستدانت ولم تأبه بموقف أبيه المعارض. وقد نُقل إلى المستشفى فاقد الوعي. وأكثر ما يدعو الكاتب للقلق، هو لامبالاة المجتمع الذي لا يتعلّم من أخطائه، ويقف عاجزا أمام كلّ محنة يقع فيها، كما ظهر ذلك في نهاية القصّة حيث "أخذ الوالد يُشعل السيجارة بعد الأخرى، ليُخفّف وقع المصاب على نفسه. وينفخ من شدّة الغيظ والألم. أمّا الأمّ فلم ينفعها البكاء ولا الندم. وأمّا شلّة المراهقين فبقوا على حالهم وكأنّها مجرد حادثة عابرة" (101).
في قصة "مشاعر أمّ في يوم عيدها"، نشهد المفارقة التي يعيشها مجتمعنا الذي يحترم عيد الأمّ ولا يحترم الأمّ نفسها، حيث نجد الزوج يحتفل بزوجته ويُغرقها بالهدايا وكأنّ العيد عيدها، وينسى أمّه التي يُقدم لها عذرا أقبح من ذنب، حين يقول: "سنقضي ليلتنا في متنزّه خارج البيت، فيه طعام وأغان وموسيقى صاخبة، وهذا لا يُلائمك، فأنت حاجّة ومتديّنة" (115). يفضح الكاتب الرجال الذين ينسون أفضال أمّهاتهم بشكل عام، وبشكل خاص أولئك الذين يفقدون رجولتهم أمام نسائهم ويخضعون لطلباتهنّ بل لأوامرهنّ، حتى لو كان الأمر يتعلّق بالأمّ وإنكار فضلها. وهو أيضا عرض غير مباشر لقضية العلاقة بين الحماة وكنّتها والتي تقوم غالبا على العداء والكراهية. قد تُبالغ الأمّ بدافع أمومتها، في تحميل المسؤولية للزوجة، لتُقلّل من مسؤولية ابنها الذي من جهة تكفيه مصيبته (زوجته)، ومن جهة أخرى لا تريد له أن يفقد أمامها هيبة رجولته كلّيا.
في قصة "حادثة" يطرح الكاتب أكثر من قضية تُقلق الإنسان:
انهياره تحت عبء مسؤولياته وكثرة متطلباتها الحياة التي لا تترك له مجالا للصمود. إنّها قصة "عبد الجليل" الذي تدهسه سيارة أثناء سيره في الشارع ذاهلا عن حركة السير بما يعتمل في نفسه من غضب "لأنّ مصاريف بيته وطلبات أولاده وبناته الثمانية زادت عن حدّها المستطاع، فلم يعد بمقدوره القيام بها. مشى يشكو ويتذمّر ... من وين أجيب؟ طلباتكم لا بتوقف ولا بترحم ولا حدا فيكم بعين" (118-119).
عدم إدراك الإنسان قيمة الأشياء إلّا بعد فقدانها. هذا ما نفهمه من تصرّف زوجة "عبد الجليل" بعد موته. فقد بدأت تنوح وتشكو: "راح، راح، وترك لي ثمانية! كلهم بدهم وأنا منين أدبّر حالي؟"، بينما في حياته، وكما يُفهم من تعليقات الحاضرين على تصرّفها، "سوّدت عيشته والدنيا بعينيه، بكثرة نكدها وشجارها معه؟" (124).
قضية القضاء والقدر وعبثية الحياة التي انعكست في حوار دار بين بعض الحاضرين في خيمة العزاء (124- 129). وأحسن الكاتب توظيف التراث في قصّة "جبر"، (128-129)، ولكّنه أخفق في نقلها كما يتداولها الناس، "هذا قبر جبر، اللي ما عرف طعم الهبر، من بطن إمّه للقبر".
ولا يختلف قلق الإنسان من قيمة الحياة أو عبثيتها، وممّا يدور في المجتمع، في قصّة "في محراب الذكريات"، وفيها يشتمُّ القارئ سوداوية الكاتب، رغم أنّه لم يطرحها علنا. القصة الوحيدة التي تشذّ عن هذا الإطار، هي "أمّ رؤوم وسائقة حذرة"، حيث يسرد لنا قصة امرأة شابّة كانت تقود سيارتها، وقد أوقفتها في الشارع ما أدّى إلى أزمة مرورية، بسبب قطة كانت تقعي في الشارع وتأكل قطعة من اللحم غير عابئة بالإنسان وهمومه المتمثّلة بحركة السير. الغريب في الأمر أنّ تصرّف المرأة لم يُثر غضب العالقين في طابور السيارات (وليس تابور كما ظهرت في القصّة)، فقد أبدوا صبرا وتفهّما، والسائقة اعتذرت عما سبّبته لهم. أمّا ما الذي أراده الكاتب بالتحديد من هذه القصّة، فغير واضح. هل هو لامبالاة القطّة بهموم البشر، أم هو توقّف الأمّ تعبيرا عن حنانها وأمومتها، أم هي دعوة للنساء لتوخّي الحذر في سياقتهنّ، أم هي إشارة إلى أنّ مجتمعنا رغم ما فيه من سلبيات، ما زالت فيه جوانب مضيئة، مثل الصبر والتفهّم وعدم الحكم بظواهر الأشياء، ما أدّى إلى أن تنتهي الأزمة ببسمة وروح طيبة، كما حدث للسائقين الذين صبروا حتى عرفوا سبب الأزمة (135).
لعلّ أكثر الأسئلة التي تواجه الفلاسفة والأدباء هو السؤال: "ما الإنسان؟". ولعلّ قلق سليم أنقر الذي شهدناه في قصصه، نابع بالإساس من هذا السؤال، حيث ذكرت سابقا أنّ دافعه الأول للكتابة، هو إثبات وجوده. ويتجلّى السؤال لديه بوضوح لافت في القصّة الأخيرة، "السفر"، حيث يكون السفر رمزا للحياة والانطلاق فيها بشكل فطريّ، "الفطرة هي السفر والسفر حياة" (162). فالبطل الذي يجهل كيف بدأ سفره، ومن الذي قرّر له أن يُسافر، هو أم غيره؟ (156)، يجد نفسه في بحر الحياة العاصف، يصارع أمواجه العاتية التي تقذفه إلى الشاطئ خائر القوى. وهناك بعد أن ظفر ببعض الراحة وخلا بنفسه، انهالت عليه أسئلة وجوده "وأخذت تتناوشه: لماذا سافرت؟ لماذا لم أمتنع؟"، وغير ذلك (157). وهو على هذه الحالة، يظهر له "شيخ هرم يلبس ثوبا طويلا أبيض يبدو غاية في البساطة والعزوف عن الدنيا" (157-158)، يقول له: "سلّم أمورك لله ثم سر!" (159)، يحضّه على المواجهة التي لا تكون إلّا بمتابعة السفر بالفطرة، فعلم الإنسان ناقص، "وما أوتيتم من العلم إلّا قليلا" (161)، ولا بدّ له من أن يُتابع سفره ويُقاتل إلى أن يُحقّق ذاته مؤقّتا، بالانتصار أو الشهادة (162-163).
ولكنّ الكاتب كما بطل قصّته، "أحمد الطيب"، يتخبّط بين الفلسفة الوجودية والموروث الديني. يظهر ذلك من تساؤلات البطل وعدم اقتناعه من كلام الشيخ إلّا بضرورة متابعة السفر، لأنّ حواره معه خلق لديه قلقا آخر. والوجودية ترى أنّ القلق "ليس بحاجز يفصلنا عن العمل، ولكنه جزء من العمل وشرط لقيامه". الكاتب وبطله أكثر ما يُقلقهما هو الجهل والخطأ بسببه، "وهل من العدل أن يُعاقب الإنسان بجهله؟" (161). إذن فالسفر يتطلّب العلم والمعرفة، بهما فقط يستطيع الإنسان مواجهة العقبات التي تفرضها الحياة. فهو يُدرك أنّ "الإنسان مسؤول عن كل ما يصدر عنه ... ومحكوم عليه أن يبدع". وما ظهور "الهيدرا" (165) وانتصاره عليها بالسلاح، إلّا تأكيد لوجود المعرفة واستخدامها كسلاح أبدع الإنسان بواسطته انتصاره كشرط لمتابعة السفر.
في الشكل والأسلوب
تأتي صرخة سليم أنقر في قصص مجموعته، خفيفة هادئة لا تتفجّر في درامية السرد ولا في تطوّر الأحداث والشخصيات، ولا في النهايات، ما يشي بأنّ الكاتب لم يلتفت للشكل بقدر التفاته لمضامينه وإثبات وجوده. فتأتي صرخته للملمة ذاته المهدّدة أمام شظايا المجتمع.
ولذلك نجد أنّ النزعة عنده تميل إلى الحفاظ على عالمه الداخلي، أكثر من نزعته لتفكيك عالمه الخارجي وبنائه من جديد. فالكاتب لم يُظهر قدرة على سبر أغوار نفوس شخصياته.
يبدو ذلك في المبني الكلاسيكي والسرد الأفقي والتوظيف المتواضع لتقنيات تيار الوعي التي غالبا ما ظهرت على شكل مونولوج طويل أو استرجاع، لا يعكسان عمق الحالة النفسية عند الشخصية. كذلك الاحتفاء بزمكانية الأحداث بدا تعميميا ضعيفا، والارتداد في الزمن أو التنقل بين الأزمنة، للتعبير عن تشظّي الزمن كانعكاس للتشظّي في نفوس الكاتب وشخصياته. وذكره لأسماء بعض الأماكن لم يزد على أنّه ساهم في إظهار واقعية القصص. ومن هنا، يظهر أنّ الكاتب بحث في كتابته عن هويّته ككاتب وكإنسان يُؤلمه ما يحدث. وغالبا ما نقل ذلك بشكلٍ تسجيليّ سطحي يفتقر إلى الحفر في طبقات النفس. فهو غالبا ما ينظر من الخارج، من زاوية رؤية قد تبدو شمولية أحيانا، ولكنّها في الحقيقة زاوية ذاتية ضيّقة تظهر في توظيفه المتواضع لثقافته. كما أنّه قلّما يترك شخصياته تتحرّك على سجيّتها، لتخرج عن صمتها وتبوح بما يعتمل داخلها من نزعات ونزوات وانكسارات وانتصارات. وأحيانا يترك شخصياته عالقة مستسلمة تطرح سؤالها على استحياء، كما حدث للبطل في قصة "بائع العطور" حين قال في نهاية القصة: "حملت بضاعتي ثم عدت إلى بلدتي أجرّ الخيبة والإحباط. ولا أجرؤ على التفكير: كيف سيكون غدا؟" (20). وكذلك فعل في قصته الأخيرة، "السفر"، حيث ظلّ الحوار، سواء بين البطل وبين نفسه، أو بينه وبين الشيخ، سطحيا غير مقنع.
يُؤخذ على الكاتب أيضا، إغراقه في الوصف والحوار كأنّما يغيب عن باله أنّهما يجب أن يكونا فقط في حدود دعم السرد وليس على حسابه، الأمر الذي أدّي إلى ترهّل الحبكة في كثير من القصص (أنظر افتتاحية قصة "مقهى النسان" (33)، وصف جميل ولكنّه لا يخدم أهداف النصّ).
ساعدت في ترهل الحبكة كذلك، لغة الكاتب التي خانته في أكثر من موضع. "شرب جرعة من الماء" (74). نقول تناول جرعة، فالماء هو الذي يُشرب وليس الجرعة. ويطغى الخطاب الديني في بعض القصص لدرجة أنّها تتحوّل إلى ما يُشبه الوعظ في خطبة الجمعة (ص 74). كما جاءت بعض العبارات قاصرة عن تأدية المعنى. ففي قصة "الحلّ" مثلا: "عرضتَ عليّ فكرة التوبة ففكرت بها ووزنتها وفحصتها في ذهني ونفسي فوجدتها معقولة" (65). و"لا تظنّ ذلك يا أبا خشب، إنّهم ليفرحوا بك ويرحّبوا بك وبتوبتك ويُساعدوك فهذا أحبّ عمل عليهم" (ص 67) و"واغطا لا يُفارق فمه التسبيح والتحميد" (ص 68). اللغة تبدو سطحية لا تعكس عمق الحالة النفسية التي تعتمل داخل الشخصية بعد سماع فكرة التوبة. ومفردة "معقولة" سطحية لا تفي بالغرض. وكذلك عبارة "لا تظنّ". هذا بالإضافة لما في هذه العبارات من أخطاء نحوية وإملائية أو مطبعية.
وتتقعر لغة الكاتب حين يُجريها فصيحة على لسان شخصية من العامة لا يسمح لها وضعها الاجتماعي ولا ثقافتها بذلك، "بعرضي، إنّك سحرتني!" (ص 95)، أو حين يخلط بين اللغتين: الفصيحة والعامية. مثلا الحوار بين السائق والأم السائقة (ص 134). وكذلك سرده وتفصيحه لقصة "جبر" وكسره للسجع فيها (ص 128). هذا بالإضافة إلى كثرة الأخطاء النحوية: (خمسة ص 31، ذاهبا 56، وقورٌ 71، عادةً 106، أشعثاً 157)، والإملائية أو المطبعية: (سقيفه 25، ضَّال 32، ارلساحة 33، وفترّ 61، فارنبسطت 70، واغطا 68، & 74، تابور 133، 135، 136، مخلقة 166).
وممّا يُسيئ لجمالية القصة ويُزعج القارئ، سوء تنسيق الكلام في الصفحة وفي النصّ، حيث يتردّد بكثرة، قفز الكلام إلى سطر جديد في منتصف الجملة وبدون داع (النماذج من القصة الأولى فقط: ص 19، 22، 23، 24، 25)، أو الانتقال في السرد إلى سطر جديد، أو في الحوار قبل أن تُنهي الشخصية كلامها، فيبدو لأول وهلة وكأنّه انتقال من الحوار إلى السرد. وكذلك غياب الشَّرطة (-) قبل جمل الحوار أو وضعها قبل كل جملة أو عبارة من حوار شخصية واحدة قبل إنهاء كلامها ولم يُقاطعها أحد.
وخلاصة القول، إنّ الكاتب سليم أنقر طرح مضامين متنوّع تهمّنا جميعا، ولكنّ نجاحه في طريقة طرحها وعرضها كان متواضعا. فقد طرح جملة من القضايا الممتوحة من مجتمعنا وهمومنا الفردية والجمعية، واختار لها غالبا شخصيّات تُناسبها. إلّا أنّ اهتمامه بعناصر البناء: الشكل والأسلوب واللغة، كان متواضعا.