قيم الثقافة وأخلاق المثقف
أعتقد جازماً أن النظام الأخلاقي الثقافي محكوم بمهمات أساسية، ترتبط بالمجتمع والارتقاء به وتحقيق النهضة المنشودة، والثّقافة لها دور أساسي في هذا، فهي الحاكم وهي الموجّهُ الأساسي لكل فعل خلاّق تنويري، وهذا يتحقق إذا ما كانت الثقافة حيّة قويّة فاعلة، فإذا ضعُف نظام القيم والأخلاق وذبلت الثّقافة، يغدو أساس التعامل هو: "تحقيق الرّغبات السّلوكية" دون اعتبار للجماعة وسلامتها، و دون مراعاة لمستقبل المجتمع وكيف ينبغي أن يكون.
وعندما ينحرف المثقف عن مبادئه ويتخلى عن منظومة الأخلاق التي من واجبه الدفاع عنها، يصبح لزاماً على المجتمع أن ينبري للوقوف في وجهه ومحاسبته، لأن المجتمع ينظر إلى المثقف كمدافع عنه، وحافظٍ لوجوده الحضاري، بينما لا يحفل _المجتمع_ بتغيّر مواقف السياسيين، ولابدّ من الإشارة؛ إلى أن الثقافة على المستوى الفردي، لا ترتبط بالشهرة، أو بالإنتاج الإبداعي، بل ترتبط بالمعرفة، حيث إن الإلمام بمواضيع عديدة، والانسجام الأخلاقي والحرص على المصلحة الوطنية العليا، والوقوف في وجه أعداء الوطن، سيجعل من الفرد مثقفاً، حتى وإن لم يقدّم منتجاً.
ولعلّ من أهمّ الكوارث في المشهد الثقافي ومن أهم الأمراض التي يعاني منها القائمون على العمل الثقافي، النزوع المستمرّ نحو الفردية. وهذا عائد في المقام الأول إلى حالة مرضية يعاني منها هذا "المثقف النخبوي النرجسي المتضخم" ليقينه أن هذا الموقع الذي يشغله هو بمثابة المزرعة التي ورثها عن آبائه وأجداده، حيث إنه لا يرضى عن شيء ولا حتى عن نفسه، فيبقى وحيداً يدور ويدور حول نفسه، ولأن طموحه اقتصر على منصبه، يقف عند حد النقد للموجود فقط، فتتلاشى المشاريع التي كان بإمكانه العمل عليها وتحقيق الارتقاء من خلالها، لأن المشاريع الثقافية والمعرفية_ التي تنهض بالواقع وتنسف كل ما من شأنه أن يذهب بالثقافة والمعرفة إلى غياهب الجهل التاريخي _ هي التي تطوّر المجتمع وتنهض بالثقافة، لا الأعمال الفردية التي من سماتها النقد المستمر والممل مع صمت عن البدائل، فالساحة الثقافية والاجتماعية اليوم ليست بحاجة لمن يتخصّص في النقد المطلق، أو الشعر، أو الدراسة والمسرح، قدْرَ حاجتها إلى مشاريع حيّة وبدائل واقعية.
من هنا أجد أن على المثقف - ولكي يكون عملياً وواقعياً أكثر – أن يتحوّل من أسلوب العمل الفردي الذي يتوقف عند حدود النقد، إلى أسلوب العمل المؤسساتي الجمعي الذي يدفعه إلى فعل ثقافي حقيقي في زحمة العمل والإنتاج، ويخلق حراكاً ثقافياً مهماً من شأنه أن يتصدى للفكر الظلامي التدميري، وبالتالي يمكنه تحقيق الإيجابية وليس السلبية.
وأعني بهذا التحول نحو المؤسساتية، الاندماج ضمن مشاريع جمعية اجتماعية ثقافية تحمل أهدافاً واضحة. بحيث يفرغ المثقف طاقاته من خلال تلك المشروعات في سبيل تحقيق الأهداف الوطنية العليا المشتركة. وذلك _ لا شك _ يعود بالنفع الكبير على المجتمع وعلى المثقف نفسه، حيث يجد لكفاءته إطاراً يستوعبه وينشّطه، فتتحول كفاءاته إلى مشاريع ترفع من شأنه وتحلّ مشاكله ومشاكل المجتمع أيضاً. إننا بأمسّ الحاجة إلى المثقف النهضوي التنويري الحقيقي، المثقف الذي لايكره، ولايحقد، ولايحاول الإطاحة بوجهات نظر الآخرين المختلفين معه فكرياً وثقافياً، ما أحوجنا لتبني الشعار الذي أطلقه . فولتير _وكان من خيرة مثقفي عصره، في يوم من الأيام_ عندما قال: (قد أختلف معك بالرأي، ولكنني مستعد أن أدافع حتى الموت عن حقك في أن تقول رأيك).