حوار مع الشاعر سيد عبد الرازق
الدكتور سيد عبد الرازق كاتب مسرحيّ مصريّ له حضوره الخاص، وشاعرٌ يعد واحدا من أبرز الأصوات الشعرية الشبابية المعاصرة، وهو حائز على الكثير من الجوائز الأدبية المرموقة ، مما يجعله يتبوأ مكانة مهمة في صدارة المشهد الشعري العربي، كما يعتبر سيد عبد الرازق ممن يمثلون بحق التمظهرات الجمالية لما نسميه "بالشعرية العربية الجديدة" التي مازالت ومنذ عقود تشتغل بتأنٍ وبجدٍ على إنجاز مشروعها الفني، سنحاول في هذا الحوار الذي أجريناه معه حول إصداره الشعري الجديد «كانڨاس» المنشور من قبل دار إبهار للنشر والتوزيع، أن نتطارح معه أهم المقولات المتعلقة بالمستجد والطارئ على القصيدة العربية الجديدة.
يقال أن الشاعر يرى نصه من الداخل، أما النظر إلى النص من الخارج فهو مهمة يتولاها الناقد، لكن ومع ذلك فإن هناك شعراء كثر يحاولون الإحالة إلى نصوصهم من خلال مداخل خارجية تفضي إليها ، ويكون ذلك من خلال تقنيات ما يسمى (بالمتعاليات النصية)، ولعل من أهمها فيما يتعلق بمجموعتك "كانڨاس": الاستهلال بمقدمة نثرية غالبا ما تسعى إلى عرض وتبيان مفهوم الشعر وغيره من القضايا المتعالقة مع جوهر المحتوى الذي تقدم له، وهذا ما نجده في مجموعتك محل النقاش، ما مدى أهمية هذا في نظرك؟
لأن الديوان مقسم إلى ما يشبه أجنحة المعرض التي تضم لوحاته جميعا، كان من الأهمية بمكان وجود عامل إشاري يشي ولا يصرح، يكون بمثابة مدخل المعرض ومداخل الأجنحة وربما جاء في صورة لوحة إرشادية تحت عنوان القصيدة، وبذلك تسهم بشكل مباشر في معمارية الديوان، وتخلق علاقات ظاهرة وباطنة مع مدلولات النص، وربما خلقت نصا موازيا يتم من خلاله الولوج للنص الأصلي، لتقدم قراءات متعددة، وهي عامل جذب يسهم في تداول النصوص، وتثبيت بعض مقاصده الدلالية، وبذلك تسهم في التواصل مع المتلقي، وفي إيصال المنظور الفكري، والمساهمة في مساعدة المتلقي في تحليل النصوص، بهذا ستجد في الديوان مقدمة نثرية وشعرية، تبدأ من منطلق محاولة تحديد هوية المرسل، وفضاء كتابته الأرضي والسماوي، وما يمر عليه من قضايا، وصولا إلى تحديد خياراته، وانطلاقا من نضج الرحلة يهدي القصيدة لنفسها معانقا يدها عببر الطريق ليدخلا الأبدية معا.
لقد مضت الحداثة الشعرية العربية قدما في منحى مهم تجاه استكناه مقولة (الشعر باعتباره وعيا) فهو في منظورها يتجاوز جماليات اللغة الشكلية ليفيض عنها، لقد صار الشاعر والحال هذه مجبرا على أن يفكر خارج علبة الشعر المؤطر بالجماليات الداخلية، مبرزا وعيه بتقديم إثباتات جمالية على أن مشروعه الشعري يسير وفق رؤية ذات تصورات فلسفية واضحة، لذلك يلجأ الكثير من الشعراء إلى فن التبويب مثلا، في مجموعاتهم الشعرية، وهو في الغالب إشارة شكلية لطيفة إلى أن عملهم الشعري مخطط له بعناية ووعي.
إن التبويب الفني المنتهج في مجموعتك يجعلنا نفكر بأن الشعر هو (فن بصري) يمكن الاستثمار في خيراته، ما رأيك؟
لقد عمدت في ديوان كانڨاس إلى تبويب المجموعة وفق هندسة معمارية مخطط لها سلفا، وذات شروط واضحة في إدراج القصائد في المجموعة من عدمه، بنيت هذا التصور وفق عناصره الخمسة:
1. الهبة السماوية: الشعر، باعتبارها رمية النرد القدرية الأولى التي ساقت إلى العنصر الثاني.
2. أسير الواقع: الإنسان، الذي وضعته تلك الهبة السماوية وأعطت له منهجا = العنصر الثالث.
3. البصيرة التي تجلي عمى الحياة: الفلسفة، تشكل مساراته التي سيقررها، وبالتالي فهو معرض لكافة الاحتمالات = العنصر الرابع.
4. الرفيقة الجميلة على الطاولة: الخسارة، وهي رفيقة الشعراء، ومحفزتهم في دخول مراهنات جديدة تفضي بهم إلى غايتهم = العنصر الخامس.
5. التجسيد الوحيد للجمال: المرأة، والمرأة هنا لا باعتباراتها المطروقة بقدر ما هي القيمة العليا للجمال الذي يبحث عنه/ يصل إليه الشاعر.
لذا فالبناء الهندسي هذا من شأنه:
على مستوى الكتابة:
1. يمثل التبويب الفني عامل ربط بين أجنحة المعرض.
2. مثل ضابطا لانتقاء الأعمال داخل المجموعة، ومانعا من تكرار سمات اللوحات داخل الجناح الواحد أو المعرض ككل، وتؤسس معيارية للمفاضلة بين النصوص.
على مستوى التلقي:
1. تجديد طاقة المتلقي بتبويب فني بحيث يمكنه زيارة كل جناح في معرض لوحات الديوان على حدة، وتغذي شعور الإنجاز كلما فرغ من باب، فيشمر لولوج غيره.
2. تؤسس لبعض المقاصد الدلالية لدى المتلقي عبر تساؤله عن ضرورة التبويب، وترتيبه، وتسهم في رسم الصورة الذهنية النهائية للمجموعة ككل، وتحليل نصوصها.
3. تسهم في إبراز قيمة الفن البصري التشكيلي الملائمة لثوب الديوان بدءا من عنوانه وصولا لعتبته الأخيرة.
لقد كان بودلير- الشاعر الفرنسي الأشهر والذي استهللت بإحدى مقولاته لمجموعتك الشعرية- يقول: إن كلمات قصائده تأتيه أول ما تأتي في لحظة انبثاق الكتابة على شكل مقاطع موسيقية ليقوم هو بترجمة نوتاتها وتحويلها إلى دلالات شعرية، وكذلك كان يعلن "أرنست بو" بخصوص إبداع العطور التي كان يصنعها كان يقول: إنه كان يسمعها أول الأمر كنغمات وألحان ليشتغل في ما بعد على تحويلها بطريقته إلى روائح، إن تداخل الحواس في صياغة المادة الفنية وتحولاتها أمر متداول وشائع جدا، هل تحدثنا عن تجربتك في تحويل الألوان إلى قصائد شعر؟
لماذا أدور حول التمثال أو أنظر له من أعلى أو أسفل، بينما يمكنني أن أتصور قطاعا طوليا أو عرضيا يشطره في أي نقطة أريد، وحينها أخلق عددا لا متناهيا من زوايا الرؤية والرصد؟ الجاحظ يقول"والمعاني مطروحة في الطريق يعرفها العجمي والعربي والقروي والبدوي"، وهوراس يقول "القصيدة مثل اللوحة"، إذن يمكن للقصيدة أن تقدم الكثير حتى وإن تماست تلك النقطة التي اخترتها لرؤية التمثال مع تصورات الآخرين لكنها بكل تأكيد لن تتطابق، الشعر باعتباره –قديما- مُلهَما من ربات الشعر، قاد كثيرا من الأعمال الفنية خاصة في فترة عصر النهضة الأوروبية، وامتد ذلك التأثير لنجد الشعراء الرسامين ومنهم بودلير ذاته حين رسم معشوقته جين دوڨـال، وڨـيكتور هوجو وغيرهما، ولأن الشعر لا يمكن فهمه وإدراك أسراره فقط عن طريق القراءة، وكذلك اللوحة لا يمكن فهمها وسبر أغوارها بمجرد النظر، بل إنهما يحتاجان إلى رؤية جمالية ما، ولأنهما صانعان للجمال، منَمّيان للخيال، قادران على الخلق والابتكار، ويملكان مركزا للانطلاق لكنهما يفضيان إلى عوالم لم يكن مخططا لها سلفا قبل البدء، جاءت محاولة المزج بينهما لا على سبيل الجمع المجرد بأن أنشر قصيدة تعقبها لوحة أو العكس، بل من خلال تمرير روح اللوحة في جسد القصيدة.
لمن يكتب الشاعر؟ لنفسه أم لقراء معلومين أم متخيلين؟ أم أنه يكتب للشعراء؟ وهل يكتب الشاعر نصوصا خصيصا للنقاد، ومتى يفعل ذلك؟ مجموعتك "كانڨاس" تحتشد فيها الكثير من الكلمات والأسماء التي هي في الغالب في حاجة إلى قارئ مثقف؟ فهل تخلى الشعر في رأيك عن قيمته الثقافية الأبرز والتي حافظ عليها طيلة قرون كونه الفن العربي الأكثر جماهيرية؟
التلقي نظام انتقائي، حيث ينتقي المتلقي بعض ما يدركه ويرتبه في نقاط يصل منها للحكم النقدي الخاص به، وبالتالي فالمتلقي هو الفاعل الحقيقي في إنتاج دلالات النص، وهو متباين كليا نظرا لاختلاف ديموغرافيته، وسيكلوجيته، وغيرها من العناصر المؤثرة فيه، وعلى هذا فالنص الواحد سينتج عنه نصوص كثيرة جدا باختلاف أنماط التلقي، ومستوياته بدءا من الشاعر الذي يعيد قراءة نتاجه، مرورا بالجمهور العادي والنوعي، وكل سيتفاعل مع النص حسب قدرته.
يمكنني أن أدرج مجموعتك "كانڨاس" ضمن ما يمكن أن أسميه بالشعرية الجديدة، والتي أراها تتمثل الوعي الشكليّ الحقيقي لمنجز الشعرية العربية المعاصرة، بالإضافة إلى أنها تقيم وشائج جمالية محببة مع فنون أخراة، فهي تمسرح الشعر مثلا وتشكله تشكيلا بصريا، كما أنها تنصت وبرهافة عارمة لأصوات كثيرة تنبثق من الأبعاد القصية للشعر بوصفه سمفونية كونية تفاعلية، وهذا تصور تحوليّ عالٍ وجريء لمآلات الشعرية العربية والتي يطيب لي على ذكرها أن أعرف منك إذا كنت تستطيع أن تحدد لي بعض مكامن الأزمة الراهنة التي تعيشها، بالإضافة إلى ظاهرة تناسخ الأصوات الشعرية، وكذا الإنصات المبالغ فيه لإكراهات سلطة النقد؟
يمكن النظر لما اتفق عليه بين النقاد العرب على أنه أزمة شعرية عربية من عدة نقاط تحمل كل منها وجهتين متقابلتين تماما:
الأولى: أن الظرف التاريخي والاجتماعي والنفسي ألقى بظلاله على إنتاج النص الشعري في العديد من الحواضر العربية التي كانت لها الريادة فيما مضى، خاصة في البلدان التي تغيرت ديموغرافيتها بعد الثورات أو الحروب.
على الجهة المقابلة لقد أثمر ذلك الظرف في إبراز حواضر ثقافية أخرى تعد حاضنة للإنتاج الإبداعي العربي بشكل عام والشعري بشكل خاص، كما أدى أيضا إلى تكونات ثقافية في بلاد المهجر ساهمت بدورها في إنتاج النص الشعري، بل إن التحزبات الديموغرافية أسهمت في دعم إنتاج النص عبر تبني الرؤى المذهبية ومحاولتها لفرض ثقافتها والتأكيد على هويتها والتصدير الإعلامي لمفاهيمها عبر النصوص عبر وسائل اتصال شتى.
الثانية: انسحاب هذا الظرف على الإنتاج المادي للنصوص الشعرية (من حيث التكلفة، وتوفر المواد الخام، ودور النشر، وكافة مفردات العملية الإنتاجية) كان له أثره السلبي على الديوان الورقي، وانتشاره والقدرة على اقتنائه.
لكن على الجانب الآخر دعى ذلك إلى خلق نماذج نشر جديدة، أسهمت لا في عملية النشر وحدها بل في خلق نصوص تفاعلية، تعيد إنتاج النص الواحد بأكثر من شكل.
الثالثة: انغماس المبدع والمتلقي في ذلك الظرف الداعي إلى ترتيب أولويات معيشية، أسهم في نشوء ثقافات مسطحة مرتبكة وما يواكب ذلك من قيم استهلاكية.
لكن على النقيض أدى إلى خلق رغبة عارمة في البوح، وميل للتكثيف ضمانا للتواصل مع المتلقي، وجنوح لأقنعة أسطورية أو رمزية تمتلئ بنقد الواقع عبر الإسقاط، وهي حيل طالما تمت إعادة إنتاجها في مثل هذا الظرف، وحال النظر إلى الفنون القائمة على الشعر كالأغاني، والشعر المسرحي، وخلافه فعجلة الإنتاج الشعرية إن جاز التعبير لا تتوقف بل تتنامى بشكل مضطرد جدا، مقارنة بتحويل عمل روائي إلى السينما أو المسرح، وما يتطلبه ذلك في عمليته الإنتاجية.
الرابعة: وجود هذا الكم الكبير المنتج من النصوص والمنشور بوسائل شتى، إضافة للأزمة التعليمية المنتجة للنقاد جعل الموازنة بين الإنتاج والنقد – كمًّا - غير ممكنة، ناهيك عن الـ"كيف".
لكن دفع ذلك بـ "غير المتخصصين أكاديميا"، أو ما يمكن أن نصوب تسميتهم إلى "المتخصصين غير الأكاديميين" إلى محاولات ردم تلك الفجوة، وتمكنت نماذج عدة من الإنتاج النقدي، مدفوعا بالرغبة والميل الشخصي في مواجهة الدارس المكبل بالظرف التعليمي.
الخامسة: اعتبار الثقافة استثمارا ودخولها لمفهوم القوى الناعمة، أدى إلى فرض بعض الصيغ سواء على مستوى السياق أو النسق، مما أسهم في خلق ما أطلقتم عليه "تناسخ الأصوات الشعرية"، وانصياع إنتاج النص لمرادات النقد الموجه.
على الجهة المقابلة، فإن وجود الحافز كان ذا أثر تنشيطي في إنتاج النصوص، وتجدر الإشارة هنا إلى أن الارتباط بمرادات النقد الموجه ارتباط مؤقت متعلق ببلوغ الحافز، لكنه يفتقر لصفة الديمومة، بل يمثل نافذة لمرور أسماء شعرية عديدة إلى المتلقي على تعدد مستوياته، وإعادة النص الشعري إلى الجدل اليومي المعاش، وخلق اتفاق ضمني بين عناصر العملية الإبداعية على التجارب الإبداعية الحقيقية، ومقابلها أيضا، وابتكار مجتمع شعري عابر للجغرافيا، وربما عابر للفروق السوسيو- ديموغرافية يتحد في الهدف ويختلف في رؤية تحقيقه.