الأحد ٤ آب (أغسطس) ٢٠١٩

كرنفال المدينة رواية ضاعت فيها الحبكة

سامي قرّة

لا أريد أن أعطي رواية كرنفال المدينة (دار الجندي، 2019) للكاتبة المقدسية نزهة الرملاوي أكثر ممّا تستحق، فهي رواية لا تقدّم الكثير من حيث المضمون، تتحدث عن حياة المخيم، وصعوبات التنقل والحركة، وعزل القدس، والقيمة الدينية والروحية للمدينة المقدسة، كما تقدم وصفًا لأحياء المدينة وأزقتها ومساجدها وكنائسها، وهذه كلها مواضيع أصبحت بمثابة كليشيهات يُفرط المؤلفون الفلسطينيون في استخدامها، ولا تشير إلى فكر أصيل مبدع أو فكر يتسم بسعة الخيال. وتكاد الرواية تخلو من الحبكة المقنعة أو من الأحداث المتسلسلة التي تزداد في حدتها مع استمرارها على الرغم من قيام الشخصيات بأنشطة مختلفة. كما أن ظهور الشخصيات في الرواية يحدث فجأة، باستثناء شخصية ربحي وتامر في بداية الرواية، وكأنها تخرج من العدم أو بفعل فانوس سحري، فلا ندري من أين أتت أو ما دورها فيما يجري وإلى أين هي ذاهبة.

على الرغم من ذلك، أعتقد أن الكاتبة نزهة الرملاوي تقدّم في روايتها كرنفال المدينة خاصة في فصلها الأول نموذجا جيدا للمذهب التجريبي الواقعي في الرواية، الذي يتعدى حدود السرد التقليدي. فعندما نقرأ رواية كرنفال المدينة نشعر بعدم الارتياح؛ لأنها لا تخضع لمعايير السرد الروائي السائدة ولا تلتزم بها، وهي أيضا تصف المكان والزمان والأحداث بأسلوب أدبي لم نعتد عليه فنجد أنفسنا تائهين في أرض جديدة علينا اكتشافها والتأقلم على العيش فيها.

تضع الكاتبة شخصياتها ضمن سياق مكاني واجتماعي معيّن، وتراقب سلوكياتهم عن بعد. فهي لا تهتم فقط بسرد الحقائق ونقل الواقع، بل تهتم أيضا بإظهار تأثير ذلك الواقع على سلوك الشخصيات الفردي والجماعي. فهي لا تتدخل في أنماط سلوك الشخصيات بل تترك الشخصيات تتصرف بحرية وعلى طبيعتها ضمن ظروف معيّنة، لا تتحكم بسلوك الشخصيات فحسب بل تحدد أيضا مصيرها. فنرى الشخصيات لا حول لها ولا قدرة على تغيير واقعها، ممّا يجبرها على اتباع سلوكيات تساعدها على التأقلم مع ذلك الواقع.

منذ بداية الرواية تكشف لنا الكاتبة عن البيئة المكانية التي تعيش فيها شخصياتها، هي بيئة قاسية وحزينة وكئيبة وملوثة، هي بيئة "المخيم البائس خلف الجدار" وفي أزقته "تستنزف حاويات القمامة آخر أنفاس ليلها، لتخرج زفيرا ملوثّا من أعمدة دخان يتمدد على جدران أرهقتها الأوبئة" (ص 7). وفي مكان آخر من الرواية نجد الوصف التالي للمخيّم: "جبال من النفايات تنفث سمومها على الأرض ... ما عادت بيوته مصفوفة بانتظام، اخترقها الاكتظاظ ... عمّته الفوصى، اقتحمت ثورته يد العمالة والبطالة، فأمسى بؤرة مخدرات وأسلحة وفساد" (ص 34). بعد ذلك تنتقل الرواية إلى وصف الجدار والمعبر الذي يفصل مدينة القدس عن المخيم: معبر طويل يزدحم بالبشر، ذات أرصفة متهالكة، جدار يتجذر كعملاق في الأرض، "مغتصب يعيث تشويها بمدينتنا، يقهرها ... دخيل أوغل تقسيما بالمكان" (ص 39). وعلى بوابات الجدار يقف الجنود ويمنعون الحشود من عبورها، يُنكلون بهم ويعتدوا عليهم.

ضمن هذا السياق تتحرك العديد من الشخصيات التي ترى نفسها أسيرة واقع مرير لا تستطيع تغييره أو التحكم به، ومع ذلك تحاول مقاومته لكنها تفشل. وهذا الواقع يفرض عليها أن تخوض تجارب حياتية قد لا تخوضها لو وُضعت في بيئة أو سياق آخر. فلنأخذ على سبيل المثال ربحي. فالواقع الذي يعيشه ربحي هو مصيدة يقع في شركها؛ فبعد أن كان مناضلا وبسبب ذلك تمّ إسقاطه "في وحل المسكرات والمخدرات، بعد أن مضى به الزمن وطنيا مكافحا" (ص 13) وتجريده من إنسانيته حتى أصبح قاسيا حتى النخاع، كما يصف نفسه. فلو لم يكن الاحتلال والمخيّم لكان ربحي بالتأكيد شخصية أخرى.

وكذلك الأمر فيما يرتبط بالشخصيات الأخرى، فنراها مجبرة على تقبل واقعها ومسايرته؛ لأنها لا تستطيع أن تفعل شيئا إزاءه. وهذا الواقع لا يروق لها بالطبع؛ لأنه يقيّد حريتهم ويحرمهم من إنسانيتهم. تامر مثلا يضطر للعمل عند الحاجز العسكري يبيع الوسائد، ويحاول وتقديم المساعدة للآخرين، وعينه ترنو في اشتياق إلى مدينة القدس التي لا يستطيع الوصول إليها بسبب المعبر العسكري. فهو يريد أن تتبدل الأحوال؛ كي يستطيع إكمال تعليمه والعمل بشهادته والتزوج من زينة التي يحبها والنأي عن المخيّم. لكن ما باليد حيلة، فشتان ما بين الحقيقة التي يعيشها والحلم الذي يحلم به. فالحقيقة موجعة وتفرض عليه حياة معينة وسلوكا معينا.

ومثل تامر، يرثي وهيب العائد من الخارج إلى الوطن حاله؛ لأنه يصطدم بواقع لم يكن يتوقعه. فكل شيء قد تغيّر لا سيما بناء الجدار "الذي يبدّد حلم أسراب العائدين". تبددّت أحلامه وتساقطت أمنياته كأوراق الشجر في فصل الخريف. ومثل غيره عليه الانتظار والتأقلم مع ظروف بيئية لم يعتد عليها ولم يتوقعها.

للتخلص من الضغط النفسي والإرهاق وللتخفيف على الجموع التي تنتظر أمام الجدار والبوابات كي يدخلوا مدينة القدس، تُخرج أنطوانيت آلة الكمان، وتطلب من زميلاتها الاستعداد لتسلية الأطفال، وتتقمص نوال وريم دور المهرج. تبدأ أمل بالغناء كالطائر المغرد حتى نسي المنتظرون ألمهم، وبدأوا يشاركون في الغناء والرقص. في هذه اللحظة يتحول المشهد من مشهد درامي كئيب، إلى مشهد يملؤه الفرح والسرور. وقد يبدو مشهد مثل هذا غير اعتيادي أو حتى سريالي في ظل الظروف القائمة، لكنه يمنح المنتظرين بعضا من الحرية. ومن هنا يكتسب عنوان الرواية أهميته؛ لأن الكرنفال أصلا مخالف لما يُعتبر عاديا وطبيعيا. وعلى المستوى العاطفي يخلق الكرنفال شعورا بالوحدة بين الناس، فالكرنفال هو تعبير عن حياة ثانية للناس مغايرة للحياة السائدة، أي حياة الاحتلال والظلم وما ينتج عنها من بؤس وفقر ويأس.

لقد أدركت تريزا حاجة الحشد الكبير من الناس إلى الشفاء من واقع مؤلم فتقول: "ألم الناس من الانتظار الطويل، لا يقل ألما من مرضى يطول انتظارهم للشفاء" (ص 62). فتدرك أهمية الكرنفال وتدعوا زميلاتها وزملاتها لتوزيع القبعات الملوّنة على المتجمهرين ورسم أشكال ملوّنة، والقيام بحركات بهلوانية لإسعاد المنتظرين. كما تبدأ الكشافة بإطلاق الألحان والعزف في سماء المعبر. يضحك الأطفال ويصفق المنتظرون، وينسى الناس "ساعات اكتئابهم، وآلام وقوفهم، حين احتلقوا جوًا من المرح لدفع ملل لا نهاية له" (ص 63).

يتميز الكرنفال بنوع من الفكاهة والسخرية، ويعبر عن رفض السلطة، وكأنه يحاول الإطاحة بها. وهذه هي الرسالة التي يحملها الاحتفال أمام الجدار بالقرب من المعبر. ولتامر دوره في الكرنفال، وهذا الدور يظهر في غرفة التحقيق بعد إلقاء القبض عليه. ينظر تامر إلى المحققين باستعلاء، ويتظاهر بأنه أصمّ وأبكم. نقرأ: "أخذ تامر يمثل المشهد أمام المحقق، وزبد فمه يسيل على ذقنه، محركا حنكه إلى اليمين واليسار بطريقة ساخرة لافتة، توحي بضرب من الجنون" (ص 211). على الرغم من أن تامر هنا في موقف خطير إلا أنه لا يأبه للمحققين ويتظاهر بالجنون، وهذا التصرف أو السلوك يزيد من فكاهة المشهد وسخريته، وتكمن أهميته في أنه يعكس أدوار الشخصيات، فيُصبح تامر هو الذي يسيطر على الموقف، ويتلاعب بالمحققين كما يحلو له، فيما في واقع الأمر ينبغي أن المشهد عكس ذلك تماما. لكننا نرى في تصرف تامر رفضا للسلطة التي يمثلها المحققون ورفضا للتهديد الذي يمثلونه.

ملاحظة أخيرة: عند كتابة الرواية والشعر أعتقد أن على الكاتب عند الكتابة أن يوازن بين العاطفة والعقل؛ لأنه إذا تغلبت العاطفة على العقل يفقد الكاتب السيطرة على ما يكتب، ويقوده قلمه عبر متاهات فكرية ليس لها مخرج آمن، أمّا إذا تغلب الفكر على العاطفة فسيكون الناتج الأدبي عقيما لا حياة فيه. يبدو أن عاطفة الكاتبة نزهة الرملاوي ومحبتها للقدس قد قذفتها في بحر أمواجه عالية، لكنها تمكنت من التغلب عليها وإنقاذ نفسها من الغرق لكن بعناء كبير.

سامي قرّة

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى