لست بأنثى
منذ نعومة أظفاري و أنا ارتدي ملابس الصبيان , العب ألعابهم, أتشاجر و اشتبك معهم كما يفعل الصبيان تماما , استمتع باللعب بالبلبل و الكرات الزجاجية بل و أتفوق بلعبها على اعتى الأولاد , حتى اعتاد الجميع على مناداتي برامي بدلا من رامية و تندر الأهل و الأقارب على تصرفاتي الصبيانية , و كثيرا ما سمعتهم يهمسون لامي (بكرة بتكبر و بتوعى و بتصير بنت).
وعندما بدأت أخطو نحو الثالثة عشرة من عمري تجمع سحاب القلق على سماء أمي و حاصرني ببرقه و رعده و أمطر وابلاً من الاستفسارات والتساؤلات ذلك أن تضاريسي لم تظهر بالشكل و الحجم الذي يرضي أنوثة أحلامها , فجرت بي إلى الطبيب الذي طلب منها أن تجري لي تحاليل لها أول و ليس لها آخر , و قام طبيب التحاليل بسحب عينات من دمي وطلب عينات أخرى من البول لاجل تلك التحاليل اللعينة التي أصابتني بغثيان الملل و هو يحدجني بنظرات أشبه ما تكون بازدراء لأنوثة لا املكها و ذكورة لا يعترف بها أحد سواي , نظرات لم ترقني البتة.
وما أن أحضرت أمي نتائج التحاليل و ألقى الطبيب عليها نظراته المتفحصة حتى قال مستبشرا وعلى فمه ابتسامة نصر ساحق : لا تقلقي ... ليس ثمة خطب في الفتاة ... إنها مسألة (ولدنة) و ستتلاشى وحدها مع الأيام.
نظرت إلى تقاسيم وجهه بغضب, أردت أن الكمه على انفه المتعالي , هل تستطيع بضعة تحاليل غبية و شخص لا يعرف عني شيئا أن يقرروا أدق خصوصية في هويتي الشخصية اكثر مني أنا ؟ و ما أدراه هو ؟ و كيف علم أني فتاة طبيعية على حد قوله ؟
فتاة !!! و أنا لا أشبه الفتيات في شئ , كل مشاعري لا تمــتّ للإناث بصلة.. كل تصرفاتي لا تشبههن في شئ... و هو يقول : ليس ثمة خطب ... يبدو أن الخطب في عينيه... بل في عقله ... نعم لن يكون هناك خطب في حال تم إخضاعي لعملية تستكمل فيها تفاصيل ما أنا عليه من ذكورة
واستطلت اكثر و استدارت بعض تفاصيلي قليلا لكنني بقيت رامياً , كنت احبس رامية بين جدران منزلي و أعيش طبيعتي خارج جدران المنزل و المدرسة و يحدث أن اضطر لحل وثاق الفتاة ضمن تلك الجدران قليلا لكن شكلي كان يفضح طبيعتي التي وددت لو تصبح هويتي المتعارف عليها و لكن كيف؟؟ ذلك هو السؤال الذي كان يلتهم أعصابي ببطء فاضح.
ذات يوم دخل أبى المنزل كعادته عائدا من العمل فوجدني أمامه ارتدي بيجاما صبيانية , فما كان منه إلا أن صفعني بقوة صارخا : لن أراك ترتدين شيئا صبيانيا بعد اليوم فهمت؟؟؟ أنت فتاة فتصرفي على انك كذلك.
راعتني صفعته , رفعت نظري إليه , كان يحدق بي , لم ابك كما تفعل الفتيات عادة إنما صرخت في وجهه : هل تظن أن ارتداء ثوب نوم نسائي سيحولني إلى فتاة ؟؟ ... ثم أكملت بدون صوت : لم لا تجربه بنفسك و تخبرني ... هل سيتغير جنسك إن غيرت ثيابك ؟؟ و بدت لي جملة عقيمة غبية , فهي ستضع الكرة في ملعبه ليعيد لي الجملة بمنطق مقلوب .
أنا فتى ... كل مشاعري ...كل حركاتي...كل سكناتي ...كل رغباتي تؤكد هوية الذكر في داخلي .
أصدقائي ماهر و احمد و صالح يعرفون قصتي بحذافيرها , أزورهم خلسة ـ دون أن يشعر والدي ـ متذرعة بذهابي إلى إحدى صديقاتي في المدرسة, و لا يعرف أحـد من أهلهم أن القادم شخص غير رامي, اخرج معهم إلى الشوارع لنطارد الفتيات, لم يسبق أن شعر أحدهم باني أنثى أو تحرج من وجودي أو أبدى أي لفتة تشعرني بغربتي عنهم , تلك كانت سويعات عمري الذي احتسبه و أعيشه على طبيعتي ...دون تكلف أو خوف من صفعة أو ملاحظة جارحة تنقض على كياني فتحيل نهاري إلى بؤرة تعاسة لا متناهية ,و قد اخذ أصدقائي على أنفسهم عهدا بمساعدتي بكل طريقة ممكنة عندما يحين الأوان لإجراء عملية تعديل تعيد لي حقوقي في هوية شخصية يرفض جميع من حولي الاعتراف بها .
صعبة هي الحياة و أنا لا أجد من يفهمني أو يسمعني , الكل يكيلون لي نصائح فضفاضة ليست على مقاسي ... لا تشبهني البتة , و المصيبة أنها تبدأ دوما بكلمة (يا ابنتي ) فاتمنى من قلبي أن تنزل صاعقة من السماء على تاء التأنيث فتلغيها و تلغي عذابي معها و لكن من أين تأتي تلك الصاعقة ؟! لست ادري ... ربما من غلياني عندما تبدأ اسطوانة يا ابنتي بالدوران فيدور رأسي معها متمنيا موتا لا أجده .
أصبحت في الثامنة عشر... و انسياب الزمن على عمري لا يحول فيّ شيئا و لا يغير من قناعاتهم و رؤيتهم لي ... ما زلت أنا أنا...شاباً في مقتبل العمر يظن المقربون انه فتاة متمردة و يعلم حقيقتي الغرباء فقط ... يوقفني رجل في الطريق يسألني كم الساعة يا أخ فأود أن اخلع له ساعتي عرفانا , تستعطفني امرأة فقيرة (الله يخليلك شبابك يا ابني) فاود أن أهبها روحي و هي تعترف بهويتي و أتمنى أن اشكرها لكنني ابتلع شكري في اللحظة الأخيرة ليتحول إلى ومضة فرح تبوح بها عينـــــاي .
عدت اليوم من المدرسة لأجد منزلنا يغص بورشة تنظيف غير عادية , فأسرعت إلى غرفتي هربا من واجبات ليست على مقاس تطلعاتي و ما هي إلا دقائق حتى وافتني أمي و في عينيها بريق غريب و على شفتيها ابتسامة لم افهمها و قالت : رامية حبيبتي ...عائلة صيداوي آتية اليوم لزيارتنا.. توقفت أمي و شعرت بأن ثمة تتمة ما للجملة المبتورة التي قذفتها في وجهي لم تجد طريقها العاثر إلى فمها... أكملت انهم يخطبون لابنهم و هو مهندس وسيم الشكل طيب السمعة ... ويريدون أن يروك من اجل ذلك فتجهزي الله يرضى عليك .
للحظات فقدت إدراكي تماما لدى إشارتها إلى أن الزوار قادمين لأجل الخطبة ...كل ما خطر في بالي أن أختي ربى متزوجة و دانية ما زالت صغيرة ... لم أفكر أبدا أن أحدا ما قد يرغب بي أنا شخصيا كأنثى .. و لم يدر في خلدي مطلقا أنى سأواجه موقفا كهذا في يوم ما.
قلت لها : لن اخرج يا أمي ... أنا لست فتاة ...كيف تريدين تزويجي من شاب و أنا شاب ...حرام عليك... تدافعت الدموع في عينيها و خرجت من الغرفة دون أن تنبس ببنت شفة .
أردت الخروج من المنزل مستجيرا بأصدقائي لكن أبي منعني و صرخ قائلا : سترتدين ثيابك و ترينهم ...آن الأوان لتتصرفي كالفتيات و إلا سأقتلك و ارتاح منك ... يبدو أننا دللناك حتى أفسدناك تماما .
دخلت إلى غرفتي ... دفنت نفسي في سريري , و عزمت أن لا أقوم منه إلا إلى القبر , لكنني فوجئت بذراعي أبي تزيح الغطاء عني و الشرر يتطاير من عينيه وهو يهمس بصوت غاضب يبتلع حدة ارتفاع نبرته بالصرّ على أسنانه: الناس في الخارج ينتظرونك ...ارتدي ثيابك و تأنقي ... أمامك عشرة دقائق لتكوني مزروعة أمامي في غرفة الضيوف .
لم اعرف ما الذي بوسعي أن افعله , لم يعتد أحدنا في الـــمنزل ـ حتى أخي الكبير المعترف بهويته رسميا ـ على عصيان أمر لوالدي مهما كان صغيرا ... و لان أحدا منا لم يفعل ذلك مسبقا , فأنا لا اعلم ما الذي يمكن أن يفعله بي بالضبط إن أنا تمردت و لم اخرج.
ارتديت ثيابي على عجل و أنا اشعر بنيران الغضب تخرج من كل أنحاء جسدي ... لم لا يريدون أن يروني كما أنا... لا كما يحبون؟ ... لماذا علي أن أتطابق و مواصفاتهم لا وطبيعتي و نفسي؟ ... كيف بإمكاني أن افصل هويتي على مقاس معرفتهم السطحية لي و أن أنكر إدراكي العميق لذاتي؟ ... لم لا يشعرون باني لست بأنثى... لست بأنثى .
خرجت من غرفتي باتجاه غرفة الضيوف و قد أعماني الغضب و ما أن ولجت الغرفة حتى تدورت عينا أبي و شهقت أمي و هرولت حواجب الضيوف للأعلى دهشة ... كانت تلك المرة الأولى التي يراني فيها أهلي و أنا بكامل أناقتي... ارتدي زيا رسميا و أضع ربطة عـنق .
مشاركة منتدى
7 تشرين الثاني (نوفمبر) 2005, 11:02, بقلم سالم شاهين / عضو الأتحادالعام للأدبا ء والكتاب في العراق
الى القاصة
لبنى محمود
اشد على يدك وأرجو لك ألمطاولة في الكتابة وبهذا ألأسلوب ألرائع وأللغة ألشفافة والسهلة ألسرد وعميةقة الفحوى ، وهذا الموقف ألجرئ لأثبات كل ماتريده ألنساء ألمتفحات وألناظرات الى مستقبل تصنعه ألمرأة لنفسها .
استطاعت لبنى أن تنبئ ألقارئ بما تريد أن تقول وبشفافية لاتثير في الرجل غيرته ، فلها ألحق فيما اختارت من موقف يجسد قوتها وفاعليتها في بناء ذاتها لتعزيز موقفها وبلا تشنج رغم ألتحدي المكبوت وألذي انطلق بيسروسهولة ليعبر عن الذات التي تريد اثبات ذاتها في مجتمع يغص بالمتناقضات .
سالم شاهين
قاص من العراق
7 تشرين الثاني (نوفمبر) 2005, 21:30, بقلم لبنى ياسين
استاذ سالم شاهين
رأي اعتز به...شكرا على تواجدك وقراءتك...لبنى ياسين
http://www.postpoems.com/members/lubna
12 تشرين الثاني (نوفمبر) 2005, 13:28, بقلم هدى فهد المعجل - قاصة وكاتبة سعودية
كانما البدلة الرسمية وربطة العنق تأكيد قاطع على ذكورة رامي/ة للوالدين .. ورد لمن أتوا لطلب يدها أن رامي/ة ليست سوى رامى..
السرد متقن ، مترابط ، عنصر التشويق متضح بقوة ، بدت شخصية رامي/ة شخصية الطفل / الشاب / الفتى والفتاة التي نحتاجها في عصر كبت رأي الأطفال وإلغاء صوتهم في الحياة.
القصة تقرأ من عدة أوجه .. وتفهم بكذا صورة .. وهذا يحسب لصالح النص ولمبدعته .. أهديك إعجابي من السعودية / الدمام
ص.ب 10919 - الدمام 31443
27 كانون الثاني (يناير) 2006, 14:15, بقلم لبنى ياسين
لجميلة هدى فهد المعجل
من السعودية
كم هو جميل وجودك هنا...شكرا على تأنيك في القراءات التي فرح بها نصي وفرحت انا...لبنى
30 أيلول (سبتمبر) 2006, 22:07, بقلم الشاعر/ طلال المصري
ليس لدي ما أقوله فالصمت يعبر اكثر مما احاول ان اقول
كاتبة انتي قد كتبت ووصلت بقلمها الى داخل العقول
تحية ً طيبة ً يا سيدتي ..
4 كانون الأول (ديسمبر) 2007, 16:18
شكرا لك المبدع الفاضل طلال على مرورك الكريم
مودتي
لبنى ياسين