«للحقيقة المحمدية» في المدائح المغربية
إن القول بالحقيقة المحمدية1 يعد أصلا من الأصول التي قام عليها التصوف الإسلامي، وهي عقيدة راسخة في تصورات الصوفية وفي مرجعياتهم الفكرية. ولهذه المقولة جذور فلسفية قديمة تسربت إلى الفكر الصوفي واستوطنت عقول المتصوفة وأفئدتهم، فعملوا على إذاعتها ونشرها أورادا وأذكارا وأشعارا في صفوف الخاصة والعامة ،حتى غدت جزءا من قناعاتهم الفكرية والتصورية في نظرتهم لشخصية النبي (ص).
والحقيقة المحمدية تعني أن الوجود النبوي سابق على كل الموجودات ومتقدم على كل الكائنات، ومن النور المحمدي استمد الكون نوره ووجوده. ولولا الحقيقة المحمدية لما كان هناك وجود ولا خلق ولا نور. لأنها العماد الذي قامت عليه قبة الوجود، وهي الصلة بين الله والناس، وهي القوة التي يصدر عنها كل شيء2
وقد استغل الصوفية بعض الأحاديث والأقوال المأثورة لتزكية هذا الأصل وتأصيله في طقوسهم التعبدية وسلوكاتهم الدينية. فعبارات (أول الأولين) و(آخر الآخرين) و(خاتم النبيئين) كانت أهم النصوص التي انطلقت منها تبريرات الصوفية للقول بالحقيقة المحمدية، واستشهدوا بأحاديث أخرى تحمل هذه الحمولة الوجودية3.
تسربت هذه العقيدة الصوفية إلى المدائح النبوية بعدما تمثلها أصحابها واقتنعوا بها فترجموها أشعارا محملة بالإشراقات النبوية. وكانت بردة البوصيري نموذجا في الترويج لهذه العقيدة شعرا. وبعدها تناسلت المديحيات حاملة المشروع نفسه، ومرددة التصورات التي أصلها الصوفية فكريا، وأصلها البوصيري فنيا وأدبيا.
حام الشعراء المغاربة حول هذه النظرية،وتمثلوا حمولتها القدسية وسجلوا نبضات هذه العقيدة الوجودية في مدائحهم النبوية. ولنستمع إلى أحدهم - وهوالأديب أحمد أحزي (ت: 1128)- وهويفصل بشعره في بيان مكانة النبي (ص) بين الكائنات، يقول: [الطويل]
كريم زكي طاهر ومطيبجميل المحيا ذوالقناعة والزهدوأنت حبيب الله ثم خليلهوسر لوحيه العظيم بلا فندفلولاك يا خير البرية لم يكنوجود لدى الدنيا وما فيها من عبدولولاك ما كانت مياه بنوعهاولولاك ما كانت جنان من الخلدولولاك يا قطب النبوة والهدىلعذب هذا الخلق بالخسف والطردوأنت الذي قد جاء في الخبر أنكمتجودون سيدي على الخلق بالرفدوتكسب معدما وتحمل كلهمتعين وتقري الضيف للصمد الفرد4
وفي تكرار البناء التركيبي (لولاك... لولاك...) تأكيد واضح لنظرية الحقيقة المحمدية، كما تشربها الشاعر في محيطه الصوفي. فالنبي سر الوجود، وخير البرية، وسبب الوجود ،ومصدر الموجودات، ومصدر الرحمة والجود والشفاعة،،، وبهذه المعاني يعيد الشاعر إنتاج ما استقر في الوجدان الصوفي ، ويكرر ما تردد في المدائح النبوية الأخرى. ويؤكد أبوسالم العياشي(ت1090) هذه الحمولة الوجودية بقوله: [الكامل]
هوعين رحمته وعين وجودهمن لا وجود لممكن لولاهلولاه رتق الغيب لم يفتق ولمينطق بلا إلاه إلا اللهلولاه نور العقل لم يشرق ولانشرت على أهل العقول خلاهلولاه نور الدين لم ينبت ولمتنطق بذكر إلاهها الأفواه5
وقد استقرت هذه التصورات في أذهان الصوفية وتكررت في مدائحهم النبوية، وتناقلها الخلف عن السلف، فقد كان ابن نباتة المصري (ت 768) يرسم في مدائحه الخطوط العامة لأتباعه من الشعراء، ويضع الصورة النموذجية الخارقة لشخصية النبي، الذي لولاه لما كانت هناك أرض ولا سماء ولا زمان ولا مكان. يقول: [البسيط]
لولاه ما كان أرض لا ولا أفقولا زمان ولا خلق ولا جيلولا مناسك فيها للهدى شهبولا ديار بها للوحي تنزيل6
فلا غرابة إذا وجدنا الشعراء المغاربة يذهبون هذا المذهب المتطرف في تصويرهم لشخصية النبي.فقد كانت لهم خلفية صوفية تزكي هذه المقولات وتكرس هذه التصورات بل وتؤصلها تأصيلا. وقد ترددت أصداء هذا المذهب الوجودي في مدائح الشعراء الدلائيين أنفسهم ،من ذلك قول الأديب أحمد الدغوغي (توفي بعد 1051): [الكامل]
لولاه ما حصل الوجود لواحدلولاه سبل رشادنا لم تعقللولاه ما عرف الإله ولم يدنبتبتل لله حلف تبتل7
وعلى نفس النهج وبنفس التصور يمدح محمد المرابط الدلائي(ت1089) النبي بقوله: [الكامل]
لولاك ما نطق الجماد ولم تكنفي أوجها هذه الكواكب تخفقلولاك ما هاج الركائب عالجلولاك ما حديت لزمزم أينقلولاك ما رجي السؤال لسائلبعرى محاسن مجدكم يتعلق8
وإذا استقرأنا المديحيات، سنجدها تتقاطع في هذا التصور وتتلاقى في هذه البنية التركيبية (لولاك)، وهي بذلك تريد أن تضخم صورة التفرد في شخصية النبي بشكل يكاد يخرجه من دائرة البشر.
ويرسم شاعر آخر صورة أخرى للنبي تتجلى فيها الحقيقة المحمدية بوجه آخر، وفي كلامه ما فيه من تطرف وغلو، وذلك حينما يصبح النبي قبلة لكل مصل، ومستغاث كل مناد، ومحج كل قاصد. وكأن الشاعر- بهذه المعاني- يريد إسقاط بعض الخصائص الإلهية على ذات النبي بشكل يخرجه من دائرة البشر. يقول أحمد بن صالح الاكتاوي (ت 1134): [الخفيف]
أنت قبلة كل عبد مصلأنت مركز كل عز وشانأنت سر في كل أرض وعرضأنت زهرة كل باق وفانأنت نور في كل نور منيرأنت كاشف كل هم شجانييا إمام الهدى أغثني فإنيلا أنادي سواك عند هواني9
ويتفق الشعراء مع غيرهم من صوفية المغرب في القول بالحقيقة المحمدية، لأنها غدت أصلا كبيرا في تصورهم واعتقادهم. وهكذا نجد أصداء هذه النظرية في الصلاة المشيشية10التي يرددها الصوفية في الزوايا والأضرحة والمساجد في المغرب والمشرق. ومنها "اللهم صل على من منه انشقت الأسرار وانفلقت الأنوار، وفيه ارتقت الحقائق، وتنزلت علوم آدم بأعجز الخلائق، وله تضاءلت الفهوم فلم يدركه سابق ولا لاحق. فرياض الملكوت بزهر جماله مونقة، وحياض الجبروت بفيض أنواره متدفقة. ولا شيء إلا وهوبه منوط، إذ لولا الواسطة لذهب كما قيل الموسوط"11.
والحقيقة أن هذه النظرية وهذه التصورات الوجودية جعلت الصوفية عامة، وأصحاب المدائح النبوية خاصة يحلقون في أجواء شعرية إشراقية عرفانية، ويركبون صهوة الخيال، ويمارسون لعبة الغموض والترميز في لغتهم الشعرية، مما جعل قصائدهم نخبوية غارقة في الخيال،يصعب مقاربتها برؤية سطحية أفقية،بل تحتاج إلى قراءة خاصة تتسلح برؤية عميقة تتجاوز الكلمات والعبارات وتغوص في قراراتها وأعماقها.لأن فهم التجربة الصوفية تحتاج إلى تمثل للعالم الروحي والوجودي الذي يعيش الصوفي في بحاره ويستحم بأنواره.
ويتمثل اليوسي، بدوره، نظرية الحقيقة المحمدية، فيرسم في مدائحه صورة نموذجية للنبي، تقترب من الصورة النمطية التي عبرت عنها أغلب المديحيات. فالرسول هومصدر النور، ومصدر الوجود، وبفضله جاء الدين وأرسل الرسل، ومن علمه كان اللوح المحفوظ والقلم: [الكامل]
من نوره كل البرية كونتوبه بدا للدين حسن تماموبنوره الرسل الكرام تأيدتبدلائل للعالمين جساموعلومه ديم هواطل جمةمنها علوم اللوح والأقلام12
بل إن اليوسي يذهب إلى أبعد من هذا المدى، فيعتبر أن النبي عاش الأزمنة كلها، وعايش الأنبياء والرسل. فبالنبي محمد استجار آدم حين خطيئته، وباسمه هتف نوح حين علا الطوفان بمركبه، وبذكره تحرر يونس من بطن قبره: [البسيط]
بك استجار صفي الله آدم فيتوبته وابنه نوح بملتطمويونس في حشا حوت وسيرهممن كل ذي شر فعال وذي عظم13
وفي تمثله للحقيقة المحمدية يصل اليوسي إلى الاقتناع بأن النبي هوإنسان ولكن بالاسم فقط، وبأنه سر الله الذي علا كل المخلوقات الطينية والنورانية: [الطويل]
وأحمد إنسان وبالاسم إنهليعلوعلى الأملاك فضلا ويكبروأحمد سر الله في الخلق صانهفلم يره أعمى ولا متبصر14
وبعد استعراضه لمختلف التجليات النورانية للحقيقة المحمدية، ينتهي اليوسي كما انتهى غيره من الشعراء المادحين إلى حقيقة متفق عليها، وهي أن شخصية النبي تبقى فوق الوصف وأسمى من المدح مهما امتلك الشعراء من عبقرية إبداعية أوملكة شعرية.لأن الشاعر عاجز عن الإحاطة بالشخصية النبوية. ولذلك تبقى كل محاولة لمقاربة هذا المطلق قاصرة، وما الذي يمكن أن يقوله الشعراء وسائر الخلق بعدما أثنى عليه الخلاق؟: [الطويل]
وما يبلغ المداح منه وقد أتىعليه ثناء في الكتاب مكثرأبعد ثناء الرب يرجى لواصفثناء وإن جاء البليغ المكثر15
ويؤكد هذا الشعور في نبوية أخرى بقوله: [الكامل]
ما يبلغ المداح في وصف الذيأثنى الإله عليه بالإعظام16
وقد سلك اليوسي- في هذا الشعور بالعجز والتقصير- مسلك العديد من الشعراء، وهكذا نجد أشعاره قد تحاورت مع بعض النصوص، وتناصت فيما بينها بشكل واضح وجلي، بحيث تتداعى إلينا أبيات وقصائد كثيرة تحمل المعنى نفسه، منها ما قاله ابن الخطيب: [الكامل]
يا مصطفى من قبل نشأة آدموالكون لم يفتح له أغلاقأيروم مخلوق ثناك بعدماأثنى على أخلاقك الخلاق17
وقال شاعر آخر:
أرى كل مدح في النبي مقصروإن بالغ المثنى عليه وأكثراإذا الله أثنى بالذي هوأهلهعليه فما مقدار ما يمدح الورى18
ويعترف اليوسي بعجزه وتقصيره في مدحه للنبي (ص) لأن الشعر وعبقرية الشعراء وكل الوسائل تضعف أمام عظمة الممدوح ومهابته ومقامه السني: [الطويل]
محاسنه فوق الذي يعرف الورىفمن رامه بالمدح فهومقصرإذا رام مدح المصطفى قعدت بهمهابته العظمى فيعيى ويحسر19
وبهذا الاعتراف يلتقي اليوسي مع الشاعر أبي بكر التطيلي الغرناطي في قوله: [الطويل]
إذا رمت مدح المصطفى شغفا بهتبلد ذهني هيبة لمقامه20
وهكذا تكون هذه الخطرات الصوفية وهذه الومضات الإشراقية قد أعطت صورة جديدة غير مألوفة للتجربة الصوفية المغربية التي عادة ما اعتصمت بالخط الصوفي السني، وتبنته في تعاليمها. فكل ما تحدث عنه الشعراء المغاربة بخصوص التجليات القدسية للحقيقة المحمدية، يعد استثناء في التصورات المرجعية للتصوف المغربي، وتجاوزا للمنطلق السني في التعامل مع شخصية النبي(ص). وقد جاءت هذه الانزياحات التصورية نتيجة للاحتكاك المتواصل بالمصادر الصوفية المتعددة وبالمدائح النبوية الوافدة التي تسربت إليها الشطحات الصوفية المتأثرة بالتصورات الغنوصية والفلسفية.
المصادر والمراجع:
1- انظر: الحلاج الطواسين: تحقيق لويس ماسينيون، ص: 9 ـ 11. وابن عربي: الفتوحات المكية ـ السفر الثاني تحقيق عثمان يحيى،ص: 72 طبعة الهيئة المصرية العامة للكتابة 1974.
2- زكي مبارك: التصوف الإسلامي في الأدب والأخلاق، ج 1 / 201، دار الجيل، بيروت ـ لبنان.
3- منها حديث (أنا سيد الناس ولا فخر) وحديث (كنت نبيا وآدم بين الماء والطين) وحديث (أول ما خلق الله نوري). انظر ابن عربي: الفتوحات،ج 2 / ص: 330.
4- محمد المكي بن ناصر، الدرر المرصعة بأخبار صلحاء درعة تحقيق الحبيب نوحي ، كلية الآداب، الرباط 1988،ص 36
5- عبد الله بنصر العلوي، أبوسالم العياشي، المتصوف الأديب، ص: 250.
6 زكي مبارك: المدائح النبوية، ص: 260، التصوف الإسلامي، ج 1/ص: 200.
7- عبد الجواد السقاط: الشعر الدلائي، ص: 119.
8- م نفسه، ص: 119.
9- الدرر المرصعة، ص: 115.
10- أوراد للشيخ عبد السلام بن مشيش،(ت 625ه) وهومن كبار صوفية المغرب . تبدأ الصلاة المشيشية بـ:
(اللهم صل على من منه انشقت الأسرار، وانفلقت الأنوار،وفيه ارتقت الحقائق..)مخ م و21/ح. والنبوغ المغربي ج2/ 12
11 زكي مبارك: التصوف الإسلامي، ج1 / ص: 204.
12 الدرر المرصعة، ص: 521.
13 م. نفسه، ص: 524.
14 ديوان اليوسي، ص: 36.
15 الديوان، ص: 37
16 الديوان،ص: 56،والدرر المرصعة، ص: 523.
17 م نفسه، ص: 523.
18 م نفسه، ص: 523.
19 الديوان، ص: 36.
20 الدرر المرصعة، ص: 524
مشاركة منتدى
15 تشرين الأول (أكتوبر) 2014, 18:56, بقلم موسى
موضوع جميل ولكن فأين المشكلة فقد رفع الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم مقاما عال فقال تعالى ) ورفعنا لك ذكرك( أي لا أذكر يا محمد إلا وتذكﻻ معي فهو صلى الله عليه وسلم قطب الوجود والبرزخ الواسطة وصاحب المفوضية المعظمى التي لا تفنى مع الزمن لقوله تعالى ) إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله( وهو إمام الكل في الحضرات وسيد أهل اﻷرض والسموات والمتخلق بأخلاق الله ومن جعل الله القرآن خلقه وأسماءه وصفاته مظهره وهو ملجؤه وركنه والمﻷ اﻷعلى عصابته ونصرته ومن قرأ كتاب الله وسنة رسوله عرف مقامه صلى الله عليه وسلم فهو الواحد في ذاته الوحيد في صفاته أحمد التجلي محمد عين المعاني وسر أنوار اﻷرواح، ومعرفة الحقيقة المحمدية ليس بالقيل والقال بل بقراة سيرته وشمائله قراءة متمعنة واتباعه صلى الله عليه وسلم في اﻷقوال واﻷفعال واﻷحوال ) فاتبعوني يحببكم الله( واﻹكثار من الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم بشوق وصدق مع استحضار كمالاته العظمى.
اللهم صل على أحمد الذات محمد الصفات والكمالات عين المعاني وسر أنوار روحي وجميع كياني وسلم تسليما واجمعني يا إلهي به وعليه وفيه.