الثلاثاء ٤ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠١٢
"حازم عزمي" يرد على ما نشرته جريدة "البديل"
بقلم حازم عزمي

لم أهاجم "خالد جلال" بل سعيت لتحليل "قهوة سادة"

وقعت عيناي منذ ايام وبمحض الصدفة على موضوع بعنوان "حازم عزمي: قهوة سادة عرضت فى السابق لأن مخرجها من حضن النظام" وقد نشر الموضوع على موقع البديل بتاريخ 15 نوفمبر 2012 وتناقلته بعدها بعض المواقع والمنتديات الأخرى.

ولكم ازعجني ان المحررة قد نسبت إلي كلاما لم اقله عن عرض "قهوة سادة"، وانها قد امعنت فى طلب الاثارة الصحفية فأغفلت عمدا السياق الذى ورد فيه حديثي عن العرض، الا وهو بحث علمي القيته بعنوان Speaking Something to Power (وترجمته مع شئء من التصرف "كلمة ما عند سلطان جائر") وكان هذا في سياق مؤتمر دولي بعنوان "الابداع والثورة" نظمه قسم اللغة الانجليزية في كلية الآداب بجامعة القاهرة من 13 إلى 15 نوفمبر 2012،

أما خطورة إغفال المحررة لسياق الكلام فتتمثل في الايحاء بانني قد افتعلت -بلا مناسبة حقيقية- هجوما ضارياً على العرض الجماهيري الشهير بغية الإثارة ولفت الانتباه. أضف إلى ذلك كون مداخلتي حديثا متخصصا باللغة الإنجليزية وهو ما يزيد من إحتمالية سوء الفهم ويؤكد فداحة السقطة المهنية التي وقعت فيها محررة البديل، إذ لم تكلف نفسها عناء التواصل معي بأي شكل من الاشكال كي تتوثق من صحة ما فهمته من مداخلتي (على إفتراض انها قد حضرتها اصلا) بل تمادت المحررة في الخطأ فأسرعت بنقل هذا الهجوم المزعوم إلى مخرج العرض خالد جلال بغية المزيد من السجال وافتعال المعارك الكلامية.

وبداية اؤكد اننى لم اسع لإدانة عرض قهوة سادة او اتهام صانعيه بتهم اخلاقية او سياسية من اي نوع، بل فقط قلت ان العرض قدم مثالا بالغ الدلالة علي تعقد العلاقة بين السلطة الحاكمة والفنان المسرحي، وصعوبة إخترال تلك العلاقة في ثنائية الفنان الثوري/الفنان ابن النظام، وهي الثنائية التي شاعت بعد ثورة يناير ولكنها – كما ذكرت في مستهل مداخلتي – باتت تعيقنا الآن عن فهم تلك العلاقة فهما متأنياً ومتعمقا لا يخضع لانفعال اللحظة، أي اننىي — على العكس تماما من الصورة الهجومية التي قدمتنى بها المحررة — دعوت في مداخلتي إلى المزيد من التروي كي نتأمل الكثير من المناطق الرمادية التي تقع بين الذهنية الثورية وذهنية التواطؤ مع النظام.

وانطلاقا من هذا المدخل فقد اكدت في الورقة على النقد اللاذع الذي وجهه العرض لأمراض المجتمع المعاصر في عهد مبارك، إلا اني قد اكدت ايضا ان تلك الانتقادات لم تحل البتة دون احتضان الطبقة الحاكمة للعمل وصانعيه (وليس "ارتماء جلال في احضان النظام" كما زعمت المحررة على لساني)، إذ سرعان ما صار العرض حدثا هاما يتسابق إلى مشاهدته والتصوير مع طاقمه نجوم الفن والمجتمع والسياسة. وقد وصل هذا الترحيب الرسمي إلى ذروته حينما حضرت العرض سوزان مبارك، زوجة الرئيس المخلوع، وكان ذلك بناء على توصية خاصة من فاروق حسنى،احد اشد الداعمين للعرض ووزير ثقافة مبارك على مدار عدة عقود شابها الكثير من الجدل حول سعي الوزير الدؤوب إلى إدخال المثقفين في "حظيرة الدولة" (على حد تعبير حسني نفسه في بداية تقلده المنصب). ومن هنا فقد انطلقت ورقتي من سؤال محوري: هل مثل عرض قهوة سادة انعكاسا صادقا لمساوئ عصر مبارك لم يدرك النظام المتغطرس خطورة مغزاه في حينه (وفقا للرأي الذي كتبته الناقدة الكبيرة نهاد صليحة في الاهرام ويكلي بتاريخ 7 ابريل 2011، أي بعد سقوط مبارك، وهو ما اوردته بالنص كاملا في مداخلتي) ام تراه – العرض - قد حرص على ان يحتفظ لنفسه بمكان متميز داخل "الحظيرة" الرسمية بوصفه عرضا أنموذجيا يعارض النظام الحاكم "في أدب" ومن ثم يؤكد ديموقراطية هذا النظام وسعة صدره إزاء معارضيه؟ وقد خلصت في ورقتي إلى ان العرض قد نجح في تحقيق الشيئين معا وفي آن واحد، اي انه قد لجأ إلى الكثير من التحايل المشكور كي يقدم لجمهوره رسالة نقدية من نوع ما تخاطب قناعاتهم وتعبر عن احباطاتهم المتزايدة آنذاك، وفي الوقت ذاته فقد سعى العرض ايضا للمحافظة على قدر غير قليل من المهادنة والود مع النظام - شأنه في ذلك شأن السواد الاعظم من الاعمال الفنية في العهد السايق، وإن اختلفت مساحة المهادنة ودرجة الود من حالة إلى اخرى وفقا لقناعات كل فنان وتوجهاته.

ويذكرني هذا الأمر بعبارة "المعارضة المستأنسة" والتي اوردتها المحررة على لساني وصفا لجلال وعرضه، وهو توصيف لم استخدمه فيما اذكر، والأدق في رأيي ان نصف العرض ب"المعارضة المهذبة" فهذا هو التعبير الذي اقره جلال نفسه، ومن امثلة ذلك الندوة التي اقامتها حول العرض جريدة روز اليوسف اليومية واستضافت فيها جلال وطاقم الفنانين المشاركين ثم نشرتها في عددها الصادر بتاريخ 22 يناير 2009 (راجع: "قهوة سادة يواجه السلبيات ولايبحث عن الفضائح" – روز اليوسف اليومية بتاريخ 22 يناير 2009- ص 15). وفي هذه الندوة يتغني جلال بفضل فاروق حسني في ازدهار مركز الإبداع الذي يديره وبزيارة سوزان مبارك للعرض التي "منحت الفريق طاقة غير عادية" على حد تعبيره، ويشيد ايضاً بسماحة الوزراء والمسئولين وتقبلهم بصدر رحب للنقد المتضمن في العرض، ثم يمضي شارحا السر وراء كل هذه الاريحية الرسمية، قائلاً بالنص: "فنحن فى النهاية لا نقدم نصا مسرحيا جارحا، بل العمل مهذب جدا في طرح ومناقشة كل القضايا والمشاكل التى يعاني منها المجتمع ... لأننا لا نقصد إدانة البلد بقدر ما نقصد محاولة حل المشكلات، فأنا ضد من يمسك السلبيات ويصيغها في شكل فضيحة".

لن ارهق القارئ بتفاصيل مداخلتي بمؤتمر جامعة القاهرة (والتي اعتزم نشرها في العام المقبل في إحدى الدوريات العلمية الدولية)، فقط اقول انني لم اخف اعجابي واستمتاعي بحيوية العرض، إلا ان هذا الاعجاب لم يحل دون ان ابرز طريقة تعامله المبتسرة مع المساوئ الاجتماعية التي عرض لها بالنقد والسخرية، إذ بدا العرض في حرصه المعلن على التزام "الأدب" كمن يأبى مد الخط على استقامته كي يصل بنا إلى اصل المرض لا محض اعراضه البادية للعيان، وبعبارة اخرى فإن مسرحية قهوة سادة بدت كما لو كانت ترجع سبب تفشي تلك المساوئ إلي خلل ما مجهول الأسباب، اصاب شخصية الشعب المصري في غفلة من الزمن وجعلته يغترب فجأة عن "ماضيه الجميل"، في حين انها – المسرحية - لا تقدم لنا اية إشارة واضحة إلى مسئولية النظام الحاكم عن كل هذا التردي الممنهج والمتراكم على مدار عقود طويلة متعاقبة. ومراعاة لتلك الرسالة الانتقادية المزدوجة والمركبة فقد انصرف جهدي في الورقة التي القيتها إلى تحليل تلك الرسالة وتفكيكها قدر الامكان على نحو لا ينتصر لرأي واحد بعينه بل يسمح لكل فرد ان يقرر بنفسه مدى ثورية العرض من عدمه. وقد اعلنت مقاصدي تلك بوضوح أثناء المداخلة وفي المناقشة التي اعقبتها، إذ وقفت احدى المخرجات ذات التوجه الثوري وطلبت مني علنا ان اشاركها ادانتها لخالد جلال وما يمثله بوصفه – في رأيها الشخصي- من فلول النظام السابق المتحولين في مرحلة ما بعد الثورة، ولكنى اعتذرت عن التطرق إلى هذا الموضوع وقلت ان اهتمامي يقتصر على تحليل العمل ذاته بكل مزاياه وتناقضاته لا تحليل نوايا مخرجه ومحاكمته سياسياً وأخلاقياً.

أما عن إشارتي إلى رعاية النظام لجلال واعتباره فردا فاعلا في حظيرة المؤسسة الثقافية الرسمية فهي لا تعني بالضرورة التشكيك في مصداقية جلال او قدراته الفنية، بل تمثل محض سرد لتاريخ وحقائق معلومين للكافة من واقع السيرة الذاتية للمخرج: ويمكننى ان اتفهم حساسية جلال تجاه التذكرة بتلك الصلة وبخاصة مع ما يبدو لي الآن من تقديمه لنفسه بوصفه فنان راديكالي لم يخش معارضة النظام في عقر داره، ولكن اي تحليل امين لعرض قهوة سادة في سياقه لا يملك أن يغض البصر عن ذلك الاحتضان الرسمي لجلال وما كان له من بالغ الاثر على العمل انتاجا واستقبالا واستثماراً إعلاميا وسياسيا، والمهم كما قلت لتوي ان هذا كله لا ينتقص من قيمة العمل في حد ذاته ومن موهبة صانعيه وما بذلوه من جهد يستحق الإشادة، والامر هنا لا يخص جلال بمفرده بل فريق العمل ككل، إذ يجدر بنا ان نتذكر ان العمل نتاج ابداع جماعي داخل ورشة ارتجال وبالتالي فمن الغبن بمكان أن نرجع تميز قهوة سادة إلى إسهامات المخرج وحده (حتى وإن حمل العمل في صورته النهائية بعض اللمسات المميزة لأسلوبه الإخراجي). وأزيد فأقول ان المسرحي الأمريكي الشهير لي بروير Lee Breuer، والذي يعد من اهم مخرجي المسرح في العالم منذ النصف الثاني في القرن العشرين وحتي يومنا هذا، قد شاهد هذا العرض في القاهرة حينما مثل مصر في مهرجان المسرح التجريبي في دورة 2008، وعلى الرغم من ان بروير لم يفهم بطبيعة الحال حرفا واحدا من المسرحية او رسالتها الانتقادية فقد اسر لي حينئذ باعجابه الفائق بانضباط وتناغم الاداء الجماعي داخل العرض وأكد انه من الناحية الفنية البحتة لايقل في شيء عن العروض المقدمة على مسارح الاوف برودواي Off-Broadway في نيويورك، إن لم يتفوق على الكثير منها فنياً في رأيه الخاص.

وختاماً اراني مضطرا للتوقف عند ما تفضل به السيد خالد جلال حينما وصفني بالجاهل الذي يهاجم العرض ومخرجه سعياً وراء الشهرة، واقول مضطرا لاني اعتقد ان ما قاله المخرج لا يخصني في شيء بل يجسد فيما يبدو ازمة ما تخصه هو: حسبنا تأمل ما تشي به كلماته من استعلاء وعصبية مفرطة تجاه شبهة اي انتقاد وتسرع فى تجريح الآخرين والنيل منهم دون التوثق من دقة الحديث المنقول (ناهيك عن كونه قذفا في حقي يمكن ان يوقع صاحبه تحت طائلة القانون). فقط اشير في هذا السياق إلى انني احمل درجة الدكتوراه في الدراسات المسرحية من جامعة وريك Warwick، وهي الجامعة الاولى فى هذا التخصصعلى مستوى المملكة المتحدة، كما انني المقرر المشارك لمجموعة عمل المسرح العربي بالإتحاد الدولي للبحوث المسرحيةThe International Federation for Theatre Research، والذي يعد بدوره اكبر هيئة بحثية دولية في مجال الدراسات المسرحية، وقد شرفت في الفترة من 2008 إلى 2010 بان اكون اول باحث عربي يتم ضمه للجنة التنفيذية العليا لهذا الإتحاد. وعلى مدار السنوات التسع الماضية ساهمت مع غيري من الباحثين في التعريف بالمسرحين المصري والعربي فالقيت ابحاثا ومحاضرات عنهما في ايطاليا والمغرب والدانمارك وهولندا وفنلندا وجنوب افريقيا وكوريا الجنوبية والبرتغال والمانيا، بالإضافة إلى انجلترا والولايات المتحدة، كما نشرت لي ابحاث ودراسات فى كتب ودوريات عالمية، احدثها الفصل الخاص بمصر في كتاب رفيق كمبريدج للتاريخ المسرحي Cambridge Companion to Theatre History والمزمع صدوره عن دار نشر جامعة كمبريدج فى غضون الاسابيع القادمة، ولأن الشيء لا يذكر احيانا إلا بنقيضه فلعله من الملائم ان اشير إلى انني في الفصل الذى كتبته في هذا المرجع حاولت ان اعيد بعض الاعتبار المستحق لمسرحيين اخرين ممن عاشوا وقضوا نحبهم دون ان يحظوا قط بمثل ما اغدقه النظام السابق على قلة محظوظة من قاطني حظيرته، واعني بهؤلاء المغبونين شهداء محرقة قصر ثقافة بني سويف.

ولا يسعني في النهاية سوى أن اعتذر للقارئ عن هذا الرد المسهب وما به من شبهة سرد مجاني لجانب من سيرتي المهنية، فما افعل ذلك إلا مضطراً كى اوضح حقيقة ما قلت ومالم اقله، ولأن خبراتي وسابقة اعمالي تسمح لي، فيما اظن، ان ادلي بدلوي في شأن المسرح المصري وقضاياه، ناهيك عن كونها قد كفتني مذلة الالتحاق بمعية هذا او تلك، او البحث عن شهرة مصطنعة تمسحا في قامة فنية فذة بحجم السيد جلال. ولهذا كله فقد قررت ان اعتبر الامر برمته من قبيل المضحكات التي لا يصح لراشد التوقف عندها طويلاً، وبخاصة مع ما تمر به مصر الآن من احداث عصيبة باتت تهدد وجودنا جميعاً. حسبنا ان نتذكر تلك المقولة البليغة لعلى بن ابى طالب: "إذا وضعت أحداً فوق قدره فتوقع منه أن يضعك دون قدرك".


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى