ليلةٌ طويلةُ الزّفاف
ما تصوّرتُ لحظة أنّ تلك الليلة ستكون طويلة إلى ذلك الحدّ...! و ما كنتُ لأتخيّل قطّ أنّ تلك الليلة ستنهش حياتي فتكون أطول من عمري كلّه..!
حين عدتُ إلى قريتي في ذلك الصّيف الثقيل بعد عام طويل من العمل في بلاد الغربة، وجدتُ أمي قد نحَفَتْ بشكل لافت و أصبحتْ غير قادرة على تناول طعامها فقد تآكلتْ أسنانها ولم يبق منها سوى جذور سوداء، انقبض قلبي حين فتحتْ فمها أمامي كطفلة صغيرة،وأخذت تشير بسبّابتها إلى ما بقي من أضراسها، لقد شاخت كثيرا ولم يبق من روحها إلا رائحتها الشامخة، وسط وشاحها الأخضر الذي تربطه بإحكام تحت ذقنها، يُشرق وجهُها النديّ زهرةً باسمة كصباحات الصّيف أو كأمواج البحر، أو كطلْعٍ ثَلْجيّ لنخلة شامخة...لطالما جابهتْ الألم و الرّياح بصمت الآلهة!!
لكن هذا اليوم ذُهلتُ عندما رأيتُ أسنانها، فبدون تردّد وبسرعة اتصلتُ بطبيبها في مدينة صفاقس الدّكتور "وديع المسدي" الذي طلب مني بصوته البهيج كعادته ألاّ أعرضها على طبيب أسنان إلا بعد أن أراجعه هو في مصحة ابن النفيس بمدينة صفاقس خاصة وأنها قد تعرّضت إلى علاج إشعاعي منذ بضعة سنوات للقضاء على ورم خبيث خلف أنفها.
كانت علاقتي بالدكتور متينة جدّا لقد كنّا نتناقش في كل شيء، كان دائما يطالع كتبا طبيّة باللغة الانجليزية و يعدّ نفسه للهجرة إلى أمريكا بعد أن هرب من عنصرية الفرنسيين القذرة التي تنخر قاع أعرق مستشفياتهم، كان يقول لي دائما إنه لا يمتلك دهاء اجتماعيا رغم كفاءته و خبرته العالمية لأنه لا يعرف كيف يكذب، هو طبيب يقول الحقيقة كما هي و تلك أكبر مشكلة يعاني منها، كانت نقاشاتنا عادة تستغرق الوقت الذي تتلقّى فيه أمي العلاج الإشعاعي، و لكن الرائع في كل ذلك هو علاقته بوالدتي والتي ما إن رآها في المصحة في ذلك اليوم حتى قام من مكتبه وعانقها ثم قال لها بكل حبّ، والفرح يشعّ من عينيه بصوته البهيج الضاحك :
– أمي الحاجّة كيف حالك؟؟ ألم تتزوّجي مرة أخرى؟ ألم أقلْ لك سأزفّك كالعروس بعد شفائك من علاج الأشعة و طلبت من ابنك هذا أن يشتري لك مرهما للتجميل يزيل البقع السوداء عن وجهك وقلت له إنه دواء متوفّر في فرنسا فقط و إن لم يستطع أن يوفّره لك أنا سأتدبّر أمري و آتيك به.....تتذكرين يوم قلت لك إن ابنك هذا الوحيد الذي دائما يرافقك قد كبر و صار شابا و حان الوقت كي تفكري في حياتك فابتسمتِ لي يومها وقلت إن لديك أربعة غيره....أنا غاضب منك حقاّ... غاضب و هذه المرة سأزفّك بالفعل عروسا...
ثم نظر إليها مليًّا و أجلسها على الكرسي ثم واصل قائلا:
– هذه المرة لن أتركك..سأرجعك شابّة و سأحضر زفافك..يكفي من حياة الحزن والألم، عيشي حياتك..ألا يكفي أنك ترمّلت صغيرة و عانيت الأمريْن حتى أصبح أولادك الخمس رجالا...
كانت تجيب كلامه بابتسامة بريئة عارمة تشعّ بخضرة عينيها و تأخذ في السؤال عن زوجته وأبنائه...
و بعد التحاليل وصور الأشعة، دعاني الدكتور إلى مكتبه وقال لي بصوت حادّ كالسكين:
– اعذرني يا صديقي و لكن والدتك في حاجة إلى علاج كيمياوي عاجل.
فاجأني بكلامه، أحسست كأنني طُعنت على حين غرة، و عندما رأى نظرات الرعب تملأني، قال لي بصوت خافت وهو يُلَمْلِم جزعي بعينيه الهادئتين:
– اسمعني يا صديقي لو رأت أمك هذه النظرات ستموت قبل العلاج...
ثم ابتسم و أخذ يضحك و يشير إلي بيده و يقول:
– هل أنت خائف على العروس؟! لا تخفْ لقد جئت في الوقت المناسب....لا خطر على الحاجّة والدتك و لا تخْش شيئا....
بعد يومين بدأت أمي العلاج الكيميائي و ظلت تتناول الجرعات على مدى عشرة أيام و في تلك الأثناء لم أعدْ أجلس طويلا مع الدكتور وديع كما كنا نفعل سابقاً و لكنه، بعد أخذها جرعة دوائها المقيت، يأتي غرفتها فيسأل عنها و الابتسامة تسبق ظلّه:
– كيف حال عروسنا اليوم.....؟
ثم يلتفت إلي و يواصل: - لابد أن تتمشّى و لو في رواق المصحة و تأكل طعامها كله...و يكفيها من دلع العرائس...
في تلك الأثناء تكون أمي في حالة إعياء كامل فتكتفي بالابتسام له فيقترب منها أكثر، يربت على يدها و يخرج، كان ذلك دأبه كل يوم.
و عندما أنهت أمّي علاجها و قد اشتدّ الوهن عليها وزاد هزالها و أصبح الشحوب يكسو وجهها بشكل دائم، ذهبنا إلى الدكتور في مكتبه فقال لها ببهجة عارمة:
– لقد شفيت..انتهينا...الحمد لله....رأيت كيف أصبحت شابة؟؟ ألم أقل لك سأرجعك إلى الوراء عشرين سنة..الآن لابد أن تأكلي بشكل جيد و أنا سأتدبر لك زوجا من علية القوم يليق بجمالك...المهم أن توافقي..،اتفقنا؟!
و بعد أن صافحناه مودِّعين و حين كنا نهمّ بالخروج، رأيت أمي تتّجه إليه وراء المكتب بخُطى وئيدة متعبة فأراد أن يقف لها لكنها رفضت بإشارة من يدها، ثم ضمّته إلى صدرها و أخذت تلهج بالدعاء له:"يا ولدي الله يبارك فيك....ويستر حالك.... ويعطيك ما تتمنى....يرحم والديك يا ولدي "في تلك اللحظة استكان الدكتور وديع إلى دعائها كطفل صغير و لمحت نظراته تشعّ لمعانا غريبا..كان مزيجا لفرح بحزن!...
عدنا إلى القرية وكانت سعادة أمي لا توصف، كنت أعرف أنها كانت تتصور أنها لن تعود إلى بيتها، عادت إلى عشّها كعصفورة تراقص صهوة النشيد....عادت تتفقد كل ناحية..كل ركن غير مصدقة، لقد نسيت كل آلامها و أخذت تتنقّل من السقيفة إلى الحديقة ومن المطبخ إلى غرف النوم، تتثبت في الأبواب الخشبية والنوافذ الحديدية وتسقي شجرة الحناء، تدخل غرفة نومها ثم تخرج و قد وضعت قُرطيْ أذنيها الذهبيّيْن هدية زواجها، هي ذكرى من أبي ذلك الذي ظلّ ساكنا فيها كالقدر، ملكة كانت في تلك اللحظات تتهادى و قد علتْ السعادة وجهها و تضاءل شحوبها و كأن الحياة قد دبّت فيها من جديد.
غير أنه بعد أسبوعين ستعاودها الآلام في كامل أنحاء جسدها و قد أصبح الصداع يشتدّ عليها إلى درجة الإغماء..فهاتفت الدكتور وديع بصوت مرتعش ينهشه الخوف، فقال لي بنبرة بهيجة راقصة:
– لا تخفْ، هذا أمر طبيعي، إنها مضاعفات العلاج الكيمياوي قل لي... العروس بجانبك؟؟؟... أريد أن أكلمها.
وضعت السمّاعة عند أذن أمي المستلقية على فراشها فسمعته يقول:
– لا تخافي يا عروس هذا أمر طبيعي ستتحسنين و سأحضر زفافك الثاني..لا تحرمينا من دعائك..
بعد ذلك سألني بحزم وقد أحسّ الكآبة تلفّ أنفاسي:
– أتعرف عني الكذب؟؟ قل لي أتعرف عني الكذب؟ما تعيشه والدتك أمر طبيعي، فمضاعفات العلاج الكيميائي الجانبية يلزمها وقت حتى تخفّ، هل هذا واضح؟..لا تخفْ...واذهبْ الآن إلى الصيدلية ومرِّرْ لي الصيدلاني لأنني سأقول له ماذا يفعل..هيا بسرعة و ابتسمْ لها دائما ..لا تنسَ أبدا أنك مرآتها في هذا العالم...احذرْ أنْ ترى الخوف في عينيك....مفهوم...!!
خرجتُ من الصيدلية بزجاجة كبيرة فيها خليط من العقاقير السّائلة، قام بخلطها الصيدلاني في مخبره الصغير حسب تعليمات الدكتور و أخذت أمي تتناول جرعات محددة منه كل يوم و بدأت حالتها تتحسّن.
بعد أسبوع وفي يوم خميس قائظ كالقحط قاطع كالحريقْ، عدتُ ظهرا إلى البيت و حين جلستُ إلى فراش أمي وجدتها وكأنها في غيبوبة، كلمتُها لم تجبني، بل تنبّهتُ إلى أنها أصبحتْ تفتح عينيها بصعوبة إلى درجة أنها حين أرادتْ منّي -رفقة أخي الصغير- مساعدتها في الذهاب إلى بيت الراحة، طلبتْ ذلك بإشارة منهكة من حاجبيْها، و ظلّت تجرّ خطواتها جرًّا ولم تستطع حتى الوقوف، و حين أعدناها إلى الفراش أحسستُ كأنها لا تحسّ بمن حولها، لمستُ قدميها فوجدتهما باردتين كالثلج، أحسستُ أن بيتنا يغشاه كائن غريب يُطْبق عليه كسيْل أسود كريه، فشعرتُ أنّ نفَسي صار ثقيلا ، ليس للموت رائحةٌ ولكن طعم الحزن دائما مريرْ!!
ذهبتُ لآتي بخالتي لتفسّر الذي يحدث لأمي فجاءت على عجل و لكنها ما إن رأتها على تلك الحال حتى جلست على حافة فراشها، نزعتْ من تحت رأسها الوسادة ووضعت رأس أمي على ركبتها وأخذت تقرأ القرآن وتمسح على شعرها وتنظر إلينا أنا وأخي الأكبر بعينين فارغتين، ثم شرعت تقطّر في فمها الماء من قطنة تغمسها في إناء بجانبها ...في تلك اللحظة لبسني الذعر و غامت الدنيا فخرجت من غرفتها و أنا في حالة ذهول وخواء، هاتفتُ الدكتور و رويتُ له ما يحدث فقال لي بصوته المعهود:
– لا تخشَ شيئا ربما الدواء لم يناسبها...نلتقي غدا الساعة الثامنة صباحا في مستشفى ابن النفيس.
كانت ليلة طويلة كالسواد، مظلمة كالألم، نحرتني فيها الأشواك..و سخر مني القدرْ!.....فقد رحلتْ أمّي عند الفجر.... رحلتْ أمي و أخذت معها حياتي و كل ما أعشق في هذه الدنيا....رحلتْ و أنا مازال لديّ كلام كثير أريد أن أقوله لها......و ما زال لديّ حبّ أقوى من الدنيا...و أجلّ من الروح....و أعْتى من ألم الرجالْ !!!!
عمّ السواد بيتنا المقفر الخاوي إلا من المعزّين من أهل القرية، و بعد يومين رنّ جرس الهاتف، رفعتُ السمّاعة فسمعتُ صوته خاليا من البهجة هذه المرة:
– الدكتور وديع؟
– نعم.
سأل بصوت مرتجف متردّد:
– لم تأت إلى المستشفى؟ أين..أين العروس؟
أجبته بصوت مختنق:
– العروس زُفَّتْ يا دكتور.. زُفَّتْ...!!
ردّ عليّ بصوت شاحب:
– أدعو الله أن يرحمها و يسكنها فسيح جنّاته...أعتذر منك يا صديقي..نعم أعتذر لأنني لم أستطع حضور زفافها.....و سامحني.. سامحني : فالألم هو الذي علّمني الكذب!!
ثم أقفل الخط.