ماذا لو باعت صباح فساتينها ؟!
سَرتْ منذ أسبوعين شائعة تفيد بأن الفنانة الكبيرة صباح تعـْرض الفساتين التي ظهرت بها في أفلامها ومسرحياتها وسهراتها الفنية للبيع نظراً للضائقة المالية التي ألمَّت بها مؤخراً.
ليس غريباً أن تصل الحال بفنانة عظيمة ملأت الدنيا وشغلت الناس مثل جانيت الفغالي إلى مثل تلك التي نسج ثقيلو الدم إشاعتهم على نولها. فقبل صباح تعرَّض فنانون ومبدعون خالدون، من كافة بقاع الأرض وخلال مراحل التاريخ الفني والأدبي، إلى أزمات مالية وهم في أواخر فترات حياتهم التي كانت مليئة بالنشاط والعطاء والشهرة أيضاً ..
وبما أننا نشهد أياماً انقلبت فيه القواعد والمعايير لتتحفنا بأفظع صور العبثية واللامعقول فإنه لا مناص من قبول واقع كهذا، على مرارته، تذهب فيه الأموال المصروفة على كافة أشكال الفن إلى الرخيص والغث منه ويحرم الطرب الأصيل والمسرح الجيد وأصحاب الإبداعات من جزء يسير من هذه الأموال، بالرغم من أن أرقامها أصبحت كبيرة جدا ً لا بل خيالية كي تعكس حالة (الرخاء) المدعوم بذهبنا الأسود.
وبغض النظر عن مدى صحة الخبر، والذي كذبته صباح، فإن الفكرة بحد ذاتها ليست كما يحلو للبعض تصويرها كعمل مُخجل أو كملجـأ يائسٍ من الفاقة بل من الممكن النظر إليه من زاوية أخرى بكل بساطة وجدية، ولنقطع الطريق على تجار أخبار الفنانين، وخاصة من له في تاريخ الفن باع طويل ومكانة عظيمة.
فساتين صباح في أعمالها ليست قطعاً من القماش التي حيكت لستر جسدها ولا هي ملابس عادية تقيها البرد والحر بقدر ما هي أجزاء من العمل المسرحي الذي أطلت فيه الشحرورة على جمهورها ومحبيها في مسارح بيروت ودمشق وبعلبك والقاهرة وتونس وباريس وعشرات المدن العربية والعالمية برشاقتها وحيويتها ووجهها المشرق وصوتها العذب ومواويلها التي سحرت الألباب وقربت المتباعدين وأعادت للمهاجرين مشاعر الحنين إلى أوطانهم وأهلهم.
إن في ثناياها وزركشاتها صور لفن صباح الذي اشتركت لإكسابه الصفة الأدبية مع عشرات الكتاب والمؤلفين والشعراء والمخرجين والموسيقيين والمصورين والممثلين في تآلفات إنسانية رائعة.
وهي غالباً من تصميم وتنفيذ محترفين فنانين أكثر من كونهم مجرد مصممي أزياء فكانت ابتكاراتهم بمستوى فن صباح وأدوارها وأغانيها.
ولأنها كذلك، ولأن وظيفة هذه الفساتين انتهت بانتهاء العروض، ولأن أحداً لم يفكر بإقامة متحف لملابس الفنانين والفنانات فإنه لا ضير في توزيع هذه الفساتين على من تعني شيئاً ما بالنسبة إليهم والاستفادة من ثمنها الذي يجب أن يكون مرتفعاً في حالة صباح بالذات نظراً لحقيقة يعلمها الجميع وهي أنه عرف عن هذه الإنسانة كرمٌ غير محدود واستعداد لمساعدة الجميع، أفراداً ومؤسساتٍ إنسانية كما أنها صرفت مراراً على حفلاتها ولم تتلق الريع بل تبرعت به كاملاً لأعمال خيرية.
لو كان لدي المال لما ترددت في شراء "فستان نجلا الحريري" .. كنت سأضعه معلقاً في فيترينة زجاجية خاصة ذات فتحتين لتمر منهما نسائم الربيع تتلاعب بأطرافه فأتصور حرج نجلا الخجولة التي أتعبها الفستان فغنت تهدده: (انضل الهوا يعمل هيك رح ضبك بالخزانة) وكنت سأشتري "الفساتين المكوية" التي لبستها "سلوى" في المدينة بدلاً من ملابس الضيعة وربما تحسَّرْتُ على الفساتين الأخرى التي رافقت صباح على مدى ستين عاماً من المجد والتألق والنجاح في السينما والمسرح والغناء ومن الكرم في صناعة الفرح وتقديمه مجاناً لعشاقه.
ولكن، هيهات يابو الزلف، المال ليس في جيبي .. إنه في جيوب آخرين معظمهم لم يتلذذ العتابا والميجانا ولم يتذوق مواويل الدلوعة ولم يحلق مع صوتها الرنان فوق أرز لبنان العالي.
ومع هذا فلا بد أن هناك من هو على استعداد لاقتناء فساتينك الجميلة.
بيعي فساتينك ياشحرورة الوادي .. فـُرادى أو حتى للـ "سمسار اللي بيلبس قمباز وكمره مليان" كما بعتـِه القصب لصنع "دواليب الهوا" فأسعدت الأهالي ..
بيعيها فربما انتقلتْ من خزائنك، حيث لا يراها أحد سواك، إلى فيترينات من أحبك في "عقد اللولو" و "كرم الهوى" و "الشلال" و "القلعة" و "ست الكل" و "الأسطورة" .. فإن رأوها عادت بهم الذاكرة إلى "البيصير يصير" و "عَ الندَّا الندَّا" وغيرها ..
بيعيها وبيعي بيتك واطلبي لهم ثمناً عالياً يليق بقيمة ما أجدْتِ به وأنت في رونقك وبهاء محياك وكذلك بقدر ما أبهجتِ القلوب ونشرتِ الفرح وأحييتِ في النفوس حب الوطن والإخلاص له. بيعيها وتمتعي بصرف ثمنها كما يحلو لك .. فما نحن متأكدون منه أنك كعادتك ستتبرعين بسخاء لمن هو محتاج.
وكما تـُزين جدران البيوت الفاخرة بلوحات قيمة لعظماء الرسامين ورفوفها بمقتنيات الملوك والأمراء والأميرات فإن فساتينك الناعمة ستكون من أغلى ما يحتفظ به معجبوك وستذكـِّر من يراها بجبال لبنان التي ارتفعت بصوتك القوي مخترقة الغيوم لتمسح قطرات العرق عن وجه القمر الذي لم يتوقف عن الحضور في سهراتك الممتعة، وستزيد من حماس الفتيان والفتيات في حلقات الدبكة وهم يخبطون الأرض "عنَّي يا منجيرة عنـي" و " يا خيل بالأرض اشتدي" ومن دَلـَع الصبايا يتمايلن مع "أهلا بها الطلِّة أهلا" ومن فرح جمهورك وفخرهم يرددون "يسلم لنا لبنان".
يا سيدة لبنان وأيقونته، يا لحن العتابا والميجانا، يا شلح الزنبق .. يا حلا الثورية و سلوى المغامرة وأم مرعي الصبورة القنوعة ونجلا يصل صوتها المتدفق كالشلال إلى النجوم فتطرب وتحزن لأنها ليست معنا على الأرض ..
يا مليكتنا .. ألم تـُقرِّي بأن "حب الجمهور هو أصدق أشكال الحب وأرفع التيجان" إذن .. هنيئاً لك هذا الثراء الذي لا يزاحمك إليه أحد .. لا خوفاً بل اعترافــاً بأنك مـالكةُ قلوب عشاق الطرب الأصيل .. ولا تكترثي للإشاعات التافهة وابقي لنا الصبوحة الشحرورة صانعة الفرح ورمزه الأبدي.