الاثنين ١ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠١٨
بقلم صبحي غندور

ما بين أرضٍ أميركية.. وأمّة عربية!

اضطررت في عامٍ سابق لأن أقود سيارتي على مدار أكثر من 12 ساعة في يومٍ واحد، ومن دون رفيق درب، عابراً ثماني ولايات أميركية في الوسط الشمالي للولايات المتحدة. ولم تكن تلك هي المرّة الأولى التي أتنقّل فيها برّاً بين ولاياتٍ أميركية، لكن جدّة التجربة لي كانت بأنّي أفعل ذلك دون رفقة أحد ممّا أتاح لي شيئاً من الخلوة مع الطريق، ومع جغرافية الأرض الأميركية، ومع سلسلة من البرامج الإذاعية الإخبارية التي كنت أتابع سماعها خلال هذه الرحلة.

أولى الملاحظات التي راودت ذهني هي التساؤل عن كيفية الجمع في التجربة الأميركية بين تنوّع الطبيعة الجغرافية ووحدة النظام المستخدم عليها. أيضاً، بين تعدّدية المجتمع واختلاف ألوان البشر فيه وأصولهم الثقافية والعرقية والدينية، وبين انتمائهم جميعاً إلى هويّة أميركية واحدة تجمعهم وتوحّد بينهم.

فخلال مسافة قاربت الألف ميل، عبرت ولاياتٍ ذات طبيعة جبلية وأخرى هي سهول ممتدّة.

ولايات يتميّز بعضها بالتصنيع والمدن الصاخبة، وبعضها الآخر بالزراعة والحياة الهادئة البسيطة. وتجد في أيّ محطة أو استراحة على الطريق أشكالاً وألواناً مختلفة من الناس لكن جميعهم يستخدمون التسهيلات ذاتها في الولايات كلّها، ولا تعرف أنّك انتقلت من ولايةٍ إلى أخرى إلا من خلال دفع رسوم "الطريق السريع" أو من لافتات صغيرة على جانب الطريق.

وتساءلت في نفسي: لِمَ نجح الأميركيون (والأوروبيون الآن أيضاً) فيما فشل فيه العرب؟ فالمسافة التي قطعتها برّاً في يومٍ واحد هي تقريباً كالمسافة ما بين بيروت وجدّة أو بين بيروت والكويت. فلِمَ استطاع الأميركيون القادمون من أصول ثقافية مختلفة أن يحقّقوا تكاملاً على الأرض الأميركية بين ولايات تمتدّ من المحيط الأطلسي إلى المحيط الهادي، بينما فشلت الدول العربية في تحقيق ذلك رغم ما هي عليه من وحدة ثقافة وأرض وتاريخ وحضارة ومصالح مشتركة؟

أيضاً، لِمَ نجحت تجربة السوق الأوروبية المشتركة، التي تزامن تأسيسها مع تأسيس جامعة الدول العربية، في التحوّل إلى اتّحادٍ فيدرالي بين أمم أوروبية مختلفة، بينما تزداد الدول العربية انقساماً وصراعاً في علاقاتها مع بعضها البعض، بل وفي داخل أوطانها نفسها أحياناً؟
أليست المشكلة عربياً هي في انعدام الإرادة السياسية بتحقيق التكامل والاتحاد، وأيضاً في خطايا الإدارة السياسية للأوضاع العربية؟!

صحيح أنّ المنطقة العربية هي منطقة صراعات دولية، وأنّ حدودها الراهنة هي محصّلة تسويات أوروبية تمّت في مطلع القرن الماضي، وبأنّ الأمّة العربية ينخر في قلبها جسم صهيوني غريب استنزف طاقات الأمّة لعقود طويلة، لكن هذه العوامل كلّها هي أيضاً أسباب مهمّة للتكامل والتوحّد السليم بين الأقطار العربية. فلا الأمن الوطني لأيِّ بلدٍ عربي يمكن تحقيقه بمعزل عن الأمن العربي العام، ولا التنمية العربية الشاملة ممكنة من دون تكامل الثروات والطاقات العربية المبعثرة والمستنزفة من قبل شركات الخارج، أو أحياناً أخرى في بلدان الخارج.

بلا شكّ، فإنّ المدخل السليم لتكامل الدول والأوطان هو صلاحية النظام السياسي الذي تقوم عليه هذه الدول. فالبناء الدستوري السليم هو الأرض الصلبة المطلوبة لأي عملية تكامل بين الدول. هكذا كان درس التجربة الأميركية التي وضعت أولاً دستورها الشهير قبل أكثر من مائتي عام وجعلته المرجع الوحيد للحاكمين والمحكومين في ثلاث عشرة ولاية، فإذا بهذه التجربة الدستورية والتكاملية تتطوّر على مدى أكثر من قرنين من الزمن لتضمّ الآن خمسين ولاية أميركية هي في مجموعها اليوم أكبر قوة اقتصادية وسياسية وعسكرية في العالم، لكن ليس بمقدور أي ولاية منها أن تعيش وتزدهر من دون الولايات الأخرى ونمط الحياة المشتركة الرابط بينها جميعاً، فهي وحدة "الكل" الجامع لخصوصيات متنوّعة ومختلفة.

وفي رحلة الطريق هذه استمعت لبرنامجين إخباريين أحدهما عن العلاقة بين الدين والدولة، والآخر كان مقابلة هاتفية حول مسألة الهوية الوطنية في البلدان العربية.

وكانت ملاحظاتي على البرنامج الأول حول الدين والدولة أنّه تعامل مع الموضوع من منطلق مسلّمات في المفاهيم وليس من نسبية المعرفة والإدراك لطبيعة كلٍّ من الدين والدولة. ففي تقديري أنّ المشكلة ليست في إحداث "الفصل" أو عدمه بين الدين والدولة في أيّ مجتمع، بل المشكلة هي في كيفيّة فهم الدين وفي كيفيّة بناء الدولة. فالفصل بين الدين والدولة ليس ضمانة لتقدم المجتمع أو لتحقيق الديمقراطية أو العدالة الاجتماعية فيه بدلالة تجربة الاتّحاد السوفييتي التي جرى الفصل فيها بين الدين والدولة، ولم تنجح هذه التجربة في الاستمرار ولا في بناء مجتمعات واحدة ديمقراطية متقدّمة. وهكذا كانت التجربة التركية أيضاً في تطبيق العلمانية.

وهناك في العالم نماذج مختلفة من الدول العلمانية واللاعلمانية، وفي المجموعتين هناك أزمات كثيرة تتعلّق إمّا في كيفية فهم الدين أو في كيفية بناء الدولة. فقبل الوصول إلى الفصل المنشود بين الدولة السياسية والمرجعيات الدينية، فإنّ المجتمع كلّه بحاجة إلى فهمٍ سليم للدين يحرص على قيمه ومبادئه وغاية وجوده في الحياة من حيث الدعوة للإيمان الديني والعمل الصالح في أيّ مجتمع، كما هناك حاجة قصوى إلى بناء الدول على أسس دستورية سليمة.

أمّا البرنامج الآخر عن مسألة الهوية الوطنية في البلاد العربية، فوجدت نفسي أتساءل عن هذا الضياع العربي في موضوع الهوية، وكيف ينظر بعض العرب إلى دوائر انتمائهم بشكلٍ متناقض دون أيِّ مبرّر موضوعي لذلك. فالانتماء لأي دين أو للتاريخ الحضاري الإسلامي لا يتناقض مع الانتماء للهوية الثقافية العربية ولا مع الانتماءات الوطنية المتعدّدة في أرجاء الأمَّة العربية. تماماً كما هو حال الهوية الأميركية الآن لدى عموم الولايات الأميركية. فالمشكلة ليست أساساً في كيفية رؤية هذه الانتماءات الثلاث: الدينية والقومية والوطنية، بل هي في افتعال التناقضات بين هذه الانتماءات المتعدّدة وفي هذا التفسّخ الحاصل داخل بعض الأوطان العربية، وفي تغذية الانقسامات الطائفية والمذهبية والإثنية.

فالتخلّي عن الانتماءات الجامعة بين العرب لن يؤدّي إلى تقوية أي هوية أخرى للعرب، دينية أو وطنية، بل إنّ إضعاف الهوية العربية هو مقدّمة للتخلّي عن الهوية الوطنية نفسها لصالح انتماءاتٍ إثنية وطائفية ومذهبية ضيّقة تدفع بصراعاتها إلى حروبٍ أهلية عربية تدمّر الداخل وتفيد كلَّ مشاريع الهيمنة الأجنبية والإقليمية.

الأرض الأميركية المكتشفة من بعض الأوروبيين تحولت بمرور الزمن إلى "أمّة أميركية"، بينما يحاولون جعل "الأمة العربية" مجرد أرض فقط تُنتهك وتُستباح.!

كانت رحلة سفر طويلة على أرضٍ أميركية، لكنّها كانت مناسبةً أيضاً لوقفة خواطر مع حال الأوطان العربية، تلك التي تبحث الآن في جنس هويتها بينما الأعداء يطرقون الأبواب وبعضهم بات في الداخل.!


مشاركة منتدى

  • تحية للكاتب النشيط،

    مقال فيه نقاط كثيرة جديرة بالاهتمام والتحليل منها غياب الإرادة السياسية المستقلة الذاتية لدى رؤساء الدول العربية وملوكها وسلاطينها. ومنها الانقسام والتشرذم الحاصلان على الدوام بين زعماء العرب وغياب الديمقراطية شبه الكامل. ومنها الأمية ولا أقصد هنا أمّيّة القراءة والكتابة فقط. ومنها مستوى التعليم والثقافة العلمية المعاصرة والمهنية والتفاني في أداء كل فرد مهمته في المجتمع. ومنها تغليب المصلحة الشخصية، العائلية، الطائفية الدينية على الصالح الوطني العام. والعرب، قرابة الأربعمائة مليون نسمة ليسوا من نسيج واحد ففي أحيان كثيرة لا يستطيع أهل المشرق فهم لهجة المغاربة ولا سيّما مراكش والجزائر مثلا. وأخيرًا وليس آخرا هنالك نقطة غائبة في غاية الأهمية وهي أن العربية المعيارية، الفصحى الحديثة (MSA) ليست لغة أمّ أي عربي، لغة أمّه هي لهجة معيّنة من ضمن كم هائل من اللهجات المدنية والقروية والفلاحية والبدوية في المشرق والمغرب العربيين.

    ب. حسيب شحادة

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى