محمد الماغوط لا يمتهن الفرح
خياته:
محمد أحمد عيسى الماغوط. من مواليد 1934م شاعر وأديب سوري من أبرز شعراء قصائد النثر والقصائد الحرة في الوطن العربي. ولد في بلدة سلمية (شرقي مدينة حماة - وسط سورية). عاش في سورية ولبنان ودولة الإمارات العربية المتحدة. تلقى تعليمه في سلمية وحماة حتى التحق بالمدرسة الثانوية الزراعية بسلمية وحصل على الإعدادية الزراعية قبل أن يتوقف عن التعليم. عمل محررًا بمجلة الشرطة الصادرة عن وزارة الداخلية السورية، كما عمل بالصحافة في عدد من المؤسسات الصحفية في لبنان والإمارات العربية المتحدة. الإنتاج الشعري: - له من الدواوين: «حزن في ضوء القمر» - دار مجلة شعر - بيروت 1959، و«غرفة بملايين الجدران» - دار مجلة شعر - بيروت 1960، و«الفرح ليس مهنتي» - منشورات اتحاد الكتاب العرب - دمشق 1970، و«سياف الزهور» - نصوص - دار المدى بدمشق 2001. شاعر مجدد، نجحت قصائده في تحريك مياه الشعر الراكدة، أحد رواد القصيدة الحديثة في الشعر العربي، اعتمد الشعر صيغة للتغيير. توفي في دمشق عام 2006م.
عندها مارست مهنة البحث عن الكتب التي صفت فوق رفوفها وقُسمت بشكل منظم، كنت أنقب عن شيء لا أعرفه وهو يعرفني، ومن كتاب لآخر، نازك الملائكة، أدونيس، إلخ...
وبعد بحث مضنٍ بين دهاليز المكتبة الوفيرة توقفت ملياً أصنف وأرتب، بل وأخطط لأقرأ ما أردته وربما أيضاً أرادني، وجدت مجموعة للشاعر والأديب محمد الماغوط وأعمالاً كثيرة له فامتدت يدي إليها، وقدمت ثمنها للبائع، وعلى الفور نزلتُ بضع درجات في دور أرضي، واتخذتُ أحد الأركان الشاحبة المنزوية، ذلك المقهى الباهت في المركز نفسه، وبدأت الإبحار مع حزن في ضوء القمر، والفرح ليس مهنتي، وغرفة بملايين الجدران.
محمد الماغوط حين قدمه أدونيس في بيروت في أحد اجتماعات مجلة (شعر) اكتظ المكان بالوافدين، وعندما قرأ بعض نتاجه الجديد، اعتقد المستمعون أن القصائد لرامبو أو بودلير.. ولكن أدونيس لم يترك الحيرة أكثر بل أعلن عن اسم شاب مجهول، أشعث الشعر، غير أنيق. وكانت المفاجأة للحضور وانقلب فضولهم إلى تمتمات خفيضة.
شعره:
هكذا هو الماغوط، في الشعر يمتطي حلمه ويغيب. ليس بمعنى التخلي الشعوري عن واقعه وإنما بمعنى الطموح الملح لخلق وجود بديل عنه. وجود آخر يهيم معه في سفره. غرفة الشعر لينة، واسعة، فضفاضة تنتقل كلما أشار إليها الشاعر.
أما الآن فلا مفر وهو داخل تلك الجدران المتسخة من مواجهة الواقع، تصف زوجته الشاعرة الراحلة سنية صالح محمد بهذه الكلمات (كنت أنقل له الطعام والزهور خفية. كنا نعتز بانتمائنا للحب والشعر كعالم بديل متعالٍ على ما يحيط بنا. كان يقرأ مدفوعاً برغبة جنونية. كنت أركض في البرد القارس والشمس المحرقة لأشبع له هذه الرغبة، فلا ألبث أن أرى أكثر الكتب أهمية وأغلاها ثمناً ممزقة أو مبعثرة فوق الأرض مبقعة بالقهوة حيث التقطها وأغسلها ثم أرصفها على حافة النافذة حتى تجف.
إن كانت مأساة الماغوط أنه ولد في غرفة مُسدلة الستائر تدعى الشرق الأوسط، فإن ذلك الخناق وسع عليه تلك الكوى ما بينه وبين قضبان النوافذ ليرى العالم ويستنشق بعض الحرية).
هذا الشاعر تأبط دفاتره الأنيقة وقصيدة النثر بشكل مبتكر وحرر الشعر من عبودية الشكل، ولعبت بدائيته دوراً مهماً في خلق هذا النوع.
"العصفور الأحدب" أنكرت كعمل مسرحي وسميت قصيدة في الحقيقة قائداً يسير خلفه جيش مهترئ منكوب.
الماغوط يبحث عن حماية منذ صغره. لكن كلما التجأ إلى ركن رآه خانقاً كالسجن أو واهياً كالورق.
لذا سكب أحماضه المأساوية على الفوضى البشرية، فبدأ الواحد يحمل في أعماقه وجودات لا حصر لها. وهذا دافع لأن يطرق ألواناً أخرى غير الشعر.
من أجواء (تبغ وشوارع)
حياتي حبرٌ ومغلفات وليل ونجوم
شبابي بارد كوحل
عتيق كالطفولة
طفولتي يا ليلى.. ألا تذكرينها
كنت مهرجاً
أبيع البطالة والتثاؤب أمام الدكاكين
ألعبُ الدحل
وآكل الخبز في الطريق
وكان أبي، لا يحبني كثيراً، يضربني على قفاي كالجارية ويشتمني في السوق
وبين المنازل المتسلخةِ كأيدي الفقراء
ككل طفولتي
ضائعاً .. ضائعاً
اشتهي منضدةً وسفينة.. لأستريح
لأبعثر قلبي طعاماً على الورق
في البساتين الموحلة.. كنت أنظمُ الشعر يا ليلى
وبعد الغروب
أهجر بيتي في عيون الصنوبر
يموت .. يشهق بالحبر
وأجلس وحيداً مع الليل والسعال الخافت داخل
الأكواخ
بهذه العبارات المشحونة بالعزل والألم والأنين يصفه أحمد الزين بحروف سقطت من جراب الزمن.
قائلاً: (هذا الشاعر البري, هذا المتسكّع, والشريد في بداياته, هذا الصعلوك النبيل أو الفطري الصادق، الفريد في نصه لكأنه يحمل في جسده السبعيني كل شقاء السنين، وصخب الأطفال، وفي عينيه كل الدموع، وكل الفرح وفي صوته الأجش الذي جعله التبغ أكثر جرشاً يحمل كل صراخ أطلقه الإنسان من جوع أو تعذيب أو ظلم، في غرفته، في عزلته يبقى مشحوناً برغبة الحياة يردد ساخراً)
حيثُ لا شيء يفصل جثثَ الموتى
عن أحذية المارة سوى الاسفلت.
أنا لا أحمل هويةً في جيبي ولا موعداً في ذاكرتي
أنا لم أجلس في مقهى
ولم أتسكعْ على رصيف
أنا طفل.
ها أنا أشحذ أسناني
ويهطل وحزنه في ضوء القمر:ـ
وداعاً أيتها الصفحات
أيتها الشبابيك الأرجوانية
انصبوا مشنقتي عالية عند الغروب
عندما يكون قلبي هادئاً كالحمامة
جميلاً كوردةٍ زرقاء على رابية
أودُّ أن أموت ملطخاً
وعيناي مليئتان بالدموع
لترتفعَ إلى الأعناق ولو مرة في العمر
فإنني مليء بالحروف، والعناوين الدامية
هكذا يروينا الماغوط من شعره الخصب ولازال قسماً كبيراً من أعمال أخرى مخبأ في الأدراج، "جاءت نتيجة انفجار بشري داخلي عنيف حدث في أواخر ذلك الشتاء" هكذا أخبرت زوجته سنية صالح.
ونودع بقصيدة أجواء الشتاء الضائع :ـ
بيتنا الذي كان يقطن على صفحة النهر
ومن سقفه المتداعي
يخطُرُ الأصيل والزنبقُ الأحمر
هجرتُه يا ليلى
وتركتُ طفولتي القصيرة
تذبل في الطرقات الخاوية
كسحابةٍ من الورد والغبار
غداً يتساقط الشتاء في قلبي
وأجهشُ ببكاء حزين على وسادتي.