
مراوغة الجدران لنسب أديب حسين
كتبت "نسب" (مراوغة الجدران) قصصا خمسا صدرت طبعتها الأولى عن دار الهدى/ كفر قرع سنة 2009م. وأهدتها إلى من علّمها التراكض بين الظل والنور، وكيف تكون إلى النور أقرب.
ولقد جاءت عناوين قصصها عناوين مثيرة، تدعو إلى التفكّر والتأمّل مثل: (مراوغة الجدران) وهل الجدران تروغ كما يروغ الثعلب؟! ومثل: (كلمات تتلعثم في الصمت)، فهل في الصمت تلعثم؟! فالمعروف أن المتكلم هو الذي يتلعثم في كلامه. ومثل: (عاصفة في شراع) فالعاصفة لم تهبّ على البحر ولا على السفن الماخرة عبابه، وإنما العاصفة عند "نسب" محصورة في شراع نكرة، قد يكون شراع قارب صيد صغير. وهكذا...
بدأت "نسب" كتابها بقصة (عاصفة في شراع)، وهي ظاهرة مجتمعية، كثيرا ما تحدث في مجتمعنا وفي كل مجتمع. فالقصة بطلها طفل تموت أمه ويتزوج أبوه من امرأة يشترط عليها أن ترعى طفليه؛ ولكنها كأغلب زوجات الآباء في هذه الأيام، المجردات من الرحمة والعطف والحنان، تقسو على الطفلين وعلى الأخص الكبير منهما. فيطلقها الأب ليتفرغ لرعاية طفليه، ولكنه يسجن، ويرسل الطفلان إلى مؤسسة لرعاية الأحداث، وهناك تحنو عليه إحدى المعلمات ويعتبرها أمّا له.
القصة تعالج مشكلة مجتمعية، وأهم ما فيها أنها تحاول بناء شخصية الطفل والاعتماد على النفس، وألا تحطمه الأحزان، بل عليه أن يجدّ ويكدّ، وأن يكون كبير النفس عالي الهمّة.
والقصة الثانية (أنين عند الشاطئ) هي قصة رجل أمضى شبابه مضحيا من أجل إخوته الصغار لموت أبيه، فلم يحملوا له جميلا ولا اعترافا بما قدمه من أجلهم، بل صاروا يخجلون منه وتنكروا له.
والقصة الثالثة (مرّ من هنا) قصة رجل يقضي حياته حارسا للمدرسة التي تعلم فيها، ولم يكمل دراسته، وعمل حارسا لها أكثر من أربعين عاما، حتى صار يشعر أنه كمّ مهمل، لا يلتفت إليه أحد، ولا يأبه به مسؤول. وتزداد السوداوية أمام ناظريه وهو يفكر في حاله فيقول في نفسه في صفحة 94 (هل هو كأحد الحجارة التي تشكّل السور؟ أم يشكّل جزءا من البوابة؟ هل يشبه الشجرة التي عند المدخل؟ لكن الطلاب سيذكرونها أكثر منه؛ لأنهم كثيرا ما جلسوا تحتها وتمتعوا بظلها، أما هو فماذا فعل؟!).
أما القصة التي حمل غلاف الكتاب عنوانها (مراوغة الجدران) فهي قصة الكتاب، بل هي الكتاب، ومن أجلها كان الكتاب. إنها قصة بطلها وائل الدرزي الذي يقع في حب نجوى الفتاة المسلمة في لندن، ويلازم حبها قلبه في كل الأمكنة التي رحل إليها. لكنهما لم يتمكنا من الزواج لاختلاف الدين. وتتزوج نجوى من أدهم، ويتزوج وائل من ابنة عمه، إلا أن أيّا منهما لم يستطع نسيان صاحبه.
ووائل هذا مسرحي منذ نعومة أظفاره ودرس المسرح في لندن وكتب مسرحية بعنوان التائه تشير إلى هجرة أمه من شمال فلسطين إلى لبنان واللوعة التي حملها في صدره لفراقها.
أما موضوع الجدر أو الجدران فهي الحدود الفاصلة بين يهود ولبنان حيث تقيم أمه، والحدود التي كانت تفصل يهود عن القدس من عام 1948 - 1967م، حيث تقيم محبوبته في واد الجوز في القدس التي كان يفصلها جدار كان يمتد من بوابة مندلبوم حتى باب العمود.
أما بالنسبة لنجوى محبوبته فيقول عنها: (إنه لا يستطيع أن يحارب الاحتلال والدين لأجلها). فليس سهلا عليه أن يتخلى عن الجنسية الإسرائيلية وأن يبدل بدينه الدرزي الإسلام؛ لأن جده كان قد أعلمه وهو صغير عن الدين الدرزي كثيرا من التفاصيل التي لا يعلمها عادة عند الدروز إلا العقلاء الذين تخطو الأربعين سنة من العمر. وكان يعلم أن الدرزي الذي يرتد عن دينه له العذاب الأقسى. وكانت آخر وصية لجده له قوله: (أرضك ما تتركها، أرضك عرضك).
علما أن الدروز فرقة من الشيعة الباطنية الذين ارتدوا عن الإسلام وهم في وقتنا هذا أبناء مرتدين. وقسم منهم يعيش بين المسلمين، ويدفنون موتاهم في مقابر المسلمين، ويعقدون عقود زواجهم في المحاكم الشرعية الإسلامية، ويعتبرون أنفسهم أنهم من المسلمين كالدروز الذين يعيشون في الأردن وعلى الأخص الذين يعيشون في العاصمة عمان وضواحيها. وهم جميعا يسمون أنفسهم بالموحدين.
والقصة الخامسة والأخيرة هي قصة (كلمات تتلعثم بالصمت). قصة فتاة مناضلة من الخط الأخضر يبخل عليها بلقاء؛ لأنه لا يستطيع تجاوز العيون الفارغة التي لا تمتلئ إلا ظنونا آثمة ولم يرها إلا بعد استشهادها في نعلين غربي رام الله، وهي تحاول إنقاذ امرأة مصابة، حيث ترسل لصديقها أوراقها في صندوق مع صديقتها وتقول: (هذه كلماتي المتلعثمة بالصمت أتركها لك تحصنها فأنقذها بشمعة لا برصاصة عود ثقاب).
هذه هي قصص "نسب" الخمس المجموعة في كتاب مراوغة الجدران، جاءت بلغة عربية فصيحة، وقلما تستعمل اللغة الدارجة إلا في بعض المواقف التي تستلزم ذلك على ألسنة رجال أو نساء طاعنين في السن، وتأتي الحكمة على ألسنتهم باللغة المحكية.
وقصصها كلها، في كل منها عقد لا عقدة واحدة، وهذا ما يشد القارئ إلى متابعتها حتى يتبين نهايتها.
والخيال في قصص "نسب" لا حدود له، وليس سهلا على كثير من القراء إدراك ما ترمي إليه قصص "نسب"، فهي عند الكثيرين أقرب ما تكون إلى الأحجيات أو الأجاجي. والحوار في قصصها حوار من طراز معين، يحتاج إلى تدقيق وإنعام نظر وإعمال ذهن زائدين عن الحدود المعروفة؛ حتى يستطيع القارئ أن يظفر منه بطائل.
بقي أن نشير إلى أن المكان في قصة (مراوغة الجدران) أخذ نصيبه من التفصيل لا سيما عند الحديث عن القدس حيث ذكرت شوارعها وحاراتها بتفصيل واضح وكأنها من أهلها الذين يعرفون كل دقائقها وخباياها.
وختاما إن كتاب (مراوغة الجدران) كتاب فيه إبداع سيما وأن كاتبته فتاة في أوائل العشرينات من العمر. فإلى المزيد من مثل هذا يا "نسب".