

مع الجواهري والمتنبِّي!
حدَّثَنا (ذو القُروح) في المساق السابق عن قصيدة منسوبة إلى (الجواهري)، تبدو مضطربة الوزن. عنوانها «حَبَبْتُ الناس»، مؤرَّخة في 12/ 11/ 1965، (بُراغ). يمضي فيها الشاعر هكذا:
حَبَبْتُ الناسَ والأجناسَ:
والدنيا التي يسمو على لذَّاتها الحبُّ للناسْ
حَبَبْتُ الناسَ والأجناسَ:
في الطِّفل الذي لا ينسُبُ الناسَ لأعراقٍ وأجناسْ
إلى أن يقول:
حَبَبْتُ الناسَ والأجناسَ:
في «الزنجيةِ» الحُلوةِ مَنْ لُفَّتْ وأهلوها بأكياسْ
حَبَبْتُ الناسَ والأجناسَ:
مَنْ شَبَّ، ومَنْ شابَ، ومَنْ أظلمَ كالفحمِ، ومَنْ أشرقَ كالماسْ
وهي في ديوان الشاعر(1)، بلا تعليق من جامعي ديوانه ومحقِّقيه والمشرفين على طبعه، وهم فريقٌ من أربعة أساتذة! نشروا النصَّ بتنسيقٍ يوحي بأنه موشَّحة أو شِبه موشَّحة. ويبدو أنَّ تقييد جامعي ديوانه للقوافي هو عِلَّةُ الخلل في الإيقاع. ذلك أنَّهم- كما يبدو- لاحظوا أنَّ القوافي لا تستقيم نحويًّا؛ فالشاعر واقع في الإقواء، بحيث يكسر قافيةً ويرفع أخرى، فقيَّدوا القوافي، تلافيًا لذلك العيب، واستراحوا. لكنهم بذلك أوقعوا النصَّ في عيوبٍ إيقاعيَّةٍ أشد. ولو أنهم أَمَرُّوا النصَّ بكسر الرَّوِيِّ، هكذا:
...التي يسمو على لذَّاتها الحبُّ [إلى الناسِ]
...الذي لا ينسُبُ الناسَ لأعراقٍ وأجناسِ
...من لُفَّتْ وأهلوها بأكياسِ
...ومن أظلمَ كالفحمِ ومن أشرقَ كالماسِ
لاستقامت تفعيلاته. غير أنهم سيواجهون (الإقواء). في قوله:
حببتُ الناسَ والأجناسَ:
في الخمرةِ تختالُ على أنخابهم إذ تُقرع الكاسُ
حببتُ الناسَ والأجناسَ:
مذ عُلِّمتُ أنَّ الناسَ أشباهٌ وأنَّ النبلَ مِقياسُ
ويمكن أن يكون صوابهما:
...على الأنخاب إذ تقرع بالكاسِ
...أنَّ الناسَ أشباهٌ ونُبْلَهُمُ كمِقياسِ
ومما يؤيِّد القول إنَّ الرويَّ مكسورٌ قول الشاعر:
حببتُ الناسَ والأجناسَ:
حُبَّ الأرضِ للفاسِ،
أو القفرة للآسِ،
أو الليل لنبراسِ
قلتُ لـ(ذي القُروح):
ـ معروف أنَّ (الجواهري) كان ارتجاليًّا في شِعره، شفاهيًّا، يعتمد على الإلقاء. ولذا كان من حقِّه على المحقِّقين التوثُّق من نصِّه، وتدقيقه.
ـ وإنْ كان يُقْوِي، فقد أقوَى قبله (امرؤ القيس) وغيره، على زَعْم من زَعَمَ من القدماء.(2) بيد أنَّ ما نرجِّحه أنَّ القوافي مكسورة أصلًا، إلَّا أنَّ أخطاء اعتورت أربعًا منها، ربما لأخطاء مطبعيَّة، وصوابها مجتمعة:
...التي يسمو على لذَّاتها الحبُّ إلى الناسِ
...من لُفَّتْ وأهلوها بأكياسِ
...على الأنخاب إذ تُقرع بالكاسِ
...أنَّ الناسَ أشباهٌ ونُبْلَهُمُ كمِقياسِ
ومهما يكن، فإنَّ النصَّ يظلُّ تجربةً ضعيفةً من شِعر التفعيلة، لا نعلم أنَّ (الجواهري) كرَّرها! وإنَّما الشاهد من هذا- مع نشر الشِّعر على عواهنه- إهمال بعض المحقِّقين، كما ينعتون أنفسهم، في الوفاء بما التزموا به من ضبطٍ وتحقيق. وإنْ اغتُفِر في النثر بعض ذلك أحيانًا، فإن الشِّعر لا يغتفره مطلقًا؛ لأنَّ تغيير حرفٍ أو حركةٍ في الشِّعر قمينٌ بارتكاب إساءةٍ إلى النصِّ والنَّاصِّ.
ـ دعك من هذا، وقل لي: لماذا انشغل شعراء المعارضة للشِّعر القديم- وعلى رأسهم (أحمد شوقي)- بمعارضة عُيون الشِّعر العَرَبي، ولم يجرؤ شاعرٌ كبيرٌ على إنشاء قصيدة معارضةٍ لقصيدة لـ(المتنبِّي)؟!
ـ أمَّا أنا فأرى أنَّ معظم الرائع من شِعر (المتنبِّي) في مقدِّمات قصائده، أمَّا ما بعد المقدِّمات فتقليديٌّ نَظْميٌّ غالبًا، مدحًا أو هجاءً أو رثاءً.
ـ أجل، لقد ظلَّ تقليد المقدِّمات الغَزَليَّة ساريًا في شِعرنا العَرَبيِّ القديم، حاملًا صِدق الشاعر العاطفي، حتى تكاد تكون تلك المقدِّمات هي الشِّعر في كثيرٍ من شِعرنا التراثي، بعيدًا عن المجاملات، والممالقات، التي تتبع تلك المقدِّمات.
ـ حتى لقد كان بعض الشعراء يُسرِف في إطالة تلك المقدِّمات إسرافًا فَجًّا بمعايير اللَّباقة الاجتماعيَّة أو السياسيَّة. من ذلك مثلًا أنَّ (جريرًا) قال قصيدةً من عشرة أبياتٍ في البيعة لـ(عبد العزيز بن الوليد بن مروان) بولاية العهد، جعل ثمانية أبياتٍ منها مقدِّمة في الحنين إلى الديار والأحبَّة وبيتين فقط في غرضه من القصيدة. وهي القصيدة ذات المطلع:
عَفَا نِهْيَا حَمَامَةَ فالجَوَاءُ ::: لِطُولِ تَبَايُنٍ جَرَتِ الظِّبَاءُ
كذا هي القصيدة في ديوانه.(3) ولئن أضافت بعض الروايات أبياتًا أخرى، فما يغيِّر ذلك من النتيجة، وهي أن المقدِّمة أطول وأشعَر. أمَّا (أبو الطَّيِّب المتنبِّي)، فقد كان يَصِل، بعد مقدِّماته الشِّعريَّة، من سُخف المديح ما لا يَصِل إليه عابدٌ خانعٌ مع ربِّه، بالرغم من ادِّعائه الكرامة والاعتزاز بالذات. ويبدو هذا التعالي لديه تظاهرًا نفسيًّا يُخفي نقيضه، أو قُل: إنه ضربٌ من التعويض نفسيًّا.
ـ مِثل ماذا؟
ـ كثير جِدًّا. لقد كان يتخانع مع ممدوحيه إلى درجة التقديس والتسبيح بحمدهم. وماذا بعد تأليهه لأحد ممدوحيه قائلًا:
وأَما وحَقِّـكَ وهْوَ غايَةُ مُقْسِمٍ ::: لَلحَـقُّ أَنتَ وما سِـواكَ الباطِلُ
الطِّيْبُ أَنتَ إِذا أَصابَكَ طِـيْبُـهُ ::: والماءُ أَنتَ إِذا اغتَسَلتَ الغاسِلُ
ما دارَ في الحَنَكِ اللِّسانُ وقَلَّبَتْ ::: قَلَمـًا بِأَحسَنَ مِن نَـثاكَ أَنامِـلُ
فاغتسلَ، كما ترى، بهذا الخِزي؛ ليجعل ممدوحه الحقَّ المطلَق، لا شريك له ولا نظير في جماله وكماله!
ـ أيقول عاقلٌ لإنسان، كائنًا من كان: «لَلحَقُّ أَنتَ وما سِواكَ الباطِلُ»؟!
ـ نعم، إذا كان كـ(أبي الطيِّب)، سيقول! ونماذج أبي الطيِّب من هذا القبيل بلا حدود، ليس أوَّلها تسوُّله فضْلة كأس (أبي المِسْك)- الذي نعتَه من بَعد بالعَبْد المثقوب مشفره، حينما لم ينل فضله- ولا آخِرها قوله: «لَلحَقُّ أَنتَ وما سِواكَ الباطِلُ»، أو وصفه ممدوحًا بأنه «خَيرُ الخَلْق مِن خَيرِ الخَلْق»! ومن الطرائف أنَّ (ابن جِنِّي)- الذي كان يصفه المتنبَّي بأنه أعلم بشِعره منه- شرحَ بيتًا شرحًا أثار سُخرية (ابن معقل)، من الشارح ومن الشاعر معًا، واصفًا إيَّاه بالرقاعة! ذلك أنَّ أبا الطيِّب قال:
أَلُوْمُ بِهِ مَنْ لامَني في وِدادِهِ ::: وحُقَّ لِخَيْرِ الخَلْقِ مِن خَيْرِهِ الوُدُّ
فجاء (ابن جِنِّي) شارحًا: «أي: هو خَير الخَلْق وأنا كذلك! وحقيقٌ أهل الخَير أنْ يودَّ بعضهم بعضًا، فحقيق عليَّ، إذن، أن أودَّه!» فردَّ كلامَه (ابنُ معقل) قائلًا: «أقول: إنَّه يحتمل أن يكون «من خَيره» راجعًا إلى آباء الممدوح، كأنَّه قال: هو خَير الخَلْق من خَير الخَلْق، وهذا الأقرب والأشبه بغرضه؛ لأنَّ وصفه نفسه بأنَّه خَير الناس من أقصى الرَّقاعة، وأقبح الشَّناعة!»(4) وأقول: إنَّه على طرافة شرح ابن جِنِّي- ولا يَبعد أن يكون ما ذكرَ هو مقصود الشاعر بالفعل، ولعلَّ ابن جِنِّي أعلم بمقاصد المتنبِّي من غيره- فإنَّ معناه حسب شرح ابن معقل لا يخلو من الشناعة أيضًا! هذا، وكثيرًا ما يخطِّئ ابنُ معقل ابنَ جنِّي ويبدو هو الخاطئ.
[وللحديث بقية].
(1) (1975)، جمعَه وحققَه وأشرفَ على طبعه: إبراهيم السامرائي ومهدي المخزومي وعلي جواد الطاهر ورشيد بكتاش، (العراق: وزارة الإعلام)، 5: 243- 244.
(2) نحن نرى أن ما سُمِّي (إقواءً) في الشِّعر القديم وَهْمٌ؛ إذ لم يكن عن عيبٍ في التقفية، بل عن لغةٍ كانت تستجيز إعرابًا يخالف ما قعَّدة النحويُّون، وفرضوه نحوًا زعموا أنه كان للُغة العَرَب كلِّها. وقد تطرَّقنا إلى ذلك في مقارباتٍ سابقة.
(3) يُنظَر: (1986)، ديوان جرير، شرح: محمَّد بن حبيب، تحقيق: نعمان محمَّد أمين طه، (القاهرة: دار المعارف)، 667- 668.
(4) ابن معقل، (2003)، المآخِذ على شُرَّاح ديوان أبي الطيِّب المتنبي، تحقيق: عبدالعزيز بن ناصر المانع، (الرياض: مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلاميَّة)، 1: 76- 77.