الثلاثاء ٢٧ أيار (مايو) ٢٠٢٥
بقلم عبد الله بن أحمد الفيفي

تلوُّن المعاني في شِعر «المتنبِّي»!

زعم (ذو القُروح) في مساقه السابق أنَّه كان للمناكفة بين شرَّاح شِعر (أبي الطَّيِّب المتنبِّي) دَورها في اختلافهم في شرح شِعره؛ وذلك للمغالبة، وإظهار التفوُّق، وأنَّ الشارح الآخَر لا يُقبَل منه في شرح البيت صَرْفٌ ولا عَدْل، كما يقال. فسألته:

ـ ماذا تقصد بالصَّرْف والعَدْل؟

ـ لقد أكثر اللُّغويُّون في تفسير هذا التعبير العَرَبي()، مع أنَّ معناه يبدو مجازًا واضحًا؛ يشير إلى عدم قبول أيِّ مقابل، لا صَرْفًا ماليًّا للقِيمة، ولا عَدْلًا مِثْليًّا عينيًّا، على سبيل المقايضة. وكثيرًا ما يُعقِّد هؤلاء الأعاجم المسائل الواضحات حتى تستحيل إلى مستغلقات، وكأنها بلغةٍ غير العَرَبيَّة.

ـ لكن ما شأن العَرَب بالصَّرْف بمعناه المالي؟

ـ ما أكثر ما نبالغ في تصوُّر تخلُّف العَرَب قبل الإسلام وعُزلتهم عن شؤون الحضارة! على أنَّ من شواهد النُّحاة، قول الشاعر:

تَنْفِي يداها الحَصَى في كُلِّ هاجرةٍ
نَفْيَ الدَّراهيمِ تنقادُ الصياريفِ

وقال (أَوس بن حَجَر):

وما عَدَلَتْ نَفْسِي بِنَفْسِكَ سَيِّدًا
سَمِعْتُ بِهِ بَيْنَ الدَّرَاهِمِ والأَدَمْ

قيل معناه: بين (العِراق) و(اليَمَن)؛ لأنَّ مبايعاتهم في العِراق بالدَّراهم، وفي اليَمَن بالمقايضة. وقال (أُحَيحَة بن الجُلاح):

فما هِبْرِزِيٌّ مِن دَنانيرِ أَيْلَةٍ
بِأَيْـدِي الوُشاةِ ناصِعٌ يَتَأَكَّلُ

ـ أخرجتنا عن الموضوع قبل أن ندخل فيه!

ـ لا تسأل كي لا نخرج! كنتُ أقول: إنَّ (المتنبِّي) ما ينفكُّ يتلاعب بممدوحيه وشُرَّاح شِعره معًا. ومن ذٰلك ما تقِف عليه في قصيدته يهنِّئ، ظاهرًا، (كافورًا الإخشيدي)، مستهِلًّا بقوله:

إِنَّما التَّهنِئاتُ لِلأَكفاءِ
ولِـمَنْ يَدَّني مِنَ البُعَداءِ

فيصافح كافورًا بهذا المطلع الهجائي، قائلًا: إنه ليس بكُفء للتهنئة أصلًا؛ فإنَّما التهنئات للأكفاء! ومع ذلك، مكثَ بعض الشُّرَّاح هنا ليخرِّجوا هذا البيت، زاعمين أنه إنَّما قصدَ نفسه، وأنَّه ليس بكُفءٍ لكافور ليهنِّئه. على الرغم من قوله: «التَّهنِئاتُ لِلأكفاء»، وليس «من الأكفاء». ثمَّ أعقب هذا بأبياتٍ فيها بعض التمويه. عاودَ بعدها الكرَّة في هجاءٍ صريح:

وبِمِسْكٍ يُكْنَى بِهِ لَيسَ بِالمِسـْ
ـكِ ولَكِنَّـهُ أَريجُ الثَّـناءِ

فكُنية كافور بأبي المِسْك لا جدوى منها، لأنه لا مِسْك له، وإنَّما ثناء الشاعر هو الجدير بأن يكون مِسْكًا لمن لا مِسْك له. مُتْبِعًا ذلك بأبياتٍ تبدو صريحةً في سخريته وتهكُّمه:

تَفضحُ الشَّمسَ كُلَّما ذَرَّتِ الشَّمـ
ــسُ بِشَمْسٍ مُـنـيرَةٍ سَـوداءِ
مَن لِبِيْضِ المُـلوكِ أَن تُـبْدِلَ اللَـو
نَ بِلَـونِ الأُسـتاذِ وَالسَّحـناءِ
يـا رَجـاءَ العُـيونِ في كُـلِّ أَرضٍ
لَـم يَكُن غَيرَ أَن أَراكَ رَجائي!

هكذا كان صنيع (أبي الطَّيِّب). ولا عجب، وإنَّما العجب من صنيع الشُّرَّاح؛ لما يفتعلونه من معانٍ من تلقاء أنفسهم، وإنْ ابتعدت عن منطوق الخِطاب الشِّعري.

ـ أهذا كلُّ ما هنالك؟

ـ لا، بل هناك بعض الضَّلالات الدلاليَّة، البيئيَّة بصفةٍ خاصَّة.

ـ مثل ماذا؟

ـ انظر مثلًا إلى ما كان يورده (ابن المستوفي) من معلومات، كغيره من القدماء، تحتاج إلى تدقيق عِلمي. من هذا ما ورد في شرح بيت (المتنبِّي):

يَتَلَوَّنُ الخِرِّيتُ مِن خَوفِ التَّوَى
فـيـها كَـمـا يَـتَـلَـوَّنُ الحِـرْبـاءُ

قالوا في شروحهم: «الخِرِّيت: الدَّليل. والتَّوَى: الهلاك. والحِرباء: دُويبة تستقبل الشمس فتدور معها حيث دارت، وهو ذكَر أُمِّ حُبَيْن، أكبر من العضاة [كذا! والصواب: العظاية] شيئًا.»(2) هكذا قالوا.

ـ (ابن المستوفي) أم (ابن المستوفى)؟ بالياء أم بالألف المقصورة؟

ـ (ابن المستوفي) بالياء المنقوطة، لا بالألف المقصورة، كما يُكتَب عادةً في الطبعات المِصْريَّة: (ابن المستوفى)، دأبَ المطابع المِصْريَّة التي لا تنقط الياء كسائر العَرَب. وهذا ما جعل الإذاعيَّ المِصْريَّ المعروف بإذاعة الرياض (عبدالملك عبدالرحيم، رحمه الله) في تسجيله الصوتي لـ«ديوان أبي تمَّام» بشرح (الخطيب التبريزي)- على موقع «يوتيوب»، ولعلَّ ذلك التسجيل كان لـ(مكتبة الرياض الناطقة)- يُرَدِّد اسمه على أنه (ابن المستوفَى)!

ـ ولولا شهرة الشاعر والشارح لربما قرأ العنوان أيضًا هكذا: «ديوان أبَى تمَّام بشرح الخطيب التبريزَى»! وهو معذور- قراءةً حرفيَّةً- لأنَّ الياءات مطبوعة أمامه ألفات؛ بهذا الرسم بلا إعجام! لكن عُد بنا إلى ما كنَّا فيه!

ـ ليسمح لنا (ابن المستوفي) ورفقاؤه من شُرَّاح شِعر (المتنبِّي) بالمداخلة، لا مناكفة هاهنا، كما انتقدنا ذلك لدَى بعضهم أحيانًا، ولكن لاستدراكٍ في ما ورد في شرح البيت. ذلك أنَّنا نعرف في بيئاتنا الريفيَّة ما أشار إليه الشاعر في البيت. وقد كان التأمُّل في أحوال البيئة ومخلوقاتها شُغل الأطفال الشاغل قديمًا، يعرفون عنها كما يعرف الأطفال اليوم عن الألعاب الإلكترونيَّة. ولذا يبدو أنَّ وصف الشُّراح فيه ما فيه.

ـ ماذا فيه؟

ـ أوَّلًا، التصور العامُّ أنَّ الحِرباء- الذي يُعرف عِلميًّا باسم Chamaeleo Calyptratus- يتلوَّن بحسب المحيط الذي يكون فيه؛ فإنْ كان على غُصنٍ أخضر صار لونه أخضر، وإنْ أصبح على جذع شجرة ذي لون بُنِّي، استحال إلى لون بُنِّي، وهكذا، هو تصوُّر من الناحية العلميَّة غير دقيق، فتلوُّنه غير خاضع للون البيئة المحيطة، بل لعوامل فيسيولجيَّة خاصَّة به. وقد أشار المتنبِّي مع التلوُّن إلى «خَوف التَّوَى». وهو ما لم يلحظه الشُّرَّاح. ذلك أنَّ الناس- كما في (جبال فَيْفاء)- يضربون بالحِرباء المثَل في الخوف والتوجُّس؛ لطريقته في الحركة، حين يمدُّ رِجله الأمامية مرارًا قبل أن يُمسِك بغُصن من فروع النَّبت أو الشَّجَر، وهكذا في خطواته التالية. وربما زعموا أنَّه إنَّما يفعل ذلك خوفًا من أن يخسف الله به الأرض، وذلك هو سبب تردُّده وبُطئه في السَّير، إلَّا أنَّنا لم نحفظ عنهم قِصَّة محتملة حول ذلك. والعَرَب تضرب بالحِرباء المَثَل في الرَّجُل الحازم؛ قالوا: لأَنَّ الحِرْبَاء لا تُفارق رجله الغُصْنَ الأوَّلَ حتى تَثْبُتَ على الغُصْن الآخَر، من نحو ما وصفنا أعلاه. وقد وصف (ابن ظَفَر الصِّقِلِّي، ـ565هـ)(3) الحِرْباء- خلال سرده حكاية (عبدالملك بن مروان) مع وزرائه، إذ تمرَّد عليه (عمرو بن سعيد العاص)، في غضون الحملة على (عبدالله بن الزُّبير)- فقال أحد الوزراء: «وددتُ والله أني كنت حِرباء على عودٍ من أعواد تهامة، حتى تنقضي هذه الفِتَن.» ولا يبدو في تمنِّي القائل: «وددتُ أني كنتُ حِرْباء على عُود...»، إلَّا لما أشرنا إليه من تصوُّرٍ شَعبيِّ أنَّ الحِرباء إنَّما يتوخَّى الحذَر، ولا يُُقْدِم على خطوة حتى يحسب حسابها في أناةٍ وتردُّد! غير أنَّ الصِّقِلِّيَّ بدَوره يشير إلى وصف الحرباء المتوارث، كما وقع في مثل ما وقع فيه شراح بيت أبي الطَّيب، من الزعم أنه يدور مع الشمس. ولعلَّ هذا يتعلَّق بنوع من الحرابي؛ ذلك أننا لا نعرف عن هذه الدُّوَيبة أنها تدور مع الشمس حيث دارت، كما زعموا، وإنَّما هذا معروف في بعض النباتات، كذلك النبات الذي يُسمى (عبَّاد الشمس)، أو (دوَّار الشمس). على أنَّ من أسماء الحِرباء في بعض بيئات (الخليج العَرَبي): محارب الشمس. وقد يكون ما وصفوا ملحوظًا في حرابي الصحراء خاصَّة.

[وللحديث بقية].

() يُنظر مثلًا: الزَّبيدي، تاج العروس، (صرف).
(2) (1989)، النِّظام في شرح شِعر المتنبِّي وأبي تمَّام، دراسة وتحقيق: خلف رشيد نعمان، (بغداد: وزارة الثقافة والإعلام)، 1: 399.
(3) (1999)، السُّلوانيَّات: سُلوان المطاع في عدوان الأتباع، تحقيق: أيمن عبدالجبَّار البحيري، (القاهرة: الآفاق العَرَبيَّة)، 29.
ويُلحظ أنَّ المحقِّق ذكر في ترجمة (الصِّقلِّي) أنَّ اسمه «عبدالله بن محمَّد»، (تُنظَر: ص9)، مخالفًا ما ورد على الغلاف، من أنه: «أبو عبدالله محمَّد»! والصواب أنه: كما جاء في المخطوط، (تُنظَر: ص10): محمَّد بن أبي محمَّد بن ظفر. وإنَّما قال المؤلِّف: «قال الفقير إلى الله الغني به محمَّد بن أبي محمَّد بن ظفر المَكِّي...»، فسمَّاه المحقِّق: «عبدالله بن محمَّد...»! وهو: «أبو عبدالله محمَّد بن أبي محمَّد عبدالله بن محمَّد بن ظَفَر الصِّقلِّي.» وكذا ذكر محقِّق كتابه أنَّ وفاته «570هـ»، وعلى الغلاف كتب تاريخ الوفاة «568هـ»! والأرجح ما ذكرناها. (وتُنظَر ترجمته في: جمهرة أشعار الصِّقليِّين: تحقيق ودراسة، أسامة اختيار، (بيروت: دار المقتبس، 2016)، 198- 209).


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى