الاثنين ٢٧ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠٠٦
بقلم كريم الوائلي

مفهوم الجمال بين آرثر شوبنهور وعباس محمود العقاد

يطلع العقاد على آراء الفيلسوف المتشائم آرثر شوبنهور ويتابعه في "تفضيله الرسم على الصورة، لأن الأخير يمثل الشيء كما تراه العيون، بينما يظهر الأول السمات الداخلية كما يشعر بها الفنان الماهر والذي يغفل القضية المحسوسة ويتوغل إلى معانيها المجردة".

ويتوقف عباس محمود العقاد عند موقف شوبنهور من الجمال الفني الذي تتركز مهمته في فصل الشكل «القالب» عن المادة لا أن يحكي لنا الشكل والمادة معا حكاية صحيحة محكمة، لأن الفن موكل بالصور الباقية والنماذج الخالدة لا بالكائنات التي توجد في الحياة مرة واحدة، ثم تمضي لطيتها غير مكررة ولا مردودة، فإذا أراد المصور أن يمثل إنسانا لفت نظره فليس الذي يعنيه من ذلك الإنسان أنه فرد من أفراد نوعه مستقل بمادته وشكله وعمره، ولكن الذي يعنيه أنه "قالب” يصلح أن يكون نموذجا عاما لأفراد كثيرين أو للنوع كله” وهذا يعني أن الجمال عند شوبنهور إنما يمثل فكرة سابقة على الوجود المادي، ويعني لديه مفهوما كليا يشمل الجنس ولا يعنى بالجزئي والفردي، ويضرب شوبنهور بتماثيل الشمع مثالا على ذلك. لأنها “تنقل لنا الشكل والمادة معا، ومن ثم توهمنا أن الشيء المحكي ذاته ماثل أمام أعيننا، فتختلف بذلك عن أعمال الفن الصادقة التي تبعد بنا عن الشيء الذي يوجد مرة واحدة، ثم لا يعود إلى الوجود أبدا، أعني الفرد، وتقترب بنا إلى الشيء الذي يوجد بلا انقطاع في الزمن الباقي الذي لا نهاية له وفي العدد المطلق الذي لا حصر له وهو “الشكل” أو فكرته».

وهذا يعني أن الجمال عند شوبنهور يمثل فكرة مجردة وشكلا كليا عن الجزئي والفردي، وإن الذات الإنسانية تتحسس هذا المعنى وتتأمله وتتذوقه، ويتفق العقاد مع شوبنهور في أن هناك فرقا جوهريا بين الصورة الفوتوغرافية واللوحة التي يرسمها الفنان لأن الأولى تنقل صورة الشيء دون أن يكون للفنان أدنى تأثير فيها، في حين تمر الثانية من خلال ذات المبدع، أي أن الصورة الفوتوغرافية "تنقل لنا الشيء الحقيقي كما يبدو في نفس عبقرية واعية تنظر إلى معاني الأشكال المجردة لا إلى مادتها المحسوسة" وعلى الرغم من هذا الاتفاق فإنَّ العقاد يرى أن الجمال حرية وليس “فكرة بعيدة عن عالم الإرادة” والذي يرجح ذلك في تصور العقاد "أن الجمال يتفاوت في نفوسنا ويتفاضل في مقاييس أفكارنا، ولو كان المعول على إدراك "الفكرة" وحدها في تقدير الجمال لوجب أن تكون الأشياء كلها جميلة على حد سواء".

ويؤكد عباس محمود العقاد “معنوية” الجمال لا ”شكليته” لان الأشكال بذاتها لا قيمة لها، إن لم تكن تعبر عن المعاني التي تختفي وراءها، ولذلك يقول “إن الأشكال لا تعجبنا وتجمل في نفوسنا إلا لمعنى تحركه أو لمعنى توحي به، لا فرق في ذلك بين أشكال الوجوه الآدمية والأعضاء الحية وبين مادون ذلك من الصور التي تخفى فيها معاني الحسن أو تبعد الشقة بينها وبين ما تومئ إليه” وهذه الفكرة لا تعدو أن تكون تعديلا لمقولات التراثيين العرب الذين يجعلون المعنى متقدما على اللفظ، وان اللفظ وعاء يحمل المعنى غير أن العقاد يحاول تجلية تصوره من خلال معطيين أحدهما: وظيفة الشيء، وثانيهما : معناه، وهو يرى أن الوظيفة في الحياة تسبق العض والذي يمثلها، والجسم الإنساني نفسه لا يسعك أن تتصوره إلا معبرا عن فكرة أو وظيفة مجردة، ولا قيمة للأعضاء في ذاتها بغير الفكرة التي تعبر عنها والوظيفة التي تؤديها، “فلا فرق في الشكل بين بروز الحدبة على ظهر الأحدب وبروز النهد على صدر الكعاب ! ولكن الحدبة معيبة والنهد مستجمل مرغوب، وما ذاك إلا لاختلاف المعنـى بينهما لا لاختلاف الشكل والصورة ولتباين الوظيفة التي يمثلها كلاهما لا لتباين الحجم والبروز".

ويحدد المعنى طبيعة الشكل وخصائصه لأن الشكل الجميل “أداة المعنى إلى الظهور... وأحسن الأشكال وأوفقها هو الشكل الذي تتخطاه إلى دلالته” وإذا كان المعنى يحدد ماهية الشكل ومن ثم تحديد خصائصه الجمالية، فإنَّ المعاني هي التي تحدد الفن وليس الأشكال الملموسة. إن عالم الفن والآداب إنما هو عالم المعاني المجردة، وليس عالم الأشكال المحسوسة، كما أن المعاني وكيفية توظيفها هي التي تحدد إمكانية الإبداع لدى الفنان، فالفنان المبدع قادر بفضل خصائص فطرية “اختيار أشكال تبرز المعاني وتخلو من العيوب التي تحجبها عن الخواطر، أو هو ذلك الإنسان الملهم الذي يوفق لاختيار الأشكال التي تنسينا الأشكال وتؤدي عملها، وما عملها إلا أن تساعد المعنى على الظهور، لا أن تشغل الناظرين بالظواهر عما وراءها من المعاني والدلالات، وبهذا لا يكون للتناسب والتناسق أثر في تحديد ماهية الجمال في الأجسام والفنون، وإنما يرجع جوهر الجمال إلى حرية الوظيفة وحركة الحياة في الجسم والفن، ويؤكد العقاد أن صفة الجمال قرينة الحرية، ولا يعني هذا أن الحرية لا قيود تحدها، لأننا سنكون إزاء الفوضى، ولذلك فإنَّ سر الجمال في الحياة والفنون محدد بالحرية التي “تظهر بين قيود الضرورات” بمعنى “إنه ليس صحيحاً أن الجمال تناسق، ففي الجسم الإنساني يخضع التناسق لوظيفة الحياة. وهذا هو السبب في أن العضو الجميل هو الذي يلبي متطلبات الحياة، وبذلك يؤكد حرية التوظيف” إن العقاد قد ركز مناقشته هنا على أصل طبيعة الجمال في الحياة والفن وهو “يبدو قد طور نظرية جمال فريدة تتأسس على قواعد رومانسية متنوعة وتتأسس على بديهيات مستعارة من العلوم الطبيعية".

وفي ضوء هذا يرفض العقاد تصور شوبنهور الذي يجعل الجمال منحصرا في الفكرة ويستبدل عبارته “الجمال هو الفكرة” بعبارة "الجمال هو الحرية”، ويؤكد العقاد أننا نستمتع في أثناء النظر إلى الموضوع الذي يظهر الحرية، ونحزن لمظاهر الخضوع تلك، إن حرية الاختيار هي التي تجعل النوع الإنساني أرقى من الحيوان، والحيوان أرقى من النبات، والنبات أرقى من الجماد، وفي الفن فالمحاكاة أمر قبيح مثير للاشمئزاز لأنه نوع من الرق “العبودية”، ويعتقد العقاد أنّ جوهر الجمال في الأدب والحياة متطابق تقريبا، وفي كلتا القضيتين ان الحرية مقوم جوهري لكن الحرية ينبغي ألا تعتبر وكأنها غياب الموانع والقواعد. انه لا حرية بدون إعاقات، كما يوضح ذلك العقاد. إن الفنان ينبغي ألا يهمل القيود الإجبارية بل يتغلب عليها وأنْ يستخدمها كنوع من الزخرفة الفنية، إن الجمال هو انتصار الحرية على القيود.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى