ميسلون ويوسف العظمة في الشعر العربي
خاضت سوريا معركة الرفض وتأهّبَتْ لحماية شرف استقلالها الوليد الذي راح يهدِّده إنذار غورو… وشعَّ في الأفق موقف الشهيد يوسف العظمة. هذا الموقف الرافض بإباء وعزّة لشروط غورو والاستسلام له. فكان أمام يوسف العظمة طريق المواجهة وهذا ما كان في روابي ميسلون قرب دمشق. وكان له شرف الاستشهاد مع رفاقه الأباة. وما استشهاده إلاّ ثمرةٌ غُرِسَتْ في نفسِ كلِّ أبيٍّ فكانت بذرةَ الجلاءِ فراحَتْ تنموفي النفوس وتُثْمِرُ في المواجهات وتجنى في الجلاء.
من هنا بدأت رحلة الجلاء المسطّرة بالدم والفداء والرفض فلم يعرف المحتل البغيض طعم النوم ومذاق الهناء في بقعة من الوطن العربي حتى نالت استقلالها في القرن العشرين. هذا الجلاء وراءه رجالٌ ومجاهدون أحرار وحَّدوا النضال الوطني في كلِّ الوطن والأقاليم بعيداً عن كلِّ حساسيّة، ولذلك انخرطَتْ الجماهير بعفويتها وإيمانها للذود عن حياض الوطن.
وكانت معركة ميسلون واستشهاد المجاهد يوسف العظمة المحرِّك المدوِّى لنفوس الشعراء فألهَبَ قرائحهم والَّبهم على أعدائهم. فانخرطوا في صفوف النضال واعين رسالتهم.
وحفل الشعر في ذكر ميسلون ويوسف العظمة. واستلهم الشعراء الكثيرَ من المعاني النبيلة. فهناك قصائد وأبيات خلّدت ميسلون وشهيدها وفيها الكثير من الصدق والعفوية فالشاعر سليم الزركلي نظّم نشيداً خاصاً لطلاب مكتب عنبر وقد لحَّنَهُ الموسيقي المرحوم فائز الأسطواني وجاء فيه:
يا روابي ميسلونغالها الدهرُ الخؤونيا أزاهير الجنانوتنادوا للطعانلزعيم الشهداءبالتآخي والولاءججج-----------------يا روابي ميسلونبالضحايا ذكِّرينايا رياحين البلادجرِّدوا سيف الجهادجدَّدوا العهد الأميناوانصروا الحقَّ المبينا
هذه المقاطع من النشيد تقترب من نفوس الفتيان، فتشحذ هممهم. وفي معركة ميسلون قيل الكثير وبقيت مرسومة بصفاء في نفوس الشعراء الذين عايشوها عن قرب. فالشاعر خير الدين الزركلي يذكر ذاك اليوم البغيض الذي حلَّ على الشعب الغاضب الثائر:
بردى يغيض وقاسيون يميدُلا الزجرُ يدفعها ولا التنديدُقدم استقام له به تجديدُشُذَّاذُ آفاقٍ شراذم سودُ!الله للحدثان كيف تكيدتفد الخطوبُ على الشعوب مغيرةٌبَلَدٌ تبوَّأه الشقاء فكلَّمالهفي على وطنٍ يجوسُ خلاله
وأشاد الشاعر خليل مردم بك ببطولات معركة ميسلون الباسلة وأبدى حزنه لما آل إليه أمرها:
بدموعها حزناً على ماضيكِمن كلِّ غصن نادبٍ يرثيكعانيهما ما كان بالمفكوكإنّي أرى (بردى ) تفيض عيونهوأرى هضابك كالقبور، عذابهافي ميسلون أسى يطول وحسرةٌ
وللشاعر خليل مردم بك أكثر من قصيدة يحيي فيها ذكرى ميسلون فيقول في إحداها مخاطباً الشهيد يوسف العظمة:
فَهَلْ من مخبر عن منتهاهاليهنك كنت أوَّل من بداهاأخفُّ وقيعةً ممَّا تلاهاتمثِّلُ ميسلونَ وما دهاهاعرفْنا يومَ يوسفَ مبتداهاأيوسف والضحايا اليوم كثرٌمصيبة ميسلونٍ إن أَمَضَّتْفما من بقعة بدمشق إلاّ
ومن الطبيعي أن تكون ميسلون مبعث اعتزاز وموقع ثقة لدى الشعراء فالشاعر بدر الدين الحامد يتغنَّى بصمود يوسف واستشهاده ويندِّد بوعود الغرب الكاذبة:
عن يقينٍ الى الحياة سبيلاوكفانا به شهيداً نبيلانحن أقوى يداً، وأسمى عقولاوَعْدَ صدقٍ كالصبحِ معنى وكيلانحنُ قومٌ من الممات اتَّخَذْنا"يوسفٌ " خرَّ في الشآم صريعاًأخذونا بالانتداب وقالوا:سنريكم دنيا الحضارة تزهو
وتوقَّف الشاعر عمر أبوريشة عند ميسلون وهوفي نشوة الفرح بالجلاء واعتبرها حَجَرَ أساسٍ في نهوض أمَّتنا وثباتها رغم عاتيات الزمان. واعتبرها معارك أمّة خاضتها عبر تاريخها، وناضَلَتْ بشرف لنيل مبتغاها:
عن جناحيها غبار التعبِوكبَتْ أجيادُنا في ملعبِلنضالٍ عاثرٍ مصطخبِغُلِبَ الواثبُ أم لم يُغْلَبِكم لنا من ميسلون نفضتكم نبتْ أسيافُنا في ملعبٍمن نضال عاثرٍ مصطخبٍشرفُ الوثبة أن ترضي العُلى
فمعركة ميسلون وما جرى فيها كانَتْ مجالاً رحباً وأفقاً واسعاً للشعراء منها ينهلون، ويسكبون فيها بنات أفكارهم وآرائهم فالشاعر عبد الله يوركي حلاّق تغنّى من خلالها بالوحدة والتراث وجسّد معاني الانتماء:
يا للغرابة كيف يغفوالكوكبُوقلوبنا حيُّ البسالةِ طيِّبُنَغَمٌ على شفةِ الإباءِ ومُطْرِبُفي ميسلونَ ينامُ كوكبُ يعربٍما مات يوسفُ فهوَ في تاريخناالخلدُ يعرفُهُ ويعرف أنَّهُ
والباحث في طيِّ الدوريات والدواوين يجدُ عقداً ثميناً من القصائد والأبيات التي توقفت عند هذا الحدث الجليل فالشاعر فارس قويدر يهدي قصيدته ( قبس من ميسلون ) الى الشهيد يوسف العظمة وذلك في مجلة الجندي العربي:
غوروهناك، ومشعلي في انتفاضتِهِ
فأرجفَ البغيُ مذعوراً لصرختهم:
أيعبرونَ وقتلانا جدارُ دمٍنهرٌ من النارِ، لم تسمعْ به النارُ"يفديك يا وطن الأحرارِ" أحرارُونحنُ في زحمةِ الأقدارِ.. أقدارُ
ولكنَّ اللافتَ والرائع أن ميسلون وشهيدها لا مَسَتْ وجدان الشعراء العرب في الأقطار العربية والمهجر. وهذا معهودٌ لدى شعراء العربية فالإحساسُ القومي نابضٌ وحارٌّ. فالآلام توحِّدُ مشاعرهم والآمالُ تشدُّ من أزرهم. فمن مصرَ ارتفع صوت أمير الشعراء أحمد شوقي:
سأذكر ما حييتُ جدارَ قبرٍمقيمٌ ما أقامَتْ ميسلونٌترى نورَ العقيدةِ في ثراهُمشى ومَشَتْ فيالق من فرنساسلوهُ: هل ترجَّلَ في هبوبٍبظاهرِ جلَّقٍ ركبَ الرِّمالايذكِّرُ مصرعَ الأسدِ الشِّبالاوتنشقُ مِنْ جوانبهِ الخلالاتجرُّ مطارفَ الظفر اختيالامن النيرانِ أَرْجَلَتِ الجبالا
في القصيدة يعلووجدان الشعر وتبرز الصور الفنيَّة الموحية، وتغنّى الشاعر المصري على محمود طه بميسلون ففي ديوانه قصيدة " شهيد ميسلون " والشاعر معروف بروحِهِ الثورية الواثبة وهوصاحب القصيدة الرائعة ومطلعها:
أخي جاوز الظالمون المدى
فحقُّ الجهادِ وحقَّ الفِدا
يقول الشاعر في شهيد ميسلون:
في موكب الفادين مجد أميّةلوقستَهم بعدوِّهم وسلاحِهِيا ميسلونُ شهدْتِ أيَّ روايةٍووقفْتِ مُثْخنةَ الجراحِ بحومةٍيا يوسفُ العظماتُ غرسُكَ لم يضعْبجوانحٍ مشبوبةٍ وجوارحِأيقنْتَ أنَّهموفريسةُ جارحِدمويَّةٍ، ورأيتِ أيَّ مذابحِماجَتْ بباغٍ في دمائكِ سابحِوجناهُ أخلَدُ من نتاج قرائحِ
هذه القصائد تبرز عمق الارتباط القومي ومتانته. هذا الارتباط الوثيق الذي عبَّر عنه الشعراء بمشاعرهم الفيَّاضة الصادقة. وهذا ليس بغريب عن أدباء العربية المنتمين الى أرومتهم انتماء صافياً كصفاء نفوسهم. فالرصافي يهزأ من غوروويخاطبه غاضباً من إنذاره وتصرفاته الرعناء:
رويدك غوروأيّهذا الجنرالأسأتْ إلينا بالذي قد ذكرتهإليك صلاح الدين نشكومصيبةفقد آلَمَتْنا من خطابك أقوالمن الأمرِ فاستاءت عصورٌ وأجيالأصيبَ بها قلبُ العلا فّهْومقتال
والشاعر هنا يشير الى مقولة غورو عندما دخل دمشق غازياً فتوجَّه الى ضريح صلاح الدين وقال له " ها نحن عُدْنا يا صلاح الدين ".
ومن المهاجر الأمريكية تواصل الأدباء العرب مع هذا الحدث الجلل وهذه المواقف البطولية الرائعة فأبوالفضل الوليد يشيد بصمود يوسف العظمة في ميسلون:
تربَّصَ إحدى الحسنيين تبسُّلا
وأيقن أن النصرَ في جنبِ خصمِهِ
على أشرف الميتات وطَّن نَفْسَهُ
وما ذاك إلاَّ من إباءٍ وعزَّةٍ
أيوسفُ يا بن العظمة استعظم الورى
فنم في ثراها مطمئناً مكرّماً
سلام على الأبطالِ إنَّ دماءَهم
فما عابه ألاَّ يكون المظفَّراولكن رأى حظَّ الشهيدين أفخرافشدَّ لكي يلقى الردّى لا لينصرايزيدان نفس المستميت تكبُّراشهادتك المثلى، ومثلك لم يرافذاك الثرى قد صار مسكاً وعنبراستحيي شعوراً لن يموت ويقبرا
فالأبيات تنبض بالتقدير والإعجاب وتتعامل مع الشهادة من خلال صراع يعيشه الإنسان وبقى مع شعراء المهجر الذين ابتعدوا جسداً عن الوطن الأم، وارتبطوا روحاً تتألم لأوجاعِ الأمة، وتفرح لفرحها. فهذا إلياس فرحات يحسِّد معنى الشهادة والثبات والتنديد لسياسة الاستعمار:
قولوا لغوروكلّما لَمَعَتْمَيْتُ العلى حيٌّ بمبدئهِمجد الشآم بميسلونَ بدايا ميسلون سُقيتِ كلَّ ضحىًأزرارُهُ فاختالَ وابتسماوعدوُّه مَيْتٌ ولوسلماغرساً سقوهُ دماءَهمْ فنمادمعَ الغمامِ كما سُقيتِ دما
ويعود الشاعر الى ذكرى ميسلون مع ابتهاجه في إعلان نار الثورة السورية الكبرى فلا يجد مانعاً في اختيار عنوان " يا ميسلون " فيتوجه إليها:
يا ميسلون تجدَّدَ العمليا ليْتَ غوروحاضرٌ ليرىأبني الشآم اليومَ يومكمومرحى بني معروف إنَّ لكميا سائلي عنهم أتجهلهمْلعُلاك فليتجدَّدِ الأملْضرباً تميدُ لهولِهِ القِلَلْللمجدِ هذا الحادثُ الجللجيشاً تضيق بخيلهِ السبلوهمُ الذين على العلى جُبلوا
وللشاعر إلياس فرحات أكثر من قصيدة يشيد فيها بميسلون ويوسف العظمة وقد قال يوم احتفل المغتربون في البرازيل بوضع تمثال بطل ميسلون:
شاعر الأحرار في هذي المهمّهإن يقلْ ما ميسلونٌ جاهل؟محفِلُ الأحرارِ يبغي أن نؤمّهقلْ: مثارُ الفخر في تاريخ أمّه
وللشاعر القروي حصَّة عظيمة في ذكر ميسلون وقد أشاد بها وذكرها في قصيدته " عيد الأضحى " وقد جاء العيد بعد ميسلون:
إنَّ بالعظمةِ أعلى مثلٍودَّعَ الغوطة يبغي جنَّةًيا معيداً مجدنا الضائعَ، نَمْللفدى تنشده النفس الأبيةغيرها تحتَ ظلالِ المشرفيّةمُسْتريحاً في ظلال الأبديّة
هذا الاحساس القومي الرائع ينبض في ثنايا كلِّ حرف وبيت، وهنا تكمن عظمة الكلمة النابعة من الأعماق وهذا ما بدا في قصيدة " جورج صيدح " في ذكر الجلاء:
زغردي يا حرائرَ الشامِ، هذاخطبوها في ميسلون فأدّىمهرجانٌ لأختك الحرّيّة" يوسفُ " المهرَ بالدماء الزكيّة
وانطلق صوت الشاعر إيليا أبوماضي مشيداً بيوسف العظمة وراسماً عظمة رسالته ودوره في قصيدته " تحية الشام "
ما كان يوسفُ واحداً بل موكباًهذا الذي اشتاق الكرى تحت الثرىوإذا نبا العيشُ الكريم بماجدٍإنّي لأزهى بالفتى وأحبُّهُللنور غلغل في الشموسِ فغاباكي لا يرى في جلَّق الأغراباحرٍّ رأى الموتَ الكريم صوابايهوى الحياةَ مشقّةً وصعابا
ورد ذكر ميسلون ويوسف العظمة كثيراً وخاصة في قصائد قيلت بمناسبة الجلاء وذكرى ميسلون وهي مطوَّلة تستحقُّ دراسة متأنيّة فيها الكثير من الدقة والتحليل. فكانت ذكرى الجلاء باعثة للذكريات واسترجاحِ قيم النضال ولذلك كان الجلاء من ميسلون. وميسلون أوَّل لبنة من لبنات الجلاء العظيم الذي جاء ثمرة التضحيات فيقول الشاعر زكي قنصل:
كلُّ شبرٍ من أرضِها ميسلونٌ
وإذا كلُّ ربوةٍ ميسلونٌ
يجثم العزُّ حولها والوقارُوإذا كلُّ ساحةٍ مضمار
ونبقى مع الشاعر زكي قنصل الذي أنشد قصيدة رائعة في الذكرى الخمسينية لموقعة ميسلون وعنوانها (مواكب الشهيد ):
هتكوا حماكَ وأنتَ لم تثبِأين الحميَّةُ، هل هي انطفأتمثواكَ محرابي أطوف بهأولَسْتَ من عدنانَ يا عربيأم أنَّها ذهبت مع السلبِ ؟وأحوم بالنجوى على النصب
وهناك الكثير ممَّا قيل في ميسلون وبطلها يوسف العظمة الذي ضَرَبَ مثلاً في الرفضِ والإباء والعزّة. وهذا ما ألهب نار الثورة من بعده.
فما الثورات والنضال الوطني الذي أدّى إلى الجلاء إلاَّ من سعير ميسلون وهداها. وتبقى ميسلون مجالاً رحباً للدراسة مع معارك تاريخيه أخرى خاضتها أمَّتنا العربية كحطين وعين جالوت ومالمنصورة... وهي دعوة فيها الكثيرُ من العمل والفائدة