الأحد ٦ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠١٩
بقلم مادونا عسكر

ميّ زيادة والبحث في فلسفة التّعليم

نشرت مي زيادة في صحيفة الأهرام سلسلة من المقالات تحت عنوان "كبار يعلّمون وصغار يتعلّمون" سنة 1929. وأتت هذه السّلسلة كرؤية شاملة لمنظومة التّعليم، تحدّثت فيها ميّ عن أصول التّعليم وكيفيّة ممارسة هذه المهنة الصّعبة المرتبطة ارتباطا وثيقاً بالإنسان. وتشدّد ميّ على سيكولوجيّة المعلّم وقدرته على الولوج عميقاً في ذات الطّالب ليبني إنسانيّته، فلا يكون المعلّم مجرّد ملقّن للمنهج التّعليميّ. ولا ريب في أنّ ميّاً كتبت هذه المقالات لتكون مرجعاً تعليميّاً ليستفيد منها كلّ معلّمٍ ومربٍّ. ومن يقرأ هذه المقالات اليوم، وخاصّة من المعلّمين والمعلّمات، فسيرى أنّ هذه المقالات موجّهة له في مجتمعاتنا الّتي ابتعدت في غالب الظّنّ عن التّربية والتّعليم، واكتفت بالتّلقين العلميّ. وإلّا فما هو تفسير خمول العقل في المجتمع العربيّ، وعدم قدرة الطّالب على التّحليل والجدل وتدريب العقل على السّؤال والاستنتاج؟ وكيف نفسّر قلّة وعيه الثّقافيّ وعدم محبّته للمدرسة وسعيه للحصول على درجات عالية بمعزل عن الفهم؟
تقول ميّ: "سرّ التّربية والتّعليم في أن تثير الاهتمام وتحرّك الرّغبة وتحمل النّاشئ على طلب ما يفيده ويثقّفه ويحسّنه. وسرّ النّجاح للمدرّس والمهذِّب يقوم في معرفة الطّبائع والمواهب الملقاة بين يديه ومعرفة معالجتها ذاكراً تلك الكلمة الحكيمة الجامعة الّتي أورثناها العرب وهي "أثبت العروش ما ارتكز على القلوب". ما يعني أنّ هذه المهمّة الملقاة على عاتق المعلّم صعبة وشاقّة ولا تحتمل التّلكّؤ والاستهتار واعتبار مهنة التّعليم مجرّد وظيفة بدوام محدّد. وإنّما التّعليم يرادف تعبيراً خطيراً قد لا يلتفت إليه أغلب المعلّمين ألا وهو بناء البشر. وفي قول ميّ إشارة إلى أنّ على المعلّم أن يكون مثقّفاً، عارفاً بشتّى العلوم النّفسيّة والاجتماعيّة والتّربويّة... ولا تنحصر معرفته بالمعلومات الّتي خوّلته الحصول على شهادته أو بالمادّة الّتي يدرّسها. فبحسب ميّ زيادة التّعليم علاقة مباشرة مع كلّ طالب، من خلالها يستفزّ المعلّم ملكات التّلميذ ويحرّك رغبته في العلم والمعرفة مثيراً فيه السّؤال الّذي يؤدّي إلى هذه المعرفة، ليمسي العلم متعة لا عبئاً على المتعلّم.
ولا تفصل ميّ التّعليم عن التّربية بل إنّ بينهما وحدة هي سرّ نجاح العمليّة التّعليميّة، فتقول: "أمّا أنا فلا أستطيع فصل التّربية عن التّعليم. أليس أنّ ما يتعلّمه المرء يهذّب ناحية من شخصيّته لأنّه ينمّيها وينيرها؟ فالمعلّم مهذّب بطبيعته، وبمعاملته، وبمثله، ولا أرى خيراً من آداب اللّغة (أعني الآداب الرّفيعة النّاصعة الشريفة) كوسيلة للتّهذيب العلميّ." بمعنى آخر، تقول ميّ إنّ التّعليم بمعزل عن التّربية يصبح جافّاً ويفقد غايته الّتي هي بناء الإنسان. وأمّا التّربية فهي المتابعة والاهتمام والمعالجة والدّخول في تفاصيل من نربّي والأهم أنّها فعل محبّة عميقة بها يمنح المعلّم ذاته للطّالب. لذلك نرى معلّمين مؤثّرين في طلّابهم لأنّهم زرعوا فيهم شيئاً من ذاتهم. ما يجعل المعلّم متمدّداً في طلّابه من جيل إلى جيل. إنّ المعلّم ينقل النّاشئ من مشروع إنسان إلى إنسان إذا أيقن أهمّيّة تربية وتهذيب العقل والنّفس معاً.
ولم تهمل ميّ أيضاً الإشارة إلى أهمّيّة التّكامل في العمليّة التّربويّة التّعليميّة، تقول: "فلتّربية والتّعليم مهمّة هي الأخذ بيد النّاشئ والخروج به من حالة عقليّة ونفسيّة وجسديّة منحطّة، على ما يقولون، إلى حالة عقليّة ونفسيّة وجسديّة راقية، على ما يقولون أيضاً. فمجرّد تقرير وجوب التّربية والتّعليم يثبت وجود غاية يذهب إليها النّاشئ ويثبت وجود مثل عال يتلمّسه الطّالب في ما يتيسّر له من وسائل التّحصيل العلميّ والثّقافة الفكريّة والأخلاقيّة." وعمليّة النّقل هذه تفترض معلّماً مدرّباً على التّعامل مع النّاشئ، كما تفترض معلّماً يعي أنّه يهيّئ إنسان المستقبل، لا النّاشئ الجالس على مقعده الدّراسيّ لبضع ساعات، وهنا تكمن الصّعوبة وقد أقول الخطورة. فإمّا أن يبني المعلّم النّاشئ فكريّاً ونفسيّاً مؤهّلاً إيّاه ليكون إنساناً فاعلاً في المجتمع، وإمّا أن يهدمه من أساسه.
لكنّ المعلّم لا يتحمّل وزر هذا البناء وحده، لأنّه يحتاج إلى أدوات تمكّنه من هذه العمليّة، ألا وهي تجديد كتب الدّراسة والمطالعة، على أن يكون ذلك التّجديد مطابقاً لأصول العلوم الّتي تدرّس ولعقلية النّاشئ، كما تقول ميّ. كما تضيف: "التّجديد محتّم بحكم تطوّر العالم وتطوّر البيئة، وبحكم نموّ العلم الإنسانيّ الّذي يفاجئنا كلّ عام بل كلّ شهر بنتيجة مجهود جديد يضيفها إلى مباحثه ومعارفه واختباراته واكتشافاته واختراعاته، في سعيه المتواصل للتّعرّف بطبيعة الكائنات على مختلف أنواعها وللسّطو على مكنونات الخليقة والتّوغّل في أسرار النّفوس."إنّ هذه المشكلة الّتي تعالجها ميّ ممتدّة إلى عصرنا هذا. ولعلّنا نفتقد إلى هذا التّجديد الّذي ينقل الطّالب من حالة التّلقين إلى حالة البحث عن المعرفة.
تثير ميّ في إحدى هذه المقالات ضمن سلسلة (كبار يعلّمون وصغار يتعلّمون/ سنة 1929) موضوع قانون التّعليم الإجباريّ الّذي عمل عليه أولي الأمر في وزارة المعارف المصريّة الّذي نصّ عليه نصّ الدّستور وعرضه البرلمان الجديد آنذاك لإصدار مرسوم ملكيّ به وتنفيذه مطلع عام 1930. مع أنّ وزارة المعارف كانت تعدّ عدّتها لتنفيذ هذا المشروع تدريجيّاً في عشرين عاماً. ولعلّه أسيء فهم ميّ في ما قالته وأبدت فيه وجهة نظرها فقوبلت بهجوم عنيف واتُّهمت بالرّجعيّة.
برأي ميّ زيادة أنّ التّعليم الإجباريّ بهدف دفن الأمّيّة وحسب دون قيد أو شرط عمليّة عبثيّة، ينتج عنها تفاقماً في البطالة. ولعلّ من هاجم ميّ لم يفهم بدقّة أنّ رؤيتها للموضوع ليست آنيّة بل إنّها ترى مستقبل أؤلئك المتعلّمين الّذين إذا لم يتمّ توجيههم بشكل صحيح بالغين البطالة والإحباط لا محالة. فالتّعليم ليس عمليّة عشوائيّة هدفها تخريج طلّاب متعلّمين وحسب. بل ينبغي بحسب ميّ التّنبّه إلى توجيه الطّالب وتبيّن قدراته نظريّة كانت أم تطبيقيّة. وتربط ميّ العلم بالعمل وإلّا واجه المجتمع مشكلة متعلّمين عاطلين عن العمل. ولا يخفى على أحد الكوارث الّتي تنتج عن البطالة على المستوى الاجتماعيّ والاقتصاديّ. وتعرض ميّ حلّاً لهذه المشكلة على الشّكل الآتي:
 وجوب مراعاة حالة التّعليم الاجتماعيّة وغايته المباشرة من التّعليم.
 وجوب إيجاد مدارس موافقة لليقظة الاقتصاديّة والتّجاريّة – تلك اليقظة المتحققّة في الواقع من بعض جهاتها ومن واجب الحكومة أن تنشّطها وترهفها عن طريق المدارس والتّعليم.
 وجوب عدم نسيان عند إعداد قانون التّعليم الإجباريّ وأيّ منهج دراسيّ أنّ مصر بطبيعتها بلاد زراعيّة وأنّ أكثر المتعلّمين يجب أن يبقوا في قراهم ومزارعهم فيكون تعليمهم اليسير أو الوفير وسيلة لتحسين حياتهم وتحسين وسطهم من مختلف نواحيه. ومن لا يذكر منّا حاجة الرّيف إلى الإصلاح والتّرقية؟
لا ريب أنّ ميّاً ليست ضدّ التّعليم، لكنّها مع التّعليم كمنظومة شاملة. فالهدف من التّعليم ليس تخزين المعلومات والدّراية بالكتابة والقراءة، بل إنّها نهضة الشّعوب وارتقاؤها وتقدّمها وتطوّرها. فما حال مجتمع أغلب المنتمين إليه عاطلين عن العمل؟ ممّا تقوله ميّ: "لو كانت الغاية من التّعليم جعل كلّ متعلّم أفنديّاً معسكره العام في القهاوي والبارات في انتظار وظيفة تهبط عليه من السّماء على أجنحة ملائكة الرّحمن، إذن لكان الجهل خيراً. ولو كانت الغاية من التّعليم قذف المتعلّمين إلى العواصم والمدن وتضخيمها وإرهاقها في حين يفقر الرّيف وتشلّ عنه الأيدي والجهود المطلوبة، إذن لكان الجهل خيراً..."، وهنا ترى ميّ البعد الكارثيّ لخطورة التّعليم الأوّليّ. أي التّعليم بشكله الظّاهري بهدف محو الأمّيّة وحسب. لا التّعليم التّنويريّ الذي يقود الشّعوب ويطوّرها. ما سيحوّله إلى داء للأمّة في حال لم يقترن بالعمل بدل أن يكون دواء لها. وما حال بلادنا ومجتمعاتنا إلّا نتيجة لهذا الخلل القائم في التّعليم. فالتّعليم ليس رفاهيّة، وإنّما حقّ يقابله واجب الاندماج في المجتمع والنّهضة به، فينمو العقل ويتطوّر ويبني هذا المجتمع. ولكي تُفهم وجهة نظر ميّ أكثر ينبغي إلقاء نظرة سريعة على حال مجتمعاتنا الغارقة في البطالة والطّافحة بالمتعلّمين الّذين لا يسهمون في نهضة المجتمع. وذلك لأنّ هذه المجتمعات تفتقد إلى توجيه الطّالب والاستدلال إلى قدراته الّتي يمكن أن تخدم هذا المجتمع. وبحكم البطالة يتوجّه المتعلّم إلى أيّ عمل بهدف كسب القوت بالدّرجة الأولى لا بهدف خدمة مجتمعه بعلمه. وإذا انشغل مجتمع بكسب القوت وحسب فكيف له أن يتقدّم علميّاً واقتصاديّاً وسياسيّاً؟
يشير الأديب طه حسين إلى الفكرة ذاتها في "مستقبل الثّقافة في مصر" سنة 1937 أي بعدما نشرت مقالات ميّ زيادة في صحيفة الأهرام بثماني سنوات قائلاً: "هؤلاء الشّبان الّذين يقبلون في المدارس والكلّيات بغير حساب، ثمّ يخرجون منها وقد ظفروا بالإجازات والدّرجات، ما عسى أن تصنع بهم الدّولة؟ إنّ مناصبها محدودة لا تزداد إلّا في بطء شديد جدّاً، وفي فترات متقطّعة، وهؤلاء الشّبان يكثرون، ويضخم عددهم في كلّ عام، وهم لا يقبلون على الأعمال الحرّة. والأعمال الحرّة نفسها محدودة، وتوشك أن تضيق بهؤلاء الشّبّان إذا اطّرد توسّع الدّولة في نشر التّعليم العام. فأمر هؤلاء الشّباب صائر إذن إلى البطالة، والبطالة منتجة للقلق، ثمّ إلى السّخط، ثمّ إلى اضطراب النّظام الاجتماعيّ، ثمّ إلى هذه العواقب الّتي قد لا نتصوّرها الآن، ولكنّها شديدة الخطر على كلّ حال".
وتجب الإشارة إلى بروز شخصيّة ميّ في هذه السّلسلة من المقالات بشكل أوضح. فتبدو لنا مفكّرة صارمة ثاقبة النّظر. كما نستدلّ على عناد ومثابرة لتعزيز وجهة نظرها وتحقيقها وشخصيّة فذّة تفرض ذاتها بقوّة بالكلمة والمناقشة والجدل المنطقيّ والرّؤية الشّاملة، وأنّها لم تكن سابقة لطه حسين وحده في طرح أفكار متقدّمة جدّا عن التّعليم وفلسفته، بل إنّ كلّ النّظريّات الحديثة حول التّعليم تراعي في خطوطها العريضة حاجات المجتمع من التّعليم والاهتمام بالمتعلم، والابتعاد عن التلقين، والسعي إلى إيجاد الطالب المفكّر المشارك في صنع المعرفة، وليس متلقّيا فقط، وهذا هو نفسه ما تحدّثت به ميّ زيادة في هذه المقالات الّتي أشرتُ إلى بعض ما فيها، مستعينة ببعض المقتبسات منها، ولا تغني بأية حال عن قراءة تلك المقالات والتّأمّل في أفكارها.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى