الأحد ١٥ حزيران (يونيو) ٢٠٢٥
بقلم رشا طارق الست

مُسيّراتٌ ونار

كعادتي كل صباح، تسلل النور إلى غرفتي، نهضت أرتشف قهوتي وخرجت مسرعًا أتفقد الأوضاع، وبينما كنت أمشي في أطراف مدينة يافا، استوقفني صخبٌ آت من بعيد، أصواتٌ تعلو وتزيد، أرهفتُ السمع، الطريق من حولي اتسع، وضوءٌ ساطعٌ أمامي انقشع، وإذ بالصوت انقطع، وزلزلني صوتُ امرأةٍ كأنها مصابة بالصرع، بجانبها طفل بللَ دمعها قميصه وارتوى الإسفلتُ من دمائه وشَبع.

لا تحزني يمُّ الشهيد
فاليوم له يومُ عيد
جمدي دمعك واحبسي نارك في الوريد
فقيام الليل في قسماته نوره یزید
تهللي يم الشهيد وزغردي، فإنه آت يوم الوعيد
اصبري فابنك كان جبروت والدين شهيد
بعده آتٍ ألف مجاهدٍ قلبهم من حديد
أحمد، محمد، سعيد، ورشيد
النصر آت هذا أكيد
رددي يا قدس لحن النشيد
سيولد من رحمك جيلٌ، باب الشهادة قرع يريد.

وقفتُ مذهولًا من هول المشهد. وبعد هنيهة، عدت أدراجي، دخلت غرفتي، وراسلت أصدقائي لنجتمع، ونتدبر ردًا يُشفي صدورنا.

انقضت تلك الليلة ونحن نفكر، وأنا مشتت، وفي داخلي صوت يزلزلني:
خذ ثاري
احمي داري
فوالله ما أنا متجاهلٌ صوت الفؤاد الحارق الدامي.

إلتفتُّ الى خالد وحدثته:

ماذا خطر في بالك؟، هل لمعت في رأسك فكرة ام انك لم تجد شيئا حتى الآن؟

خالد: افكر في شيء يا عُدي، قبل أيام رأيت بعض الجنود يتمركزون في حاجز قريب منا، وقد جاء إليهم بعض اصحاب الرتب العالية، ولكن علينا أن نراقب تحركاتهم قبل المضي في أيّ خطوة.

إلتفت عدي الى محمد وقال: مارأيك في فكرته هل اعجبتك أم لديك شيء آخر؟

أجاب محمد قائلا: فكرته جميلة ولكن ما في يجول في رأسي، أن تكون العملية اكبر من ذلك، فهذا لن يشفي غليلي منهم.

عمَّ الصمت لبضع الوقت، وإذ بأحمد يصيح بهم قائلا: وجدتها، وجدتها

إلتفت الجميع اليه ينتظرون منه أي كلمة قد تُذهبَ عنهم همّ التفكير، فنظر إليهم متبسما وقال: ستكون أبواب جهنم في وجوههم قد فُتِحَت، سنخرج من هذه القوقعه التي تحيط بنا ويتجه كل واحدٍ منا الى مركز، طبعًا بعد أن نراقبهم ونحتحدث مع أنس ليبحث عن فكّ شيفرات البوابات، ثم ننفصل، كلّ منا على حدى، ونختار أهم المواقع لديهم ونقوم بتفخيخ هذه المراكز في الوقت الذي ينشغلون فيه، ونبتعد، نراقبهم عن بُعد، أما وقت التفجير، فطبعا كل واحد منا سيرى الوقت المناسب لتفجيره، بحيث يكون هناك الكثير من العناصر والقيادات، ولن تكون هذه آخر عملية لنا، لان هذه بداية الشرارة، فما نراه كل يوم لا يكفيه ألف تفجيرٍ لِيُبَرِّد نار قلبي.

عدي: تماما هذا ما خطر لي، ولكني ترددت في موضوع البوابة، كنت قد نسيت أن أنس يستطع فك الشيفرات، ولكن أيضا ما نسيته أنت، أن البوابات هذه حتى وإن فككنا شيفراتها، هناك عناصرٌ متمركزة تراقب، فلن نستطع اجتيازهم بسهولة، وهذا يعني أنه هناك عملية للمراقبين قبل الدخول، وأن تكون العملية متقنة بحيث لا يدري أحد أن البوابات فُتحت وخرج منها أحد.

خالد: صحيح كلامك، ولكن ماذا سنفعل بالمراقبين؟!

عدي: فكرت بهذا أيضا، سنخطفهم لاننا لو أطلقنا النار أو قمنا بتفجيرهم سيُعرف بسهوله أنه تمّ تخطي الحواجز، ما رأيكم؟

محمد«متجهما»: آآه، لم أعد أقوى على الإنتظار، أريد الذهاب الآن، سأقتل هؤلاء الأنذال، سأسلبهم راحتهم ونومهم كما سلبو منا كل شيء

عدي مقاطعا: إنتظر واهدأ يا غبي، تهوّرك الدائم دائما يُضيع عليك فرصة الربح، فكرتنا جميلة، ولكن علينا التأني والتروي، علينا أن نحسب خطواتنا وكلامنا، هذا الأمر يجب أن يكون سريًا، هل فهمتم جميعا؟، لا أم، ولا أب، ولا أخ، ولا أي أحد.
ردو بصوتٍ واحدٍ: طبعا طبعا

أكمل عدي: الفكرة اننا سنتطر لحبسهم في أنفاقنا!، فما من مكان آخر لدينا، فلنفكر برَويّة، هيا هَلُمّوا إلى النوم وسنلتقى غدا في نفس الموعد ونكمل.

ودّعتهم عند الباب وأقفلته وراءهم، استوقفني صوت خروشةٍ غريبة،الوقت متأخر جدا والجميعُ نيام، من ذا الذي يتنقل هنا في هذا الوقت؟ فتحت الباب ثانيةً،فلم أجد أحد، وحين اقفلته سمعت الصوت مرةً أخرى، فخرجت مسرعا وانا أحمل خنجرًا صغيرًا ذو أسنانٍ حادة، إعتدت حمله على خاصرتي أينما ذهبت، وأخذت أبحث في الحارة، وأتنقل بين الأزقة، علّني أجد أحداً، ولكن لا جدى من البحث، تورّمت قدماي وأنا أتنقل فقررت العودة، وفي نفسي شيءٌ يخنقني، وكأنني ابتلعت شوكة وعلقت في حنجرتي، وصلت للمنزل وأقفلت الباب، ودخلت غرفتي أحاول جاهداً النوم، أي نوم هذا والأصوات داخل رأسي تُنهشني، تنقلت من السرير الى فراشًا قد بسَطَته أمي في الأرض، أطلَّ الصباح وأنا أتنقل بين السرير والفرش، وأحاول النوم ولكن عبثاً، جاءت أمي إليّ: عدي « قوم يما تعال أشرد مع ابوك عالزتون محتاج مساعدة، وانا بجبلكم لفطور هناك وبساعدكم » قمت مسرعاً تلبيةً لنداء أمي، يا لبَّ الفؤاد صباحك سكر، قبّلت جبينها ويدها ومشيت، وصوت دعواتها تصدح في أرجاء البيت، ربي يحميك يما ويصونك، وعهالشغل والتعب يكون بعونك، آخ يا أمي دعواتك أحلى شيء في الدنيا؛ توضأت وجهزت نفسي بسرعة، وتبعت والدي الى أرض الزيتون، وبعد إنتهائنا من العمل،انشرح صدري كأنني طير فتح له باب القفص، ووددت لو أرتمي تحت شجرة الزيتون، وأغفوا تحت ظلها ولكن!، صاح بي والدي وأمرني بالذهاب للمعصرة، إمتثلت أمامه، وهززت برأسي وقلت له: أمرك يا تاج الأمة.

حملت المتاع كلّه على عربة صغيرة وجررتها، وبعد أن وصلت الى المعمل، وبينما أنا أعصر الزيتون لتحويله الى زيت، شاهدت ظِلًّا وكأن أحدًا يراقبني، أكملت وكأنني لا أرى شيئاً حتى لا يعرف أني لاحظته فيهرب، وبعد أن انتهيت مضيت لأبيع الزيت في محالٍّ قريبة، وأنا أحاول أن لا ألفت انتباهه أني لاحظت أمر مراقبتي، وبيما كنتُ أجوب في الشارع، وقفتُ على الكوع، وأرسلتُ رسالة لخالد ومحمد أخبرتهم بما حدث، واخبرتهم مكاني ليأتوا؛ وبعد هُنيهةٍ سمعت اصواتهم يصرخون، ويضربون شاباً مفتول العضلات بهيُّ الطلعة، جررناه ودخلنا من الأزقة بعد أن خلع محمد قميصه واقفل به عينا الشاب. وصلنا الى مدخلاً سريّا من منزل مهجور يصل الى خندق تحت الأرض، كنا نختبأ به في أوقاتٍ يشتدُّ بها القصف، كان يبدأُ بممرٍّ ضيق، يقود الى سلسلة أنفاق كل منها على مناطق محددة، كان فيها غرف مُعدّة للنوم، وغرف للذخائر، والأدوات الطبية، وغرف اجتماعات صغيرة مُجهزة بأدوات الخرائط والمعدات اللاسلكية للاتصالات.

قيدناه في النفق وبحثنا بأمتعته ووجدنا في هاتفه محادثة تثبت أن قادة وضباط ييجتمعون في نقطة قريبة، فحملنا أسلحتنا ومضينا نحو الجهاد والصدر مُنشرحُ، فالحق في الميدانِ دومًا يَصدُحُ، حملنا الذخائر لأخذ الثأر، وفي الأفق وعدٌ بالنصر يُلمَحُ.
اقتربنا من موقع تنفيذ اول عملية لنا، وحوّطنا المكان كل واحد منا من جهة، انتظرنا حتى اجتمعوا، ورمينا عليهم موادًا حارقة كنا قد صنعناها باوقات إقتحامات العدو للدفاع عن أنفسنا، وبعدها، فتحنا عليهم رشاشاتنا حتى أرديناهم جميعًا وأخذنا نركض مبتعدين بسرعة قبل أن يأتي غيرهم، ويكتشفوننا.

عند وصولنا لأول مَفْرَقٍ لحارتنا، فوجأنا بمسيرات العدو تضرب من جديد؛ اهتزت الأرض تحتنا كانها زلازل، والناس بدأت تتخبط ببعضها من الفزع والخوف الذي عم المكان، والأبنبة تنهار على رؤوس ساكنيها، صرخات الأطفال تدوي، هذا سقط عليه عامود، وذاك حملته امه تخبأه في مدخل مبنى، النوافذ، تكسرت وزجاجها يتساقط كلمطر على أجسادنا وفجأة، سقطت أرضا ولم أعد أشعر بشيء.

حجرةالعناية الفائقة:
حالتي خطره، دخلت في غيبوبه، ثم ماذا حدث؟!
إنخفضت دقات قلبي، بدأ الجميع يتراكدون.
طبيبي يقول: فقدنا الأمل!
صوت البكاء والنوح ملأ المكان.
امي انهارت سقطت مغمًا عليها

أختي تسمّرت، عيونها تجمّرت، لا بكاء، لا صراخ، واصوات نحيب النساء حولها تعلوا.

أمسَكوا بها، ماذا أصابك؟ انطقي، اصرخي، إبكي، ماذا تفعلي؟!

هي، دخلت غرفتي، وقفت فوقي، عيناها محدقتان تترقبان نبضي.

بدأوا يتجمهرون حولي؛ هذا يترحم على شبابي، هذا اعد الكفن، هذا يداري دمعه، هذا يناجي ربه.
هيا أخرجوا أعِدُّوا القبر والزهر والشاهد، ذيعوا الخبر مات المجاهد.

توجهوا لتحضير المراسم وطيفي يتبعهم، أراقبهم، احادثهم، وانا في سباتٍ وامي بحالةٍ مزريّة
باقٍ انا اتبعكم موتي اليكم هدية
من جسدٍ أُدخِلَ تابوتًا ومعه وصية
قاتلتهم حتى اخر انفاسي، نعم لديَّ بندقية
علوا الزغاريد، وَزِّعُوها على من قتلته شظيّة
لا تسالوا كيف مات، فانا فلسطين الهوية
وكلُّ شهيدٍ هنا، قضى في هذه القضية
فإن صَحَت في يومٍ عروبتكم
لكم من كل شهيدٍ تحيّة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى