الخميس ١٤ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠١٩
بقلم رندة زريق صباغ

نصف عام على رحيل الفضل

ها أنا ذا ادرك الاّن كيف تتغير الدنيا وما عليها بعد غياب الاّباء خاصة اذا كانوا مميزين وكان حضورهم طاغياً، ثقافتهم عالية ودماثة اخلاقهم رفيعة وغالية. حيث تتهدّم أمانٍ كثيرة، تتجمّد طموحات كبيرة وتتشرذم جماعات حبيبة بمجرد غياب السّند والدّعم، تنفتح الأبواب على مصراعيها فتنكشف الدواخل والأسرار وتظهر الحقائق جليّة واضحة.

فأبي هو الذي جعلني أشعر
كأنّني لا أحد...أمام حشود المعزّين.
كأنّني لا شيء...أمام هذا الكم من المحبّة، التّقدير والاحترام.
كأنني لا شيء ولا أحد أمام عبقريّة وأثر أبي الطيب.

أزوره في مثواه الأخير كل أسبوع وأضيء له الشموع، أحضِر له الزهور والنباتات، أتحدث معه قليلا على أمل أن يشعر بي إن لم يسمع، أنظف المكان حوله وأسقي الزرع ثم أمسح لوحة رخامية تحمل رسمه خلّدت ضحكته الساحرة كما رغب سراج البيت الذي ألتقي ببقايا زياراته كل مرة على الضريح، أصلّي لروح أبي ليتغمدها الله برحمته الواسعة، وأعده كل مرة من جديد أنّني باقية على الوعد والعهد على الصعيدين العام والخاص.

أبي الذي لم يكن زعيما ولا قائدا... لا رئيسا ولا نائبا.
لا سياسيا ولا دبلوماسيا... ولم يكن مدير مؤسسة أو جمعية.

لم تسبق اسم أبي الألقاب والصّفات، ولم يحتج فضلً يوما لأية صفة قبل اسمه أو بعده، لأن الصفة تخصص وتحدد فتفقد المسمى كثيرا من صفاته.

لم تزيّن صدره النياشين والعبارات.
لم يكن ثري المال بل كان غني النفس.

ليس مالكا للعقارات لكنه ملك الدماثة والأخلاق الرفيعة التي ربّانا على أساسها.

لم يملأ حسابه بالبنوك لكنه ملأ قلبه بالمحبة والحنان، بالتضحية والايمان.

لم تخنه عيناه الخضراوان يوما وبقيتا على العهد حتى اللحظة الأخيرة، ونظرات عيونه ثابتين ما بينقصوا.

وكما يقول الشعر النسائي الحزين:-
"يابا
والبَي ما لو مثيل
البَي حَمّال الثقيل
كَفَّك سِخي... فَضلَك عَلينا
يابا".

فضل هو، وذو فضل علينا ،على تلاميذه ،على أسرته، على أخوته وعلى إحفاده، أولاده وبناته. حاله حال آباء الدنيا كلهم، لا أدعي أنه مختلف إلا أنه أبي وبعيوني هو أجمل وأفضل أباء العالم وأكثرهم تميّزاً حتى بعصبيّة مزاجه الصّادق. شفّاف واضح وضوح الشمس التي يحرق لظاها أحيانا لكنها تطهّر وتعقّم, أورثني هذه الصفة العظيمة التي تزعج من لا يمتلكها, فبتت واضحة كالشمس, شامخة كالنخلة, صامدة كصبّارة تعطي ثمارا وزهورا تدهشك ألوانها.

في حين يقرأ الناس الكتب للاستفادة منها, كان أبي يدقّق ويصحّح أخطاء لغوية ومعلوماتية في الكتاب يدوّنها على الهامش ليفيد بها القراء من بعده. الكتاب خير جلسائه، الثقافة الذاتية والمعرفة العامة نبراسا له، المحبة سراجه، بيته مشرع للجميع كما قلبه وروحه، يعلم الجميع أن الاجابة لكل اسئلتهم التاريخية والجغرافية، اللغوية، الادبية والثقافية لدى الاستاذ فضل الذي لم يتوان مرة عن اعطائها بإسهاب وفرح لكل سائل ومهتم بالمعلومة, وقد قصده المهتمون من القرية والمنطقة, من البلاد والخارج, من أمريكا وأستراليا كما من بريطانيا واسبانيا, وطبعا من الضفة, الجولان وعمان ليوثّقوا ذكرياته عن المجزرة والتهجير وجال بها بعضهم في مؤتمرات دولية لإظهار صوت الحق والتاريخ، وقد حمّلني هذه الوصيّة وطالبني بتوثيق المجزرة وتاريخ عيلبون... وأنا على العهد والوعد.

جدَّ واجتهد، تفوَّق وصعد وكم تمنى أن يتابع ليصل حيث يستحق، إلا أن الحياة لم تفرش له زهورها، حاله كحال الكثيرين من أبناء جيله الذين فقدوا اّباءهم بالنكبة. ظلمته الحياة كما ظلمت أمثاله من اليتامى فتحمل المشاق والقهر، تحمل الجوع والحزن، التعب والسهر, ضحّى كما أخويه الأكبرين لراحة أمه ومستقبل أخوته... ها هو أبي فضل يرقد منذ نصف عام قرب أبيه الشهيد نعيم الذي طالما حدّثنا عنه وعن تميز شخصه وشخصيته وعن مقتله شهيداً نهاية تشرين 48.

أبي الذي اختار أن يموت في بيتي وعلى سريري، أمام عيني وقلبي وأمام زوجي وبناتي اللذين بذلوا كل جهد لإنقاذه فباءت المحاولات بالفشل، أبي الذي مات بذكرى ميلادي ليهديني محبته العظيمة مؤكداً مدى حبّه وتقديره لي وليثبت لي من جديد أن ميلادي كما وفاته في ذكرى النّكبة ليس عبثياً وإنّما بتدبير كَونِيٍّ يُحمِّلني رسالة ووصيّة لا تخلو من عبءٍ.
أبي وفي اّخر جملة قالها لي:- "أنت تشبهينني كثيراً بكل شيء ليس فقط بالشكل وإنما أيضا بالطباع والاهتمامات" ، زادني كلامه هذا ثقة بنفسي ومحبة لذاتي، لتزيدني فخراً بإنجازاتي واعتزازاً ببناتي اللاتي كان لهن نعم الجدّين.

نصف عام من الغياب كان له أثر نصف قرن ، فمن خلال هذه الفترة تعلّمت ما لم أعرفه خلال حياتي كلها، أو بالأحرى كانت هذه الفترة كفيلة بإسقاط الأقنعة لتهشّم وجوهاً كثيرة فيختفي أصحابها نهائياً من المشهد. نصف عام على غياب أبي فضل زادت الفضل في نفسي وزادت شكري لفضل أبي وعظمته وزادتني اندهاشاً من فطنته وفهمه لبواطن البشر من قريب وغريب أو بعيد.

وها أنا ذا رندة الفضل أضيف لطول قامتي صموداً وأعطي صوتي قوةً وأطرّز حروفي بماء فضل الذهبي.

شكرا لك أبي في حضورك وفي غيابك، نم قرير العين ولتخلد روحك بسلام حيث لا وجع ولا تنهد، حيث لا حزن ولا شجن، حيث لا خبث ولا نفاق، سأحفظ أبياتاً ردّدتها على مسامعنا فغدت نبراساً:-

"بعلم وأدب يا ابني تِمَسّك................ خوف الدّهر غَضباتُه تِمِسّك
بتراب الوطن يا بني تمَسّك............... دونك يا وطن نعرى وبلا ثياب


مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى