هواجس في خارطة الوطن
تأتي هذه القراءة بناء على وعد قطعته على نفسي في قراءة سابقة لديوان أحد الشعراء السعوديين، وقامت جريدة المدينة في ملحقها الأدبي الأسبوعي جزى الله القائمين عليها بنشرة، وهذا ما عهدناه فيها من تبن للأقلام الجادة الهادفة ذات العطاء الرؤى الموضوعية.
وكنت قد ذكرت بأنني سأتعرض في هذه القراءة لبعض الجوانب الفنية التي لم تتسع القراءة السابقة لطرحها، وإن شاء الله ومد في أعمارنا، ووهبنا من لدنه القدرة على تواصل العطاء، سيكون لنا لقاء مع ديوان شاعر آخر من شعراء هذا الوطن المعطاء، وستكون القراء فيه ذات طابع مغاير لما قدمنا في القراءتين الأولى والحالية، فسوف نتناول فيها الخطاب الشعري بين التجربة الشخصية، أو ما يعرف بالمضمون الشعري، وما يعتور هذا الخطاب من إشكالية الإغراق في الرمز.
الحلقة الأولى:
أولا: التجربة البشرية والتجربة الشعورية:
أ ) مداخلة تنظيرية يليها التطبيق العملي من خلال القراءة:
عندما نتحدث عن التجارب الشخصية في الخطاب الشعري لأي شاعر كائن من كان لا يهمنا عرض هذه التجارب سواء كانت وطنية أو اجتماعية أو سياسية أو ذاتية في قالب مفصل للفكرة التي يطرحها الشاعر بقدر ما يهمنا الإلماح لهذه الفكرة أو ذلك المضمون، لأن مضمون العمل الفني لا يحمله سطر أو بيت شعر في قصيدة، وإنما يجب أن يكون مبثوثا في جزيئات العمل الفني كله، وهذا يعني أن المضمون الشعري لا يظهر نصا ولا ينبغي له أن يظهر بل يؤمي إلى نفسه من خلال العاطفة والصورة معا.
و"عاطفة الشاعر في تجليها عبر الصور والمشاهد يحسن أن تتراءى من خلال الرمز والإيحاء والتفسير للصور والمشاهد، لا أن تكون محدودة قاطعة، ولا أن تكون شديدة الغموض حتى تصير لغزا مغلقا ".
ولدراسة التجربة البشرية لا بد من وقفة متأنية عند التجربة الشعرية، "لأن التجربة البشرية جزء هام من أجزاء العمل الفني الشعري، ولأنها هي التي تقودنا في النهاية إلى الإحساس بالتجربة الشعرية كتجربة تعتمد على طاقات فنية متعددة الجوانب منها الدلالية، والإيحائية، والتعبيرية والموسيقية.
فالتجربة الشعرية تستمد حين تستمد من الحياة ومن معاناة الشاعر وهمومه وقضاياه المصيرية المتباينة، كما تستمد من ثقافته، وهي حديث وجداني أو عاطفي ينبع من نفس صاحبه ومن عقله ومن كل حواسه ودواخله النفسية والفكرية الظاهرة والباطنة.
ومن هنا لابد للشاعر عند عملية الإبداع والخلق الفني أو أثنائها أن يعتصر نفسه وعقله كي يفجر فيها الأحاسيس والأفكار الحبيسة، وحتى تنبض تجربته، ولابد له أن يعاني فيها من حين تخلقها في قلبه إلى حين اكتمالها.
والتجربة الشعرية في حد ذاتها وقف على الشاعر ذاته لا على المضمون الشعري ذاته، أو التجربة الشخصية، لأن الشاعر هو الذي يستطيع أن يستنبط من الموضوع الصغير معاني لا تنضب من أحاسيسه ومشاعره، والشاعر المبدع هو الذي لا يلتفت إلى ضوضاء العالم من حوله، تلك الضوضاء التي تحجب عنه حقائق حياتنا الداخلية، وإنما ينبغي عليه أن يسمع ضوضاء نفسه ومشاعرها ويطيل عندها الوقوف ليبدع بتجربته عملا أضفى عليه بأحاسيسه ومشاعره ما يجعله يستحق البقاء والخلود.
لذا يجب على الشاعر أن يتغلغل في أعماق الحياة ليستقي منها تجاربه الشخصية ذاتية كانت أم انعكاسا لهموم الوطن وغربة الإنسان وهمومه، غير أن التغلغل في أعماق الحياة لا يعني التلاشي في خبايا النفس المعتمة على نحو ما نرى عند كثير من الشعراء الموغلين في الرمزية أو عند السرياليين والبرناسيين مثلا، وإنما يحسن أن تكون التجربة الشعرية حديث نفس تفصح عن دواخلها وتبوح بمعاناتها، وندرك من خلالها شخصية الشاعر الذي فجر في نفوسنا لواعج المعاناة من خلال ما ينسج ويبدع.
ومن خلال التنظير السابق للتجربة الشخصية والتجربة الشعرية ندرك تماما مدى العلاقة الحميمة بين التجربتين، فهما توأمان متلاصقان ـ أن صح هذا التعبير ـ لا يسهل الفصل بينهما، فالتجربة الشخصية هي محصلة الفكرة أو الهدف أو المعنى أو المضمون، وكلها في رأيي مترادفات لا تواصل بينهما، يبحث عنها الشاعر بين ركام الحياة وردمها وحجارتها وأساساتها، المتبقية وحصونها المتهدمة، بين شخوصها على مختلف سيماههم وأجناسهم وحبهم وكرهم، وفنهم وعطائهم، يبحث عنها بين أوضار المجتمعات المتناحرة من أجل الخير أو لزرع بذور الشر والقضاء على الفضيلة والمحبة والنبل والأخلاق، واجتثاثها من جذورها لتنمو على أنقاضها كل علل المجتمع وأوبائه، تلك بعض جوانب التجربة الشخصية.
أما التوأم الأخر فهو التجربة الشعرية، أو ما يعرف أيضا بالتجربة الفنية، فهي إلى جانب ما ذكرنا عنها بدءا لابد أن تكون دائما تجربة نفسية، للعقل فيها أثر من العمل، ذلك العمل الذي لا ينبغي أن يخرجها من عالمها الخاص بها، عالم الرؤى والأحلام، بل هي الأحلام ذاتها، يجب على الشاعر أن يطلق لنفسه العنان يحلق في عالمه الخيالي خيال ينسى فيه عالمه الحقيقي، ويحملنا معه على أجنحة هذا الخيال إلى عالم جديد نحس فيه بدفء لذة غير مألوفة في عالم الواقع.
غير أن هذا الخيال مهما كان مجنحا وقويا بما يتولد عنه من شتى الصور الفنية خصوصا إذا كان خيالا عفويا غير متكلف يضفي على العمل الفني لمسة من الجمال الحقيقي لا تخفي خلفها التجربة الشخصية وإنما تتواءم التجربتان لتشكل مع عناصر الخطاب الشعري الأخرى قمة هرمية من الإبداع الفني، أما إذا أعيت الشاعر هذه المواءمة بين التجربتين وأخذ يطلق لخياله العنان لا يحلق بنا في عوالم الجمال بل لينقلنا إلى متاهات من تراكيب اللغة وبناها وتداعياتها التي لا نرجع منها إلا بخفي حنين فالأمر جد مختلف.
ب ) القراءة من خلال التنظير للتجربة الشخصية:
في بداية القراءة لا أريد أن أصف الديوان وصفا مسطحا محجما لأن ذلك في نظري لم يعد يهم القارئ بقدر ما يهمه المحتوى، وإن كان بمقدورنا القول بأن الديوان صدر في عام 1988 م في طبعته الأولى، ولعله النتاج البكر للشاعر، ومن هذا المنظور لا نريد أن نحكم عليه الحكم النهائي القاطع من خلال القراءة لديوان يتيم، لأنه وبكل تأكيد سيكون في جعبته الكثير والكثير من العطاء، وربما سيكون له إبداعات أخرى يوائم فيها الشاعر بين الخطاب الشعري ومقوماته الفنية المتعددة.
بدأ شاعرنا ديوانه بقصيدة عنوانها: " كيف صعد ابن الصحراء إلى الشمس " يقول في مطلعها:
أصعد يا حبة قلبي، أصعدأصعد كي تنفض عن عينيك غبارهما فترى..وتماسك أن كنت ضعيفا، ساقك تسند ساقك،وذراعاك تمدانك بالعزم، ووجهك ينفح بالماء،إذا ما أصبح بين الماء وبينك قافلة من نوق.
نقول بادئ ذي بدء أن التجربة الشخصية من خلال الجملة الشعرية السابقة واضحة الدلالة، فالشاعر في تقريرية عفوية يعتمد على تداعي كثير من الجمل الإنشائية المتكررة بدءا من العنوان وانتهاء بالكثير من الجمل الشعرية التالية التي يبدؤها بقوله:
وتماسك حين ترى..سترى ما لا عين نظرت، ما لا أذن سمعتما لم يوصف في الكتب المنسوخة عن عاشر جد..
وغيرها من الجمل الأخرى التي تناثرت في ثنايا النص، أراد الشاعر أن يؤكد بدعوته هذه وحثه لابن الصحراء على الصعود إلى الفضاء الخارجي، بأن هذه الصعود ما هو إلا نقلة حضارية متطورة ومتجددة لم تكن بمنأى عن ابن الصحراء الذي ولد على سفوحها المباركة وتمازجت دماؤه العربية الأصلية مع حبات العرق التي تنضح من جبهته التي طالما لوحتها حرارة الشمس وأكسبتها لونها الأصيل المتميز
والشاعر هنا في محاولة انطلاق جادة كما انطلق ابن الصحراء إلى الشمس، يحاول أن ينطلق من داخل سدومه ويتحرر من قواقعه التي كونتها ترسبات الزمن الغابر ليرى نور المستقبل المستمد من ضوء الشمس، فشاعرنا متعطش إلى تجاوز حصار الأرض وحصار الزمن ليرقى إلى أفاق أكثر رحابة وأعظم اتساعا في عطائها وتحررها، ذلك الفضاء الذي تحلل فيه الأشياء من قيودها وتتفتح فيه النفس لتتزاوج مع النجوم في انعتاقها.
أستمع إليه يقول في إصرار عنيد لصعود ابن الصحراء إلى الشمس:
كل الناس عطاش..فاصعد يا حبة قلبي، اصعدوتوسد صوتي حين أناديك لتصعد..اخترتك أنت..لست الظاهر بينهمُ ولست السافراصعد كي تفتح عينيك على الصالح والفالح..والكالح والفارح..والتارح والجارح والمجروح..كل الأرض جروح...
وفي قناعتي الشخصية أن الصعود إلى الشمس في عرف الشاعر، ليس ذاك الصعود الحقيقي بمفهومه العلمي والعملي الذي ينشده العقل الواعي، وإنما هو تحليق في عوالم الكون وانعتاق من ذات نفسه القابعة في محيط الأرض بما فيها من تناقضات وآلام وأحزان وأتراح وأفراح، انه تهويم في سحب اللامحسوس للنظر إلى الواقع المؤلم الذي يعيشه الإنسان العربي من جهة فوقية علوية تستقطب من منظورها كل هموم الحياة ومشاكلها، وتستبطن جراحات المجتمع ونزفه وتستقرئ هواجسهم وركام سحبهم الداكنة، ومن هنا ندرك هذه التقابلية اللفظية في تراكيب الخطاب الشعري وبنيته اللغوية، ومدى انعكاسها على رؤى الشاعر المادية والمعنوية على حد سواء.
استمع إليه يقول عن هذا اللون المميز الذي يكسب كل الأشياء لونا بلون وجه ابن الصحراء الذي لفحته الشمس ولوحته بحرارتها فامتزج بتراب صحرائها معجونا بالعرق المتفصد من جبهته ولما يجف بعد:
رماديا كان الحرف، اللغة، الميزان، الإنسان، الطائر، والتاجر والصاغة والنسوة إذ يتوالدان وما ينجبن رمادي الوجه،
الساحل والقاحل من يفني في أودية متشاجرة،من يمشي، من يتبخر، والموت رمادي فاصعد..اصعد يا حبة قلبي، اصعد..أنت المدعو: سليل الصحراء، المتوارث مجد الضربعلانية في غاربها،بدو في بدنك يبتردون عطاشى،ورعاة الأرض على ظهرك يرعون..
هكذا انتهت الجملة الشعرية متطاولة البناء شامخة المضمون عميقة التجربة، رصد فيها الشاعر كما هائلا من الرؤى الداخلية المركبة التي تسيطر على أعماقه، هذه الرؤى التي تتحول في لغته إلى نوع من الازدواجية المتسلطة التي لا تنفك ملازمة لخطابة الشعري، فهو ينقل لنا بحدسية الشاعر المرهف الشفاف الذي أرهقته مواجع الناس وهدته أحلامهم وطموحاتهم الذي لونتها حرارة الشمس في صحراء أعمارهم وأكسبتها هذا اللون المتميز الذي أصبح رمزا يفتخر به ابن الصحراء ويوسم به الحرف واللغة والميزان والإنسان والطائر والتاجر.. وكل مكونات الحياة وعناصرها وصانعيها.
أنه ينقل لنا هذه الصورة التقابلية في شكل تضادات لغوية ومتساوقة في تناغمها الموسيقي والمتداخلة في جزئيتاها ومكونتها بحيث لا يمكن الفصل بين عناصرها لأنها متوحدة مترابطة إلى حد التمازج استمع إليه قائلا:
أنت الباطن والصاعد في الأرضوالنازل في الرمل، المرتحل على زلزلة في القلب، المدثربالرغبات الأولى: أن تعرفوترى وتشك..هذا الشك يقين..
ويتواصل الشاعر والوطن أغنية بتردد صداها في مسامع الزمن وتنبعث أنغامها ترانيم صداه لا ينقطع، أنها المعاناة ومشاق الارتحال عبر مرافئ الحياة، أنها "هواجس في طقس الوطن".
في هذه القصيدة تبدو على شاعرنا ملامح التعب، وقد أثقلت الهموم والمواجع كاهله، وطفحت أعماقه بأحاسيس الأسى والحزن على وطن يبحث فيه الشاعر عن متسع له ليستريح من عناء الارتحال الموجع، إن الشاعر رغم امتداد الوطن وترامي أطرافه يبحث عن محطة ليحط فيها رحاله ليريح ويستريح من صراعه مع الغربة والعزلة الذاتية التي تملكت عليه نفسه، استمع إليه يئن معتذرا إلى الوطن:
قد جئت معتذرا ما في فمي خبررجلاي أتعبها الترحال والسفرملت يداي تباريح الأسى ووعتعيناي قاتلها ما خانها بصرإن جئت يا وطني هل فيك متسعكي نستريح ويهمي فوقنا المطروهل لصدرك أن يحنو فيمنحنيوسادة، حلما في قيظه شجر
إن هموم الشاعر وموجعه وهواجسه التي لا تنتهي تصدر عن معينين، معين الذات التي أقلت بالألم وتباريح الأسى وأرهقها الترحال والسفر بحثا عن ملاذ آمن بعد طول اغتراب داخل الأنا، ومعين أكثر التصاقا من ذات الشاعر نفسه ـ أن صح التعبير ـ إنه المعين الأساسي الذي يمده بكل الطاقات والأحاسيس إنه الوطن بكل ما تحمل هذه البنية في أحشائها من دلالات، ومن خلال هذه الآلام والمواجع التي تعشش في دواخل الشاعر وتكاد تصهره في حمئها المجنون ندرك مدى التصاقه بالوطن وتوحدهما معا، هذا الوطن الذي غدا دما تنبض به شرايينه، هذا الوطن الذي هو هاجسه وهمه ومأواه وملاذه عندما تضيق به السبل ويقفل راجعا من عناء الرحلة ووحشة الاغتراب، غير أن الشاعر يطمح في عطاء الوطن ويتلهف في تشوق أن يمنحه الدفء والحب والحنان الذي يفجر في أعماقه أهازيج أوشكت أن يتلاشى صداها فها هو يقول:
يا نازلا في دمى انهض وخذ بيديصحوى والتم في عينيّ يا سهرواجمع شتات فمي واغزل مواجعهقصيدة في يد أسرى بها وتروأفضح طفولتي الملقاة فوق يدتهتز ما ناشها خوف ولا كبروصب لي عطش الصحراء في بدنيوأسكب رمال الغضا جوعا فانحدر
إن عشق الشاعر لوطنه وحبه له وتلهفه عليه إلى حد الهوس والاستبداد، هذا الوطن الذي يسري حبه في عروق أبنائه وتختلط ذرات ترابه بكل ذرة من أجساد بنية دفع الشاعر بمطالبة الوطن أن يمنحه البصر الذي يراه به والأوردة التي يسري فيها حب الوطن مع دمائه، وما هذا الإلحاح في الطلب وذلك التوسل إليه إلا شاهد من شواهد كثيرة على مدى التصاق الشاعر بوطنه وغيرته وحبه المتفاني له، استمع إليه هاتفا:
أيها الوطن المتعالي بهامات أجدادناأيها المستبد بنا لهفة وهوىأيها المتحفز في دمناوالمتوزع في كل ذراتناأعطنا بصرا كي نراك، وأوردة كي تمر بنا،فيه نلقى مساء جميلا، قرنفلة في عرى ثوبك الأبيض المتسربلضوءا لنمشي أيا أيها الوطن المتعالي إذا ما ارتداناالظلام إليك.
ومن خلال الجملة الشعرية السابقة ندرك مدى قدرة الشاعر على استخدام لغة الخيال الشعري استخداما جميلا واعيا، فقد راوح بين تلك القوى السحرية والتركيبية وبين الإرادة الواعية، وفي داخله ثم التوحد بينه وبين المعطيات الخارجية المتمثلة في الوطن بكل أبعاده وتفاصيله وعشق الشاعر له ـ وعن طريق تجمع هذه المستوعبات والمشاعر ـ أستطاع الشاعر أن يعمل خياله من أجل خلق بناء فني خيالي متكامل نراه في استبداد الوطن به حبا ولهفة، كما نراه متحفزا في دمه ومتوزعا في كل ذرات جسمه، فاستعارة الشاعر في قوله:
أيها المستبد بنا لهفة وهوىأيها المتحفز في دمناوالمتوزع في كل ذراتنا
لا تقف عند حد المشاكلة والتزام وجه الشبه بين جزئيها، وإنما تتعدى هذا إلى مجموعات من الدلالات والسياقات العديدة غير مجرد الدلالة المنطقية والذهنية، ومع هذا فإن هذه الدلالات وإن كانت قريبة التأني ومستنتجة بطريقة عقلية مدركة إلا أنها تعتمد فيما تعتمد على نشاط خيالي مركب واسع وخلاق في عملية تجميع الصورة الفنية ولملمة شتاتها، استمع إليه يقول في جملة شعرية أخرى من نفس القصيدة مخاطبا الوطن وقد تصور فيه أنسانا يتمتع بكل المدركات:
أنني واقف وخلف ظهرك مفتتحا وجعي باعتذار المحبينحين يطول النوىخاشعا من محياك يا وطنا نتعالى به، غيمنا إذيجف بنا الورد، سلوتنا في مساء التغربفي الصبح وردتنا ورغيف الفقير، وأنت البسيط البسيطفقل للعصافير إن الفضاء مديح أتساعلعينيك كي لا تطير، فإن العصافير خائفة،فكن وطني ممعنا في الهدوء لكي تعتلى ذروتك.
ويبلغ تواصل الشاعر والوطن الذروة وجدا وحبا وغيرة وهموما ومواجع، فينطلق من حدود الوطن الأم وأطره إلى مدى أرحب وأوسع يهيم في رحاب القومية والعروبة ينسرب في تجاويفها ويذوب في حبها إنه الوطن العربي الكبير بكل معطياته يكشف رموزه وأوسمته ويبرز معاناته وآلامه منصهرا في أتونة إلى حد التلاشي أنها أسطورة وملحمة الشعب الذي نفض عن عينيه الغبار وحطم كل أسوار الأغلال وهب منتفضا سلاحه الإيمان وعدته الحجر، هذا الذي أصبح سيد وقتنا هذا ورمزا من رموز الشعب الفلسطيني الصامد في وجه الصهيونية.
أنها قصيدة الحجر الذي استطاع فيها الشاعر بإحساساته المرهفة وعاطفته الصادقة ونبل تجربته أن يدرك ويستشعر بحدسه وتميزه الحسي وسبره لأعماق التجارب الإنسانية أن يصل إلى شيء من الحلم الذي غدا حقيقة، إنها قصة الحجر الفلسطيني استمع إليه يهزج متفاخرا
هو الحجر الفلسطينيسيد وقتنا هذا..وأجمل ما يزف به الحبيب إلى الحبيبةيبارك أرضها رب السموات الجميلة..ما خانت ولا لانتولا أعطت مفاتنها لقبعة الصديدأحبك يا زمان الرفض أحبك
في هذه السممفونية الرائعة، وكم هي رائعة حقا لا أقولها مجاملا، ولكني أقولها بحدسية الشاعر الذي تميز أذنه السمين من الغث والجيد من الهزيل ـ يكشف الشاعر عن قيمة الحجر الذي كان ولا يزال لا قيمة له في كل الأحوال والظروف أعني تلك القيمة التي جعلت منه رمزا يبهر أنظار العالم في كل مكان.
إن انطلاقة الشاعر في هذه القصيدة، ومن خلال التداعيات التي مرت فيها القضية الفلسطينية ـ بدءا بنكبة 1948 م وانتهاء بانتفاضة الشعب المحطم الذي هب متفجرا كالبركان ليدمر كل ما حوله سلاحه الحجر، الحجر الرمز، الحجر الفلسطيني، يرى أنه لا جدوى لأي عمل وطني دون أن يتفجر الداخل، من داخل الوطن وداخل المواطن.
فالحجر الفلسطيني من منظور الشاعر، هذا المنظور الواعي المدرك لحقيقة الأشياء أصبح سيدا لهذا الزمان، وهو أجمل ما يمكن أن يقدمه حبيب إلى حبيبته في ليلة زفافها، أنه الرمز الذي تعيش من أجله الأجيال المتواصلة، أستمع إليه يقول:
أحبك يا زمان الرفض أحبكأول الإسراء أنت وأخر الإسراء: أسراء الحجارهْللحجارة والبيوت قلادة من رفضهو الحجر الفلسطينيسيد من يجئ ومن يروح،ومن سيصرخ بين مبنى الأمن والفيتو.
ونحن عندما نقرأ هذا الخطاب الشعري قراءة متأنية مدركة نستشعر مدى حضور العاطفة الصحيحة فيها، عاطفة يصدر فيها الشاعر عن طبع إنساني صحيح، ويعبر عن أفكار بعيدة الغور متنحيا عن التسطيح الذي لا يبعث في النفوس غير السأم والملل، كما نلمس فيها رحابة تلك العاطفة وسعتها وتوجهها، فالشاعر يعبر عن إحساس إنساني شامل وموقف وطني متفتح، استمع إليه يقول:
تحدث مرة حجر فلسطيني يسأل جاره العربيهل مرت بسمعك قصة الحجر الفلسطيني !أغنية الشموس إلى الشموسمن شاف الأغاني؟ومن طارت بداخله الحمامة؟
إن الشاعر يوائم بين الرفض وحب السلام، رفضه لكل عناصر الظلم والاستبداد ووأود الحريات في النفوس وقتل الأمل في الذات الإنسانية، وعشقه للسلم والمحبة والألفة والوئام، إنه تشاكل يتنازع أحاسيس الشاعر وعواطفه فيفجرها غضبا وحبا في آن واحد.
ويمسخنا زمانك أيها "الفيتو"يحولنا إلى حجر بليد يشبه ذلك الحجر الشهيدهو الحجر الفلسطيني: زاد الكف، رقم حسابهاالسري، تاريخ تحرك نحو أبواب البلاد ودقأقواها وصاح به أنا الحجر الفلسطيني
فالقصيدة في مجملها تدرج من الاستهلال إلى الخاتمة، وعناية الشاعر بالمشاعر الداخلية، وحصره للصور الحسية ـ ممثلة في الحجر الفلسطيني والصبار والبيوت والحبيب والحبيبة، والتي غدت كلها رمزا للعطاء الفلسطيني المتواصل ضد الظلم والاضطهاد ـ في تلك الدلالات النفسية وإيجازها بتكثيف التجربة الشعرية دون الميل إلى العبارات المترهلة الفضفاضة، أو الجمل الحماسية الرنانة ذات الجرس الخطابي فقد بلغت ذروة الصدق النفسي، والمهارة الفنية المتأصلة.
الحلقة الثانية:
ثانيا: إشكالية الإغراق في الرمز مداخلة تنظيرية بادئ ذي بدأ يحسن بنا إن نلمح ولو بإيجاز شديد إلى مفهوم الرمز أو الغموض في الخطاب الشعري حتى تتسنى لنا عملية التطبيق عند قرأتنا لبقية قصائد الديوان التي أتسمت من منظورا بالرمزية والغموض.
يقول أحد الباحثين الرمز تركيب لفظي أساسه الإيحاء عن طريق التشابه بما لا يمكن تحديده بحيث تتخطى عناصره اللفظية كل حدود التقرير موحدة بين أمشاج الشعور والفكر، والرمز نوع من الخيال الموغل في التحليق والتجنيح في عوامل الرؤى اللا شعورية، وهو وميض يشع في أعماق الشاعر يصرفه عن حقائق الواقع إلى أجواء سحرية يصبح فيها إحساسه الواعي غير منضبط السيطرة على التوازن المدرك للأشياء وحقائقها، ويصبح الخطاب الشعري عنده مجرد بنى وتراكيب أوشكت أن تفقد السيطرة على مضمون ذلك الخطاب، غير أنه في بعض الأحيان يكون رابطا قليلا بين الوعي واللاشعور وهذا النوع من الرمز أراه شيئا من العبثية التي تنهك صاحبها فحسب.
أما إذا وازن الشاعر في ربطه بين الوعي واللاشعور دون إسراف أو إغراق في الغموض بحيث لا يصل الرمز إلى أحد التعتيم والألغاز يكون مقبولا، بل محببا إلى نفس المتلقي الذي يملك ناصية الثقافة وحضور الوعي الأدبي. فالرمز لا ينبغي أن يكون مجرد إشارة تاريخية عابرة أو تلاعب بالألفاظ أو بنى وتراكيب لغوية يعتورها الخلل وإنما يجب أن يكون طاقة من التعبيرات والدلالات لا أول لها ولا أخر إنها بناء لغوي متكامل يحشد فيه الشاعر كما هائلا من الألفاظ بعضها يحمل دلالات والأخر يفتقد لها، ومن هنا يمكننا القول أن الرمز المقبول والذي يضفي على العمل الفني لونا من الفنية الجميلة التي تحرك في نفس المتلقي بواعث العطاء الإدراكي وتحثه على أن يكون متواصل الحضور الثقافي كي يدرك ما ترجمه الشاعر في قصيدته، إنه الرمز الذي يتلاحم مع بنية القصيدة ويتوحد مع مضمونها يراوح الشاعر بينهما قدر جهده، أما إذا أنفصل الرمز عن جسد القصيدة لتصبح عارية لا مضمون فيها، أو جعل مضمونها فتاتا ممزقا لا يمكن تلاحمه مع بعضه بعضا يغدو الرمز شيئا مقيتا يود القارئ لو لم ينفق الشاعر فيه وقته وجهده جريا وراء لا شيء.
إن الرمز الذي لا إشكالية فيه، هو الرمز الشفاف النقي الذي تستطيع بعد إمعان النظر فيه أن تصل إلى سبر أعماقه شيئا فشيئا، وهو الرمز الذي يتيح لنا أن نتأمل شيئا أخر وراء النص قبل كل معنى خفي وإيحاء. إنه اللغة التي تبدأ حين تنتهي القصيدة، إنه البرق الذي يتيح للوعي أن يستشف عالما لا حدود له، لذلك هو إضاءة للوجود المعتم واندفاع صوب الجوهر، وقد أصبح الرمز سمة بارزة من سمات الشعر الحداثي لا في المملكة العربية السعودية فحسب، بل عند عامة الشعراء العرب المعاصرين على امتداد العقود الأربعة الأخيرة من القرن العشرين فإذا ما ألمحنا عن الرمزية في الخطاب الشعري عند الشعراء السعوديين الشباب نقول: إن معظم قصائدهم تميزت كغيرهم من الشعراء العرب الذين يمارسون هذا اللون من الشعر بالرمزية المفرطة التي بلغت حد الغموض، وأصبحت تمثل إشكالية بالغة يستعصي حلها لا على النقاد والباحثين والدارسين فحسب، بل على الشعراء أنفسهم، فالشاعر الذي يكتب القصيدة الحرة ما أن يفرغ من كتباتها ثم يعاود قراءتها يحس بينه وبين نفسه أنه لا يكاد يعي أو يسبر معا ما حشد من بنى وتراكيب لغوية، ووجد مضامينه التي أراد نقلها إلى القارئ قد تلاشت وذابت تحت جليد الغموض الذي تصوره إبداعا سيبهر به أعين القارئين، وبات ما كتبه يشكل نوعا من الإبهام المطلق الذي لا يدرك كنهه ولا يستوعب معانيه.
وإذا ما حاولنا أن نتلمس الدوافع التي قد تحمل بعض الشعراء إلى التحليق والاختفاء خلف سحب الرمز، والإبحار في لججه وأعماقه يمكننا القول إنها تعود إلى عدة عوامل مجتمعة مع بعضها البعض تشكل فيما بينها نسيجا عنكبوتيا يأسر الشاعر ويلقي به في تجاويف المتاهة الرمزية.
وأول هذه الدوافع: يكمن في الصعوبة المعرفية المباشرة باعتبار أن حالات النفس حالات مركبة غير واضحة بطبيعتها، فليس أمام الشاعر إلا أن يعرفها معرفة حدثية، وأن يعبر عنها بنفس الطريقة أي بتعبير حدسي أساسه الإيحاء، ونلحظ هذا التعبير الحدسي في قول الشاعر:
لماذا صمت هذه الخميسوأنت كتبت شيئا أمس نمت على ذراعي،إذ حلمت بأن بعض الكون شيء غامض لطفولة تأتيوهمسة مرتاعا: سيأتي بعدنا زمن تقل به النساء،حتى لا يصير هناك رحمفالتناسل صار ظاهرة تقل وليس عناك حل،
وثاني هذه الدوافع: أن النفس البشرية وحدة متكاملة، وأن وسائل الإدراك وإن تعددت تتشابه من حيث وحد الأثر النفسي.. من هناك يصبح ممكن أن نعبر عن أثر معين يدخل في مجال أحدى الحواس عن طريق استخدام لفظ نستمده من مجال حسي أخر، ويغدو المرئي مسموعا، وهكذا مما يخلق جوا إيحائيا بعيد المدى، ونلمح هذا في قوله:
أتوب إلى عاشقويمين محلفةنخلة تهمس إذ يهجع الليلتدنى لذائذها لفقيررغيف من الحزن كانت يدي حين جاء على نعمة النوم،حط على جفني المتورم قلت أحدثكم حين تمسون عن زائر المنام،له سحنة الشيخ، قد كنت أعرفهذات يوم التقينا على حطب من مساءلة بين..
وثالث هذه الدوافع: التعبير عن الرفض غير المباشر لواقع ما، وهو رفض يأخذ صورا تختلف أشكالها وتتعمق مضامينها وجواهرها، فكثيرا ما كان الرمز نقدا وفي بعض الأحيان يتخذ الرمز شكل التمرد الحاسم ضد بعض النظم والقوانين والقيم التي ترفضها النفس البشرية خصوصا هذه الذي تعاني من بعض العقد النفسية الناجمة عن العزلة الاجتماعية ويمكننا أن نستشف بعض هذا الذي ذكرنا من قوله:
أنا عاشقنصف مرتهنونصف طليق يفتش عن قيدهقلت مرتهنها ثياب من الأسر ألبسها..أنا صرت مثل الأصابع والنارأتركها..يترافع في بدني ولد اسمه الشك،يوسف في الجب، سلوته نصف إغماءة ونشيجأنا عاشقوالمدينة مزرعة للضجيج كيف نكتب هذا؟يوسف في الحبوأنا نصف مرتهنوالمدينة متزرة من خطايا ودم
ورابع الدوافع: الضياع الذي يعاني منه الشاعر في عصرنا الحديث حيث يبحث الشاعر عن ذاته فلا يجدها بين ركامات المجتمع الذي تتعاوره كثير من القيم المتناقضة، فهو صراع بين الخير والشر والحب والكره، والحق والباطل مما يجعل الشاعر ضائعا بين تلك الصراعات استمع إليه يقول:
ولد على شك، وغربته اتساع الحلم،
سلوته قصيدته ومنحدر من البدو الذين تكسرت في ظعنهم بيداؤهم
إذ قوضت تلك الرياح خيامهم فإذا بهم حتف.
وخامس الدوافع: أن مسألة الغموض أو الإغراق في الرمز ليست متولدة عن صعوبة في بنية الخطاب الشعري أو الإبداع الفني، بقدر ما هي متأتية عن موقف فكري معين.
وسادسها: هو لجوء الشاعر إلى استقراء التاريخ والتراث الفكري والتغلغل في رموزه الشعبية وأساطيره الحبلى بالخرافات والجنس والموت والرحلة، ثم يستوحي من كل ما سبق ما يتواءم مع مشاعره الحسية ووعيه الفني ليحيك لنا لونا جديدا من الحكايا المليحة في غلالة من الرمز، ولا أظنه رمزا مغرقا في الغموض بل يتسم بالتلميح والمداراة حتى لا يصطدم الشاعر بقيم المجتمع الرافضة أحيانا لكل ما هو جديد وغير مألوف.
وقد أطلق بعض النقاد الغربيين على هذا النوع من الرمز الذي يستحضر فيه الشاعر الأساطير والأقاصيص الشعبية القديمة بالرموز التقليدية، وهو إلى جانب ذلك رمز خارق للطبيعة التي يهتدي إليها الشاعر عن طريق مزجه بين الحقيقة والخيال في نوع من الرؤية، وبالرمز التقليدي والرؤية تتفتح مغاليق الحياة اللاواعية وتصل إلى منابع الخيال المبدع.
ونلمح هذا الرمز المتولد عن استخدام الشاعر للاسطورة في قصيدة " أسطورة " التي استحضرها من أدبنا العربي القديم..
قالوا هذا الحسن الطافح في عيني ليلى..من أين أتاها؟هذا الوشم الساقط دوما في كف امرأة غجريهْ..من سواه بكفيها؟هذا الغضب المشرع في وجه رجال القريةمن نماه بعينيها؟من علم ليلي أن تسكن في صدر رجلْ؟أن تختلط بأنفاسهأن تنسي خجل الأنثى؟قال الشيخ الواقف في وسط الحلبةلم لا نقطع أصل العشق فننجوهذى شجرته المزروعة في درب القريةقصوها عن أخر جذر حتى لا تخرج ليلى أخرىكي تستوطن صدر رجل.
وبهذه الرؤى الحرة حاول الشاعر اكتشاف العقلية الجديدة والتعبير عنها بلغة شعرية متحررة في بنائها وفي إيقاعها..
فقد تحرر من بنية القصيدة المحافظة وموسيقاها التقليدية القائمة على تفعيله الخليل ابن أحمد، وكذلك من القافية الرتيبة التي تحد من انطلاقته الشعرية..
ومن تتبعنا لقصائد الديوان التي اتسمت بالرمزية والإفراط في الغموض نجد معظمها قد تحرر من المضمون كما تحرر من الزمن.. فالزمنية مفقودة الحلقات في كثير من القصائد المرموزة بل يمكننا القول بأن هذه القصائد أصبحت متحررة حتى من حرارة العاطفة المسرفة وحلت الوحدة السيمفونية بين أجزاء القصيدة كما يقول " مالارميه " أبهاما على القارئ أن يعثر على مفتاحه، ولنستمع إليه يقول في قصيدة هذيان:
كنت أحدثكموقلت سأشرق يا وجه زائر النومعلمني أن أغنيك يا حجرا في الجنوب ينام وينعستحتشد الصبح نعناعة في نتوءاتهتحدثه من حديث الندى جملتينوتسأله أن يكون وسيما..ومعذرةثم يقول في جملة شعرية أخرى:كنت أحدثكم ونسيت بأني أحدثكم عن رؤى في المنامعن امرأة حملت وطنا في يدهاكلمني ـ وقتها؟ ـ بلبل الوقت عن وطن وغزاةوصد وكر وفرمهاجمه بين جيشينمعركة من غبار.
من خلال الجملتين الشعريتين اللتين اقتبسناهما من قصيدة " هذيان " وما توسطهما من جمل شعرية أخرى نلمح أن الشاعر لم يكن حاضر الوعي الشعري، فهو ـ كما يقول ـ يهذي ويتحدث عن رؤى في المنام، لذلك نجد أن كل جزئيه من جزئيات الرمز ليست لها قيمة في ذاتها بل أن قيمتها تدرك من خلال وظيفتها الإيحائية في البناء العام للرمز، فكل من الحجر والنوم والنعاس والندى والمرأة التي حملت موطنا في يدها، والبلبل والجيشين والمعركة من الغبار لا يعني منفردا ودون ربطة ببعض من خلال البناء الشعري أكثر من دلالته الوضعية المعجمية، ولكنه إذا ما انتظم في بناء القصيدة وغدا عضوا حيا في جسد الرمز يكون له معان كثيرة نستوحيها من السياق..
كما أننا نحس بهذا التفكك في البنية الأساسية للقصيدة من خلال التعبير عن حالة من فقدان الربط بين اللاشعور والوعي، حالة غياب العقل وإطلاق العنان للاشعور كي يبوح بمخزونه وينطق بمحتواه..
فغدت الجمل الشعرية مبعثرة لا روابط بين أجزائها، فهي مفتقرة إلى كثير من حروف الربط التي تشد من بناء القصيدة، كما يتخللها كثير من الجمل الاعتراضية وأفعال القول التي تؤكد أن الشاعر لم يكن آنذاك يملك التوازن الواعي حتى يربط بين جزئيات الرمز، ونلحظ ذلك في قوله وقد أكثر من الجمل الاعتراضية:
كنت أحدثكموأعرفه ـ حزنك المتوحد ـ تسألهم عن حديث الذي يدثر بالخوصكي لا يري الناس سوأته..كلمني ـ وقتها ـ بلبل الوقت عن وطن وغزاةوصد وكر وفر تبحث أرحلكم عن لآلأو حكايات ـ لا بأس ـ تسكنها سحنة الشيخ.أما الإكثار من فعل القول فندركه في قوله:حط على جفني المتورم، قلت أحدثكم..قلت: أعرفه قد تدلى الكلام الجميلوصار لشكل فراغ الأواني ظلالا تؤرقهم أو تؤرخهمكنت أحدثكم وقلت سأشرق يا وجه زائر النومقلت أحدثكمللحديث انقطاع عن الناسإني صحوت عن الهرج والمرجمتكئا فوق سورمن الشكوالهذيان
ومن المنطلق السابق ندرك أن القيمة الأسلوبية للرمز لا يمكن أن تتحقق من خلال البنية المفردة أو التراكيب البنائية البسيطة الساذجة القاصرة عن التعبير الفني الموحي، ولذلك فإن العمل الشعري يكون أكثر أحكاما ودقة متى تآزرت فيه الرموز الجزئية وتلاحمت تلاحما كليا يمتد على رقعة الخطاب الشعري ليخلق فيه نبضا شعريا شاملا..
وخلاصة القول إن مسألة الغموض تبقى مسألة نسبية عند شعراء الرمز فمنهم من يستحضرها ليضفي على الخطاب الشعري نكهة لذيذة تفتح شهية المتلقي وتجبره على التفاعل معها بحضور ثقافي واع، ومنهم من يتخذها غاية لذاتها يبني منها وهما مضطربا لا يحوي إلا رؤى شوهاء تحط من قيمة العمل الفني وفي رأيي المتواضع أنه لا يلجأ إلى هذا النوع من الرمز إلا أحد اثنين: واحد لا يملك ناصية الخطاب الشعري ولا مقوماته الفنية فيتخذ من الرمز الممقوت ستارا يخفي وراءه عجزه عن الإبداع خصوصا هؤلاء المتشاعرين الذين لا يملكون أدوات العمل الفني وخصوصياته، والأخر هو ذلك الشاعر المتمكن ولكنه يحمل في دواخله الواعية أيدلوجية معينة يصدر عنها غير أنه يخشى البوح بها فيلفها في لفافات من التبغ المسمومة ويصدرها إلى من يعشق التدخين.
كانت هذه آخر محطة استرحت فيها وأخواني في ديوان شاعرنا عبد الله الصيخان دون ملل أو كلل أملا منهم ألا يقسون عليّ عند مشاركتي القراءة، وإن يغفروا لي زلات لساني وكبوات قلمي وأن يستدركوا ما فاتني بفطنتهم وحضورهم الواعي على أمل اللقاء في قراءة قادمة وديوان شعر جديد بإذن الله.