الخميس ٢٦ شباط (فبراير) ٢٠٠٩

وتبقى القصيدة... وبغداد

بقلم: تيسير ياسين

كان الحزن الجاثم على المدينة هو الذي أجج بداخلي نيران الغضب، شوارع خالية وكئيبة، عمارات وبيوت مظلمة تماما، والساعة لم تتجاوز التاسعة مساء.

لم أسمع سوى الصوت الذي يتردد في داخلي وكان جناحا . . . صاخبا . . . عارما، انتهيت بعدها إلى أشارة مرورية أمامي، في وسطها آلة موسيقية، وعليها شريط أحمر، دلالة المنع.

من جنوني، هرولت إليها، انقض عليها، أسقطها أرضا . . . وأخذت أرفسها حتى سمعتُ صراخها وأنينها ودموعها تنهمر، تقول بصوت مبحوح متحشرج: اتركني، أقول لك اتركني . . أنتم الشعراء - صحيح أنكم تكتبون شعر الحب ولو أنكم ملكتم العالم زرعتموه بالورود والياسمين- طبعا هذا بالأحلام في هذا الزمن، وأيضا لم تقتلوا بعوضة، لأن قصائدكم كقطع خشبية.
بُعيد دقائق، جُمدت في مكاني، أذهلني وأرعبني قولها، فوقفت ألهث جسد الإشارة، إذ بدأت اسمع أنين بغداد . . . وهي تملأ بشجوها الفضاء كله . . . يا للروعة رغم قسوة التناقض.

يا لها من روعة في مقلتي تلك الإشارة، إنني أرى فيها عيون بغداد، أيقظت في داخلي شيئا جميلا . . . بعد أن كان موتا ثم أحياه الحب والشوق إلى نخيل بغداد، لكن يا بغداد . . كم تغيرت ترانيم وتقاطيع عينيك ووجهك، بعد خمس سنوات، وأنا لا أرى فيهما إلا الكحل الأسود، وصورة الحرب والدم والقتل، والعجائز، وسماسرة الحروب وتجارها . . أين هم الأزواج، والعشاق، والمحبين على ضفتي دجلة والفرات، وأنغام الصباح، وموسيقى المقاهي، ومقامات البغدادي، وسحر المواويل وشجن ناظم الغزالي والياس خضر . . . وكلام السّياب.

لكن بغداد لم تجبيني عن كل تساؤلاتي، هرعت من رصيف إلى آخر ملوحا لأي شيء عابر، لأسال، لماذا لم تجبني بغداد، بعد أن أحكمت قبضتي على الإشارة الحمراء.

حاولت أن أسال كلاب وقطط الليل، حتى الفئران، لم يكن في المكان من جنس البشر أحد، إلا أنا في الشارع الممتد من رأسي إلى قدمي، لألفت انتباه العالم كله إلى هذه المعركة المريرة التي لا يراها أحد سواي.

إلى هذه الفوضى المحيرة من المعاني والانفعالات والكوابيس . . كل هذا انتابني بشكل سريع.

لكنني أحسست بعد فترة قصيرة من وقت اللعبة، أن ما بي كان أشد وعورة من أن تحتمله لهجتي العاطفية آنذاك . . وأخذتني الشفقة تدفعني نحو الإشارة الحمراء . . فلما رأيتها تحتضر بكلامها الأخير، ألا أشفقت علّي . . ترددها بلهجة طاغية . . أنا بغداد، أنا الحب والله أنا بغداد، فدع لومك عني وأرفق بنفسك، فأرجوك لا تبتعد عن حرف الأبجدية.

بعد كل ذلك جلست على أنفاس الطريق، أتقبل التعازي من بعوض وكلاب الليل . . وإحساسي المرتبك وجسدي المتكسر.
وبعد أن ذهبت وتركت جثتها ملقاة على الأرض لعدم وجود مكان لدفنها، وبعد أن ضاقت الأرض بقبر لها، وكل صور العالم مفعمة بالغرابة، وعقارب الساعة تندفع من الخلف إلى الأمام على غير رغبتها نحو ليل كاسح . . . قرأت الفاتحة على روح الإشارة عشر مرات، وأخذت أصلي وأقرأ سورة الملك عليها . . فما الذنب الذي دعاني إلى أن أقتل نفسي وصور بغداد.
فعذرا منك أيتها الإشارة ورحمة من الله عليكِ، ألا أن إنكار بغداد لذاتها في البداية هو الذي أرقني.

بقلم: تيسير ياسين

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى