الأحد ٢٦ آب (أغسطس) ٢٠١٢
بقلم عبد الله المتقي

قراءة في «رعشات» سناء بلحور

" عراة إلا من كلمات
يضيق بنا معطف غوغول
و لا تضيق بنا العبارة "
إكرام عبدي

***

من الأصوات القصصية المغربية بالمهجر التي تنحت اسمها بصبر في سماء مشهدنا القصصي المغربي المعاصر،و حظيت بالاهتمام ولها حضورها ورقيا ورقميا القاصة سناء بلحور المقيمة ببلجيكا .
باكورة هذه القاصة مجموعة قصص قصيرة جدا بعنوان ( رعشات) الصادرة عن دار التنوخي لعام 2012 ، وتقع في 68صفحة ، تضم قصصا قصيرة جدا ، وبذلك تكون القاصة قد اختارت الكتابة الأصعب ، لأن كاتب القصة القصيرة جدا هنا أمام علاقة باللغة يمكن وصفها بالزهد اللغوي ، كما ثمة حد سري خفي وضبابي تبلغه اللغة في أعلى درجات اختزالها .

ومن يقرأ ومضات هذه المجموعة القصصية يحس بمساحة نضج البدايات، وكما لو أن القاصة عاقرت قصصها زمنا طويلا، كتبتها وتهيبت أمامها قبل أن تلمها وتصدره بين دفتي كتاب قصصي تسمه ب ( رعشات ) .، ذلك أن هذه القاصة الواعدة تقترح برنامجا جماليا يرشح بالإقامة القلقة ، وبألم الأنوثة ، وبعين عدم الرضى في عالم يلفه الانكسار والموت ويفتقد لشهوة القبض على تفاصيل اللذة الغير الممكنة في الواقع والممكنة في أحلام القصة .

دلالة العنوان

يعتبر العنوان بؤرة دلالية يختارها القاص دون غيرها من الكلمات ، إذ هي مفتاح السر ونيته ، وعنوان المجموعة القصصية لسناء بلحور " رعشات " ، يتكون من مفردة في حالة التنكير ، ويأتي تذكير المفردة ليضمها في فضاء وأفق أوسع في الدلالة والايحاء .

والحالة هذه ، يجعلنا العنوان منذ البداية أمام كلمة تعني في قواميس اللغة، الارتجاف والاضطراب ، ورعش من الحمى أي ارتعد ، لكن هذه المعطيات التقريرية والباردة للقواميس ، ريثما تورطنا في إيحاءات وبدلالات تتعدد بتعدد حمى الكتابة ، القبض على الحياة ، وتأجيل الموت ، لتتحول الارتعاش البيولوجية إلى ارتعاشة قصصية ، ومن ارتجافة الخوف الى بوح
" من قصة كتابة 20جاءت الكلمات تتهافت ، تقبل أصابعه البهية كي يضاجعها ، ركبته رعشة ..صار يتحسس القلم ، الكلمات تلعق أظافره ، غاب ... حضر ، وسال حبر القلب على لبياض "

ريثما تحول الارتعاشة من حمى بيولوجية إلى حمى الكتابة ، ومن ارتجاف من الخوف الى رعشات من الحب في ذروته ماء ص 16 " تتصفح ألبوم الصور ... أناملها ترتعش ..داعبت ملامح وجهه .. شعرت بقشعريرة ..ابتسمت الصورة ، فتوهج وجهها وشعرت بعطش شديد
وعموما فإننا نفترض أن عنوان المجموعة يكشف لنا الحركة المتحكمة في القصص ، فالكتابة في رعشات تؤدي إلى رعشة من الحب المنفلت ، كما تحكي حمى الحمى تليها محرقة شبيهة بمحرقة طائر الفينق الذي يقوم من رماده منتصب القامة ، فيتولد عن ذلك ما يمجد الحبر والحلم بما ينبغي أن يكون .

مكون الموت

يحضر الموت في " رعشات " كالعديد من نصوص القصاصين / وهذه تيمة ماثلة لدى جيل بأكمله شهد الهزائم تلو الهزائم ، كما خبر النكسات واصطدم بكثير من الخسارات المفجعة .

تفتتح سناء بلحور رعشاتها بإهداء يفصح عن الموت وهكذا " إلى روح أمي " ، إذ يتحول موت الأم في قصة " موت ص 11" إلى عنف مركب ، عنف الموت باعتباره فعلا ماديا وممارسة ملموسة ، عنف زواج الأب ، ثم عنف المحيطين وجفائهم باعتباره إقصاء وتهميشا نقرأ:" هي تشعر بعنف الغياب ، بعد وفاة أمها ، هي تشعر بعنف الغياب ، بعد زواج أبيها ، هي تشعر بعنف الغياب رغم كل المحيطين بها ، كلما استداروا ، أدركت آنذاك أنهم بأسماع صماء ".

هكذا يتقدم الموت عار من الحياة ، وحاف من الرحمة ، في قصة " تخل " ص 15 ، " " أصحابه نسوه في صحراء لا ماء فيها ، شعر بقدميه تنسحبان من تحته ، بدت له أمه بثدي عار يفيض منه سيل من حليب منعش ، فتح فاه كي يستقبل الحياة ، فخرج منه دخان رقيق ، سقط ومات " ، نفس الميتات المؤلمة والقاسية نصادفها قصص " ذكريات " ، " شبح"، " جفون " و"ملل" .

والحال ، وكأني بالموت في رعشات سناء بلحور ، جسدا آخر يقوم بدور الجسد الغائب، موقد الحنان ومصدر اللجوء إليه ، وعريا من البوح لأشكال موت الإنسان بأساليب لا تمت بصلة للكرامة .
هذا التشكيل للموت يترقى إلى موت رمزي مكعب يمارسه السارد على حياته اختيارا وموقفا من "الآخر" الذي يتسيد و لا يتقن الإقامة المرحة والحب اليومي ، سوى الاحتماء بعتمات الجسد حين تتوهج " الحيونة " ، نقرأ في قصة " موت " ص 15 :" بعدما شرب عصيرا منعشا ، قام وقبلها على جبينها ممتنا ، لم تنبس ببنت شفة ، ولم تتحرك ... أدرك آنذاك أنها ميتة ، فقط أنامل يديها اليمنى ...ترتعش " .

ولعله من المناسب أن نختم هذا الحديث عن الموت الرمزي في أقصى درجات استشهاده وإيثاره من أجل حياة الآخر الذي ينضح بالبراءة ويقينا بريح السارد ، بقصة " قيدان " ، وهي لعمري عقد قصصية " رعشات " ومن عيونها :" تود الهرب ، اليوم ستقرر ، سترحل ، ستختار ، التفتت يمنة ويسرة ، فبدا لها قلبان بريئان يرمقانها ببسمات حنون ، تخلت عن الفكرة ، وأعادت القيدين إلى معصميها " .

مكون الجسد

بداءة ، دعونا نتفق أن الجسد هو أكثر من حاضر ، و مصدر تفكير كثير من قصص " رعشات " في الزمان والمكان واللغة ، إنه جسد يقول كل الأشياء إنما تلميحا "إنه أسلوب الأناقة في الجسد الذي منح ذاته أسلوبا في الكتابة. والذي لن يكون سوى " جسد الخيال "،ذاك الذي ينز وينزف ويرتعش ويبوح بألمه ومواقفه بجنون ، وعلى هذا الأساس تكون قصص سناء بلحور غير معنية بالجسد وفق الأطروحة الجنسية البويهمية ، و" القصة القصيرة من أنسب الأجناس الأدبية التي تمتلك جرأة التوظيف الاستيتيقي للجسد، لأن الجسد حكاية لقصة الحياة ، والدخول إلى عوالم الجسد في قصص رعشات يحيلنا الى روح الأنثى ، يكشف قلقها وبوحها ، في لغة تميل إلى توظيف شفرات الجسد كقوة فاعلة رافضة أحيانا ومستسلمة لبعض أشكال القهر والسلطوية.

هكذا تحيلنا سناء بلحور إلى إيحاءات واقعية ورمزية ، نفسية وفكرية لعلاقة السارد مع جسد المجتمع أولا ثم علاقته هو بجسده والتلصص عليه.

تأتي صورة الجسد في قصص "موت "،" قيدان " ، "شبح " أقرب ما تكون إلى الموت ، ضمن نسيج من الصور يتعذب من خلالها السارد ويشعر بالقهر والقلق ، فقط الذات تنصت وتستسلم ، كما في قصة " موت".
أما في قصة " سادي " فصور ة الجسد مخيبة لتوقعنا ، والجسد هنا ليس الجسد المتعين ، بقدر ماهو جسد المشاعر والأعماق نقرأ:" أخذها للنزهة في غابة فاتنة ، افتض كل المشاعر بكلامه المعسول ، فاحت منه رائحة الدم ، رمقته بعين دامعة ، فتح جرحا عميقا بداخلها ، دس فيه أزمانا من الملح ، رمى بها في هوة سحيقة " 46 هكذا وبمهارة " الحرايفية" يتورط القارئ ايجابيا في عوالم الحلم والتخيل والتوهم عبر مشهد فني متفرد ومستفز.
وفي قصة أخرى هي قصة " صيغة أخرى " ، يتم القبض على الجسد الهارب إلى جسده المشتهى كما في أسطورة الخنثى ، ويتحقق الحب :" في الغد ، وجد نصفه ذكرا ونصفه أنثى ، فابتسم مؤنثا بصيغة المفرد " ص 55 ، نفسه نقرأ في قصة " شجرة :" في البدء ، كان جدعا مقسوما نصفين ، فيما بعد ، اقترب النصفان والتصقا ، في الأخير ، توحدا وانصهرا ، فولدت شجرة وارفة " ص 64

على سبيل الختم

(رعشات) سناء بلحور ندف رائعة ، وأروع مافيها إنتاج شعرية تتلبس بالخطاب السردي ، حيث تقترن الكتابة القصصية بجمالية اللغة في محاولة لخرق اللغة المألوفة إلى معانقة لغة الشعر ، وكسر الحدود الجمركية بين جنسي اللغة والشعر ، فيتداخل بذلك النص السردي بالشعري ومن ثمة خلق تشنج ونشيج حار، حيث تطفو الدلائل الاستعارية والعبارات المجازية والتصورات الايحائية والرمزية الشعرية نقرأ من قصة " تجدد وَاصَلَ الغِيَابَ كي يَنفُضَ غُبَارَ الحَيَاةِ عن قُبَّعَتِهِ،يَرقُصُ على كُلِّ الإيقَاعَاتِ بُغيَة َانعِتَاقِهِ من قُيُودِ النَّفسِ،
وهذا من شأنه المساهمة في تصوير الواقع البشع والمؤلم الذي يفرض نفسه على السارد ، الذي لم يجد له مخرجا على التغيير سوى الحلم ، الحلم باعتباره انشدادا الى المستقبل الأفضل والأحسن باعتباره رمز الرنو والانفتاح على مساحات جديدة من الإبداع .

لقد استطاعت سناء بلحور في رعشاتها هذه أن تشق لنفسها طريقا مميزا سيكون قريبا من علامات القصة النسائية بالمغرب.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى