الخميس ٢٩ أيلول (سبتمبر) ٢٠١٦
بقلم باسم جبير

التنغيم في اللهجة العربية العراقية

إنّ المتبصّر في كتب اللغة والأصوات، خاصة الحديث منها، يلحظ أنه لا يخلو كتاب واحد منها دون أن يتعرض للتنغيم ولو بيسير من الكلام. وتعد هذه الظاهرة في اللغة بمثابة التنوع او التباين في طبقة الصوت للفظة الواحدة بحيث تعطي كل لفظة معنى يختلف عن الاخرى لو تم نطقها بإستخدام مستوى اخر من التنغيم اذ تعمتد الكثيرمن المعاني على اختلاف انواع التنغيم. فنقول نغّم كلامه اي استخدم الانغام في كلامه من اجل موقفا معينا ليشكل معنى معينا، وتوجد هذه الظاهرة في اغلب لغات العالم اذا لم تكن اجمعها بأختلاف ثقافاتها وكيفية توظيف المجتمع لها وارتباطه بهذه النغمات كارتباطها بالمواقف النفسية والثقافية والتراث والمستوى الاجتماعي. وتظهر هذه الظاهرة في المجتمع العراقي كونه ناطق بإحدى لهجات اللغة العربية ويمتزج بظواهر منها الادغام والغنة ومزج الاصوات لعبر عن معنى تداوليا يعنيه المتكلم ويتوقع من المتلقي فهمه كما يريد ووفقا للسياق.

وظاهرة التنغيم هي موازية للنغمة او نبر الكلمة المفردة الواحدة، غير ان اختلافها الجذري عن نغمة الكلمة انها تمتد على مستوى لفظة كاملة قد تكون كلمة او عبارة او جملة اوعدة جمل اما نغمة الكلمة فهي من اسمها تقع على الكلمة الواحدة ويظهر النبرعليها وهو زيادة كمية الهواء على صوت أو أكثر من أصوات الكلمة في التركيب الواحد، فيعلو هذا الصوت على بقية الأصوات الأخرى التي تشكل مقاطع الكلمة فيحدث التفاوت قوة وضعفاً بين الأصوات. ومن هنا فان بعض اللغويين قامو بتقسيم اللغات الى لغات تتاثر بالنغمة ومعنى ذلك ان الكلمة الواحدة ذات الاملاء والتلفظ الواحد لها عدة معان بإختلاف مستويات نغمتها واخرى تتاثر بالتنغيم اي ان التنغيم الذي يمتد على مستوى العبارة والجملة هو من له القدرة على التاثير في معنى تلك العبارة او الجملة ككل. وكثيراً ما تكون عاملاً مهماً في أداء المعنى، وتتوقف النغمة على عدد ذبذبات الأوتار الصوتية في الثانية، وهذا العدد يعتمد على درجة توتر الأوتار الصوتية خلال عملية التنغيم. فعلى سبيل المثال لو اديت تحية الاسلام "سلامٌ عليكم" في سياق انت تريد فيه تحية من تريد ان تحييه، ستسخدم مستوى معين من مستويات التنغيم، ولكن في المجتمع العراقي تستخدم ذات اللفظة بتنغيم مختلف لتؤدي موقفا بعيد كل البعد عن التحية كأن يكون مؤشر لترك الحديث السابق وابتداء حديث جديد او غيرها من المعاني.

ولو تلقفنا بعض الادبيات التي بحثت التنغيم سنجد عدة آراء ودراسات، منها ما ينفي وجود هذه الظاهرة ومنها من يشرحها ويدل عليها بالتفصيل. وقد تشكلّ مسألة وجود التنغيم في التّراث العربيّ خلافاً بين الدّارسين المعاصرين، حيث رحب أغلب دارسي التنغيم من العرب برأي المستشرق ((برجشتراسر)) الّذي نفى وجود هذه الظاهرة في تراثنا، إلاّ أنّنا لا ننفي إدراك الدّارسين المعاصرين لهذه الظاهرة في التّراث العربي، إذ توجد في كتبهم إشارات توحي بذلك، فنتعجب كلّ العجب من أنّ النّحويين والمقرئين القدماء لم يذكروا النّغمة ولا النبرأصلاً، غير أنّ أهل الأداء والتّجويد خاصّة، رمزوا إلى مايشبه النّغمة، ولا يفيدنا ما قالوه شيئاً، فلا نصّ نستند عليه في إجابة مسألة : كيف كان حال العربيّة الفصيحة في هذا الشأن؟ ومّما يتضّح من اللغة العربية نفسها، وفي وزن شعرها أنّ النبر لم يوجد فيها، أو لم يكد يوجد. والّذي يثير التساؤل في قول ((برجشتراسر)) هو فصله الحادّ بين المقرئين القدماء وأهل الأداء والتّجويد، وكذلك فصله الحادّ بن المقرئين وأهل التّجويد من جهة، وبين النّحويين من جهة ثانية. مع العلم أنّ أغلب النحويين القدماء خاصّة كانوا أهل أداء.

ولم يبقى الحال كما هو عليه حيث جاء أبو حاتم الرازي (ت 322 هـ)ودرس هذه الظاهرة حيث كان يرى أنّ تطويل الصّوت ـ أي مدّه ـ يدلّ على معنى الندّاء، وعلى معنى الشكاية، فربط مدّ الصوت بالمعنى، وهذا أمر لا يمكن إدراكه إلا بالكلام المنطوق، ويقصر الكلام المكتوب على نقله، وهذا ينقلنا إلى الحديث عن أهمية المشافهة في نقل التنغيم. ويؤيد هذا الرأي ما ذكره بعض الباحثين من أن الخطاب المكتوب يعتمد في نقل المعنى على البنية اللغوية، لأنّه يفتقر إلى السياقات الوجودية الكاملة العادية التي تحيط بالخطاب الشفاهي، وتساعد على تحديد المعنى فيه، مستقّلة في ذلك إلى حدّ ما عن القواعد النحوية. ولقد كان للمسلمين في التلقي الشفهي مناهج دقيقة، إذ كانوا يرون أنّ النقل من الأفواه هو النقل السليم الذي ينفي كلّ لبس يعتريه، كما أدرك علماؤنا وجوه المخاطبات والخطاب في القرآن الكريم التي لا تخرج عن إطار العادات النطّقية السّليمة التي تسهم في تعزيز المعنى وإفهامه دون مبالغة، ولا تخرج عن كونها تلوينات صوتيّة تدخل ضمن التنغيم السليم للنصّ القرآني. وقد تحدّث الزركشي (ت 794هـ) في كتابة (البرهان) عن وجوه المخاطبات والخطاب القرآني، ويذكر أنّها تأتي على نحو من أربعين وجهاً، وإدراكه لتنوّع الأساليب في القرآن وهو ما دفعه غير مرّة في كتابه المذكور إلى القول "فمن أراد أن يقرأ القرآن بكمال الترتيل فليقرأه على منازله فإن كان يقرأ تهديداً لفظ به لفظ المتهدد، وإن كان يقرأ لفظ تعظيم لفظ به على التعظيم و يقصد بالقواعد النحوية " قواعد مستويات الدرس اللغوي العربي، التركيبية، والدلالية والصرفية، والصوتية، وقد لمسنا كيف يحول التنغيم دلالة الاستفهام إلى دلالات أخرى، وهو نوع من الخرق الدلالي، ومن نماذج الخرق على مستوى التركيب والفصل بين طرفي الوصف، أو التعليق.

ولعّل من أشهر من نبّه على دراسة التنغيم من المحدثين العرب، الدكتور إبراهيم أنيس في كتابه ((الأصوات اللّغويّة)) الذي يرى أنّ التنغيم هو موسيقى الكلام، "لأنّ الإنسان حين ينطق بجميع الأصوات، يستخدم عدة انواع من النغمات، فالأصوات التي يتكوّن منها المقطع الواحد قد يختلف في درجة الّصوت، وكذلك الكلمات "وتختلف معاني الكلمات تبعاً لاختلاف درجة الصّوت عند النّطق بالكلمة، ومن جهة اخرى يستخدم الدكتور تمّام حسّان، في كتابة ((اللغة العربية معناها ومبناها)) أسلوب النّفي الجازم لوجود ظاهرة التنغيم في التّراث العربيّ، حيث ذهب إلى أنّ التنغيم في اللغة العربية الفصحى غير مسّجل ولا مدروس، ومن ثمّ تخضع دراستنا إيّاه في الوقت الحاضر لضرورة الاعتماد على العادات النّطقية في اللهجات العامية. وأمّا الدكتور أحمد مختار ، فإنّه يقرّر أنّ معظم أمثلة التنغيم في العربية ولهجاتها من النّوع غير التمييزي الّذي يعكس إمّا خاصّية لهجيّة، أو عادة نطقية للأفراد، ولذا فإنّ تقعيده أمر يكاد يكون مستحيلاً. ويفرّق في كتابه ((دراسة الصوت اللّغوي)) بين النّغمة والتنغيم، ويجعل الدّراسة المثلى للتنغيم، ويرى أنّ التنغيم هو الذي يغيّر الجملة من خبر إلى استفهام إلى توكيد، إلى انفعال، إلى تعجب في شكل الكلمات المكوّنة، ثم يمايز بين صفتين من اللغات النّغميّة، وغير النّغميّة بما تؤديه درجة الصّوت من دور في تميّز المعنى الأساسي للكلمة أو الجملة وعلى مستويات اللغة المختلفة سواء كانت لغة فصحى او عامية.

وتوصلت الدراسات الصوتية الى ان النغمة التي منها تتالف مستويات التنغيم تنقسم الى اربعة مستويات حسب وظيفتها وهي:

أ- النغمة المنخفضة: وهي أدنى النغمات. وهي ما نختم به الجملة الإخبارية عادة، والجملة الاستفهامية، التي لا تجاب بنعم أو لا.

ب- النغمة العادية: وهي التي نبدأ الكلام بها، ويستمر الكلام على مستواها من غير (انفعال).

ج- النغمة العالية: وتأتي قبل نهاية الكلام متبوعة بنغمة منخفضة أو عالية مثلها.

د- النغمة فوق العالية: التي تأتي مع الانفعال أو التعجب أو الأمر.

وتختلط هذه المستويات فيما بينها لتؤدي تفاوت النغمات او "التنغيم" للفظة الواحدة فمن الممكن استخدام المستويات الاربعة متمازجة لاستخراج مستوى جديد من التنغيم وذلك لاجل اعطاء معنى معين يريده المتكلم دون سواه وهذا ماهو معمول به لدى متكلمي اللغة العربية الذين ينتمون الى مجتمعات مختلفة.

وبالتالي فقد اخذت اللغة العربية قدر كافيا من دراسة التنغيم وخاصة في القرآن الكريم. ولأهمية هذه الظاهرة التي يستخدمها الانسان فطريا او متأثر بالقرآن فأنها امتدت الى اللهجات المحلية واصبحت عاملا مهما لدى المجتمعات نظر لتوظيفها في مواقف وسياقات كلامية لتؤدي جزءً كبيراً مما يريده المتكلم او معني الفاظ المتلكم في سياقات معينة وضمن دائرة مباديء يتفق عليها متكلمين اللغة. وهذا هو صنو تداولية اللغة. وبخضوع المجتمع العراقي كغيره من البلدان الناطقة باللغة العربية الى عوامل تكوين اللهجة من حدود جغرافية وسياسية واجتماعية لتنشأ منها اللهجة العراقية، يوظف المجتمع العراقي التنغيم في اللغة اليومية المستخدمة (اللهجة العراقية) بشكل واسع على المستوى الدلالي والتداولي بالاظافة الى المستوى النحوي التركيبي، وبذلك فأن للتنغيم الاثر الكبير في تغيير المعنى او الموقف من خلال التواصل اللغوي الكلامي المنطوق، فإن هذه الظاهرة التي ينبغي ان تكون متماسكة من الناحية التواصلية ونقل المعني المطلوب يجب ان لا تتوقف على القواعد النحوية لتركيب الجملة في اللغة وحسب انما المباديء الوظيفية والتداولية في اللغة لها الاثر الاكبر في اللغة المنطوقة المرتبطة بثقافة المجتمع ارتباطا وثيقا. وتتبلور هذه الظاهرة بصورة جلية في المجتمع العراقي اذ ان هناك عدة انماط تنغيمية متعارف عليها داخل المجتمع الواحد وان هذه الانماط تحكم استخدام الالفاظ المنطوقة في اي خطاب.

يدخل بعض الاحيان الادغام ممتزجا مع التنغيم لاجل التعبير عن موقف معين للمتكلم وهو كمن يريد التشكك والريبة او عدم الرضا والقبول. والادغام هو إدخال صوت ساكن في صوت متحرك من جنسه بلا فصل بينهما بحيث يصيران معاً صوتا واحداً فيه خصائص من الصوتين وهو على انواع مختلفة وما يهمنا منها هو النوع الثالث الذي يمتد بإمتداد التنغيم على اللفظة بدلا من الكلمة الواحدة. فدعنا ننظر الى الموقف التالي وهو موقفا من الحياة اليومية للمجتمع العراقي: تروم الام التأكيد لبنتها ان تجلب كوبا من الماء فتقول لها "جيبي الكوب .. الكوب .. وامليه مي" فتقوم الام بأضافة نبر عالي على كلمة "الكوب " الثانية مع ادغام وغنة وتنغيم من المستوي الرابع والثالث اي فوق العالي والعالي فوق لفظة "امليه مي" فتصبح "امليمي". ولا شك ان الام لاتريد ان تامر البنت فقط انما تريد ان توبخها ايضا وتحثها على عمل شي اخر ربما ان تقوم وتجلب الكوب بسرعة او تجلب الكوب كما تريد الام اوملاءه بماء معين وغيرها من التفسيرات التي يتكفل السياق وحده بتفسيرها.

وبذلك فالادغام بغنة والتنغيم سوية يشكلان نوع خاص من التنغيم الذي يوظفه مستخدمو اللغة العربية العراقية لاعطاء معان تداولية داخل المجتمع العراقي الذي يفهم معناها دون غيره. نعم هناك بعض انماط التنغيم الموجودة في لهجات اللغة العربية المختلفة التي ممكن للناطق باللغة العربية ان يفهم من خلالها مايريد المتكلم الا ان هذه المستويات تعود بالاصل الى اللغة العربية الفصحى التي منها انشطرت جميع اللهجات العربية ومع اللهجات بقيت وتطورت هذه المستويات التنغيمية والمدغمة والتي لها نبرا خاصا. ونستنتج ان التنغيم في اللهجة العراقية العربية له عدة وظائف تداولية يقرها المتكلم ويتوقع من المتلقي تفسيرها بالصورة الصحيحة حسب الملكة التواصلية التي يمتكلها المتلكم والمتلقي معا كونهم ينتمون الى ذات المجتمع اللغوي. ومن هذه الوظائف التداولية للتنغيم هي الرضا او عدمه والشك او الريبة واختلاف الرأي ونقل اشارات لغوية معينة من خلال اشارات غير منطوقة وموافق اخرى يبتكرها المتلكم وتبقى رهينة الدراسات المستقبلية ضمن مضمار التنغيم اللغوي في المجتمع.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى