الجمعة ٣٠ أيلول (سبتمبر) ٢٠١٦
بقلم رشا السرميطي

نبوءة مفكِّرة على ضفاف الفلسفة

على عاتقي- مجموعة نصوص للكاتبة الواعدة لوجين شوشة، حملت هذه الباكورة الأدبيَّة صوتًا هادرًا في أدب الشَّباب الفلسطيني عامة والقدس خاصة. تلك الكاتبة المبدعة التي لم تزل على مقاعد الدراسة أخرجت لنا مجموعة نصوص فكريَّة ذات بعد فلسفي عميق، حملت به القارئ إلى ما بعد العمق.

بدأت الكاتبة اهداء مجموعتها لأبويها، ثمَّ وصفت نفسها بالسَّهم، ونحن نعرف بأنَّ السَّهم سريع في انطلاقه، وما إن رماه رمَّاح ماهر حتى أصاب قلب الهدف، أوَّل الأسئلة التي تعلق في ذاكرة القارئ: ترى هل لوجين رمَّاحة كلمات ماهرة؟ ولا يلبث ذاك السُّؤال برهة حتَّى يتوَّلد عنه فرعًا، أي هدف تريد قلبه؟ هكذا تكتمل شجرة الأسئلة لمن يقرأ لجين، فهي تدق أبواب الفكر باستمرار، وتعرف كيف تنسج شباك المعنى، لتجعل كلماتها متشابكة، فتصطاد القارئ متورطًا ببهاء الرؤيا واندهاش البعد، ما بعد الاتهامات الواضحة لجيل الشباب " جيل الفيسبوك " مجازًا لنصفه - تظهر لوجين لتتصَّدى برصاصات القلم لكل من يستخف ويقلل من شأن هذا الجيل المبدع، السريع، الخَّلاق، الذي سئم الصورة البائسة لواقعنا.

متمرِّدة بعين الدين وعين الأخلاق، بدأت لوجين شوشة كتابها – على عاتقي – تحكي لنا عن حياة أخرى لأنثى غير عادية، لا يشبع جوعها الاعتياد، فهي تحلم بغد آخر لا يشبه الحاضر والماضي لمن سبقنها من الإناث اللواتي شرَّعن فكرهن للحريَّة، على متن كتاب، أو بساط قلم، جمعهما الحنين للورق، ذاك الورق الأبيض بقداسة الياسمين. كتبت لوجين أحلام فتاة عادية بطريقة غير مألوفة، ومستهلكة أيضًا. فهي تريد رجلاً يكمل نقصان الفكر عندها، يهديها الكتب، يسافران معًا، يخرجان من الصُّندوق الذي عاشت به أمها وجدتها، وقريباتها من النِّساء، أعلنت للقارئ منذ البداية تمردها، ممَّا أوقعه في شباك الرِّحلة باحثًا عن تلك الأنثى، غير الموجودة حتَّى الآن سوى على الورق كلمات صاخبة لها أصوات، وحروف عذبة تنبض بمشاعر زاهية الألوان، ثمَّ وعدته فيما بعد على عاتقها بأن يجدها روح من جلد ودم وحلم عاش على أمل أن يقتل الألم، وينتصر.

أكملت بالقارئ سيناريو الخيال الواقعي، فجاءت راقصة الباليه، لتعَّد المشهد البلوري، وتمتزج الموسيقا بنوتات حياتها الأخرى التي فرضت نفسها على القارئ المنصاع لما أملت عليه منذ البداية، فما انفكَّ يحاول رسم ملامح هذه الفتاة، التي باغتته بخبرة عميقة عن الحب وفلسفته، فعرَّفت له جوهر الحب، وعرفت أن تحمله على تصديقها حينما أمسكت بأصدق أنواع الحب، لتحكي عن الأم وحبِّها، وعاطفة الأب أيضًا، وماذا يعني ذلك لطفلة مراهقة تحلم بعد ..! طرقت المشاعر من أبوابها النبيلة ولم تبتعد عن الدين والأخلاق لتجعل الحب حلالاً في موقفه الصَّادق الانساني الذي لن يخالفها عليه قارئ ما. تقول في صفحة (8):" إنَّ كلمة الحبِّ تشبه كلمة أخرى بتر أوسطها! حرب تساوي حبًّا". ومابين حب الوطن والحروب ظلَّت كاتبتنا متمسكة بمجاديف الانتماء للحب الذي رأت به طوق نجاة، ذاكرة لنا البعد الذاتي لديها، حول هذه المسألة الجدليَّة، لتقول عن الحب بأبسط تعريفاته:" الحب ما أشعره اتجاهك" تاركة لنا اللغز وأبطاله. مستفيضة في فلسفتها الأنثويَّة بالحب، ارباكاته، تناقضاته، جماليات حالاته، أفراحه وأتراحه.

انتقلت بعد ذلك إلى حوَّاء لتؤكد على ألوان تلك الأنثى التي تحتفظ بها في داخلها، وتحافظ عليها، تلك "الهبة" التي خلقنا لنكون أكثر من نعتني بأنفسنا قبل البدء بطلب عناية الآخرين بنا باسم الحب والاهتمام، هاجمت ثقافة الخوف وقطعت رؤوس الخائفين، فالاختلاف عندها لا يعني إلا الثَّراء، لأنها ترفض رفات هذا المجتمع المفروض عليها، وترفض تمامًا فكرة الاستنساخ للنساء، فكل امرأة من وجهة نظرها حالة متفرِّدة ومنفردة في مصيرها وحاضرها ومستقبلها.
من أشهى المحطات التي يبحر قارئ لجين معها فيها باكيًا دموع الفرح والحزن معًا، نصها في صفحة (19) بعنوان: ألم، تقول:" ألف لام ميم ..ثمَّ تامر قارئها بقلب الموازين وقلب الحروف لتصير ألف ميم لام، ينصاع لها طواعية والدَّمع بعينيه مختلطًا، يبحث عن ذاك الغصن الحب في صدره، يسقي أمنياته لتنبت الزُّهور في مخيلته المهجورة. تنبه لوجين قارئها للخيبة، وعدم الوقوع في شركها، فما انقضى يجب أخذ العبرة منه ليس إلا، وما علينا تكرار أخطائنا، وهنا بأكثر من نص تبرز لدى القارئ حكمة الكاتبة وعمق فكرها، بأبعاد فلسفية عميقة، ممَّا يجعلنا نقول: نبوءة مفكِّرة.

تكلَّمت لوجين عن الدَّمعة خليلها الوفي، وعن النسيان، وجرأة البكاء، وجرأة الفرح أيضًا، بل رمت من ذلك كله إيصال قارئها لجرأة الاختلاف حتَّى لا يكون كما الآخرين، تقول:" تجرأ لكي لا تكون شبهًا يضج بالحقيقة وشبهًا يصرخ من الخوف". لم تفت لوجين لحظات الشِّتاء، والحديث عن مشاعرنا في مواسمها، وتلك التقلبات الإنسانية الغريبة والمتناقضة، مطالبة القراء أن يمنحوا المشاعر كامل حقها، ولم تنقص كلماتها معاطف اللغة الدافئة، الرقيقة، والمنفردة التي لها وحدها، تقول:" شتاء دافئ من الداخل قارس من الخارج"، " جمهور ركض خلف المظاهر ونسي أن ما خفي في القلب أعظم"، "أما البشر فلا يأتي شخص ليعوض مكانًا آخر"، برز عند كاتبتنا اهتمامها بالبعد النَّفسي الإنساني بعيدًا عن القوالب الجافة التي يضع بها المجتمع أفراده، متناسيًا بأنهم من لحم ودم وحياة.

جنون تلك المرأة محبب لدى من تقرأها من النِّساء، والرِّجال ربما، حتَّى بلغ بها الأمر، فكتبت:" في ذات مرة اعتقدت بأنه يجب اصدار قانون يمنع أن يكرر الاسم" من وجهة نظرها الأسماء تربطها علاقة وطيدة بالأرواح، ولأنَّها لا تقبل تكرار النِّساء كان لها في الغفران فلسفة أخرى، وقد يخلص القارئ بأنَّ النِّسيان يكون عندما نتوقف عن البحث في أسباب الهروب بعد أي تجربة فاشلة مررنا بها، لتتركه في حيرة وتختم نصَّها:" أحقًا يستطيع المحب كره حبيبه؟" في وداعة هذا السؤال نفضت لوجين الغبار عن كل العلاقات البالية التي بدأت لامعة باسم الحب، وانتهت باهتة بلا لون سوى أنات الحقد والكره ومجاز الرضى بالخيانة بما لا نستطع فهمه وتأويله، لوجين لم تترك تناقضًا أنثويًا لفتيات عمرها إلا وقد قرعت بابه، موضحة، شارحة، تقول رأيها وفلسفتها الخاصة بشأنه، الغيرة، الحب، العناق، النسيان، الدَّهشة الأولى، الاشتعال، الانطفاء، الوفاء، البقاء، الأمل ومابعده من خير خفي لا تعرف مجاهله إلا في وقت متأخر جدًا. إنَّ هذا النُّبوغ الذي وصلته لوجين بعمرها الغض ما هو إلا انعكاس للتربية والتنشئة السليمة في أسرتها التي ساندتها، وربَّتها على القراءة واحترام أفكار الآخرين، لتشب مؤمنة بالاختلاف وصحته، وكذا مدرستها التي كان لها الجزء الكبير أيضًا بشهادتها في أساتذتها ومعلماتها.

استطاعت لوجين قراءة تجاعيد النِّساء والرجال، وتعرجت مع هذه الخطوط لتلتقط أبهى المعاني وأجمل القصص، دوَّنت ما استطاعت من حكمة هؤلاء العبرين في حياتها، سواء كانوا من جلد ودم أم ورق، موضحة لقارئها بأنَّها ضد الاعتياد، فهي منذ بداية كتابها طالبت بالتغيير، وأعلنت تذمرها عن كل عادي مستساغ ومستهلك.

معظم المشاعر والأحاسيس التي تطرقت لها كاتبتنا، كانت صادقة، بل بحثت للقارئ عن مواطن الصِّدق منها، هذه الفتاة تحمل قلمًا أصيلاً، جيئ لنا في زمن البلاء، واللامشاعر. تغلغلت لوجين في فلسفة الطبيعة والانسان، والتناقضات التي تكتنف دواخل هذا المخلوق البشري الذي يتفاجئ أحيانًا من نفسه فيغدو أقسى من الحجارة! ولم تتوقف بالقارئ مدويَّة بأسئلتها، التي لم تنته منذ بداية الكتاب حتَّى نهايته، ما العيد؟ ما هو الوطن؟ ما هي الطفولة؟ ما هو الحب؟ ما هي العروبة؟ ما اللغة؟ ثمَّ ما الكتابة! يتضح نقصان الاجابات التامة لدى لجين القارئة بنهم، مما جعلها تستفيض بأسئلتها للقارئ، تناقشه برأيها، وتطرح له أفكارها، تحذره، وتنذره، توجهه، وترشده، تغنيه، وتأخذ من وقته مزيدًا، ومزيدًا، ليفكِّر من هذه الفتاة؟ وماذا تريد من بعد حياة غير عادية؟

أنهت كتابها لجين شوشة كما بدأته بالحديث عن الحب وفراشاته، كتبت:" لن أهرب"، سأكون .. نعم هي تريد المغامرة بحياة مليئة بالتجارب، ببساطة لأنها: فتاة متدفقة من لحم ودم وحلم، لا يشوب تفاصيلها الملل، من اعتيادية تستسهلها الإناث، بل، تريد أن تخلق حياة جديدة لأنثى جديدة تشعر بأنها تكبر داخلها، مختلفة عن بنات جيلها، رغم أنَّها منهن وكتبت لهن، وبقلمها تحدث مشاعر الكثيرات منهن أيضًا، لكنَّها مؤمنة بأنَّ أجراس التغيير قد قرعت، ولابد لفئة الشباب من الأخذ بزمام كثير من الأمور خاصة المعرفيَّة والفكريَّة والثَّقافيَّة منها.
في الختام؛ لجوجين شوشة- نبوءة مفكرِّة على ضفاف الفلسفة، أرجو من وزارة الثَّقافة الفلسطينية، والأدباء والأديبات العناية بهذا القلم الأنثوي، الذي ينبئ بمستقبل امرأة فلسطينية عظيمة الشأن.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى