الخميس ٣٠ آذار (مارس) ٢٠١٧
بقلم عصام شرتح

المغامرة الجمالية في قصائد بشرى البستاني

لاشك في أن الإبداع الحقيقي مغامرة مضاعفة أو مغامرة المغامرة،ولايوجد إبداع حقيقي بلا أن تكون فناً مغامراً برؤاه وشكله الفني ؛ وقد لانبالغ في قولنا:إن أي منتج فني لا يغامر جمالياً، لا يمكن أن يخلد إبداعياً،كمنتج جمالي فني مؤثر على خارطة الخلق الإبداعي المميز. وما من شك في أن الفن الحقيقي- ما هو أولاً وأخيراً إلا مغامرة جمالية، ولعبة جمالية، وبقدر ما يغامر المبدع في منتجه الفني يزداد سموقاً وارتفاعاً جمالياً، شريطة أن يكون المغامرة منتجة، أي أن تكون مغامرة جمالية إبداعية ليست بقصد استثارة الخيال، وتحفيزه، أو إشغاله بقدر ما هي مؤسسة لاستثارة كل ما هو جمالي، والفن الجمالي الخالد هو فن مغامر جمالياً. وما خلود الفن إلا بتجاوزه وإضافته، ومغامرته اللامعهودة، واللامتوقعة،وبهذا المعنى يقول الشاعر طالب هماش:" في كل جملة شعرية يجب أن تتلامس الحروف مع بعضها برقة، وتناغم، كتلامس الأجراس لتصدر دقات الموسيقا العذبة. يجب أن تلعب الحروف مع بعضها كما تلعب الأسماء في بركة الماء الصغيرة. يجب أن ترقص كما ترقص النافورة في صحن الدار. يجب أن تكون رشيقة في انتقالها بين السطور. فالكلمات الحية توشوش، وتزقزق، وتسقسق، وتهدهد. خصوصاً إذا كان موضعها جميلاً في الجملة الشعرية... في كل جملة هناك تنهيدة، وهناك فرحة.. وهناك جرح.. هناك إحساس بالفرح ممزوج بعضه بالبكاء، وبهذا المعنى أحاول اكتشاف الانسجام بين الجمال الموسيقي (الصوتي) والجمال التعبيري. والذي ينتج من التلاقح الفني المنسجم الذي ينبعث من التآلف والتناغم بين أداء الحروف والمفردات، واكتشاف المخزون الانفعالي، والإيقاعي خصوصاً حين يسيطر حرف ما على النص؛ ويتكرر في دوامة الأحاسيس المستيقظة والمنسابة بسهولة، ويسر حين تترقرق الحروف في الجملة دون نشاز، يسيطر وإحساس متناغم على اللغة، ويجعلها طيعة تماماً كما يترقرق الماء في المجرى خالقاً عالماً من التناغمات والسقسقات"(1).

إن هذه اللمسات الشفيفة التي نستشفها من قول الشاعر طالب هماش، تضعنا على محك الرؤيا الجمالية، ولذة الإحساس الجمالي بها، فالمغامرة الجمالية جزء من لعبة أي فن إبداعي مؤثر، وبمنظورنا: إن الفن الجمالي لا غنى له عن هذه المغامرة التي يتوجب فيها لتحقق فاعليتها الشروط الجمالية التالية:

الإيمان بهدف المغامرة:

إن أي مبدأ جمالي مغامر ينبغي أن ينطلق من منظورنا، واعتقادنا الذي يقول: إذا كنت قادراً على ممارسة الجمالي في كل شيء يجب أن تمارس الجمال في كل شيء. وإلا لن تكون حساساً، ومؤولاً جمالياً بامتياز؛ لأن الجمال إحساس، وممارسة، وسلوك، وهذا يؤكد المقولة الشائعة:[ كن جميلاً ترى الوجود جميلاً]. فمن لا يؤمن بمغامرته الوجودية، وإحساسه الجمالي بالأشياء من حوله -بالتأكيد -لن يعي حقيقة الجمال، ومثيرات الجمال، ولهذا، فإن أولى شروط نجاح المغامرة الجمالية الإيمان بهدفها الجمالي، والوجودي، والإنساني، فكم من الفنون الجمالية قد ارتقت بهدفها أولاً، وشكلها ثانياً؛ على الرغم من أن الفنون هي تلاحم وتفاعل تام بين الشكل والمضمون؛ لدرجة لا يمكن فصل أحدهما عن الآخر.وبما أن هدف الفنون تأسيس ما هو جوهري، أو الوصول إلى ما هو جوهري في الوجود والحياة؛ فإن أبرز هدف لديها الإيمان بمتنفسها الإبداعي لتكون قادرة- حسب عالم الجمال (سوريو) –على تبرير كيانها بنفسها تبريراً مطلقاً"(2).

ولهذا ؛ فإن الفن لا ينجح بمغامرته إلا بصدق منتجه وهدفه الإبداعي، وسموه وارتقاء شكله الفني، ومن أجل هذا، رأى البعض أن الفن في التقييم الجمالي يتمثل في شكله، وهذا ما ذهب إليه الناقد علي جعفر العلاق، مؤكداً:" أن النص الشعري شكل قبل أي شيء آخر، ونحن حين نستقبل النص فإننا لا نؤخذ، في المرحلة الأولى للتلقي، إلا بشكله أولاً، أي أن الخضة الأولى التي تعترينا لا تنبعث في الغالب إلا من شكل النص؛ أو عناصره الكلية الحسية. أما بناء النص فإن اكتشافه مهمة يصعب على المتلقي الأول إنجازها دائماً، لذلك، فإن كل قراءة لاحقة تظل اقتراباً من بنية النص، واختراقاً لمظلته البهيجة. ولهذا، فإن ما تبعثه القصيدة فينا من نشوة، أو قوة، أو أسى لا يترشح إلا عن مستواها الشكلي أولاً، ومن خلال هذا الشكل بتفاصيله ومكوناته، تنجح القصيدة في إشاعة مناخها الجمالي والفكري في كيان المتلقي، وتستدرجه بعد ذلك، إلى فضائها الداخلي، وشباكها الخادعة، أي إلى أبهة البناء الشعري وبهائه الساطع(3).

وهذا يؤكد أن الشكل عنصر جوهري تأسيسي في إدراكنا لقيمة المنتج الفني، وهو الذي يجذبنا إلى الفن.وإلى تلقي المنتج الفني تلقياً جمالياً، ولعل أبرز مثيرات نجاح الشكل الفني هو الهدف الجمالي في تجسيد الفكرة. والإيمان بالشكل الجمالي الهادف في توصيلها، ونقلها للمتلقي، كما لو أنها تجربته أو كما لو أنه عنصر مساهم في إبداعها وتشكيلها. ولهذا، يعد الإيمان بالهدف الجمالي، وطريقة صوغ هذا الهدف برؤيا عميقة، ومنظور متجدد من أهم دلائل المغامرة الجمالية الناجحة، وحنكتها في الاستثارة، والتلقي الجمالي. ولا غنى لهذه المغامرة الجمالية عن هدفها المركزي ومدلولها العميق.

اللذة الشعورية:

إن المغامرة الجمالية لتحقق فاعليتها، ومنتوجها الإبداعي المؤثر ينبغي أن تحقق اللذة الجمالية، فالقيمة المعيارية لنجاح أية مغامرة جمالية أن تستثير اللذة في منتوجها (لذة المنتج الإبداعي)، وأن تستثير لذة في المتلقي (لذة التلقي)، وأفضل ما يمنح المغامرة الجمالية لذتها تلك اللمسة الجمالية التي يضفيها المبدع على منتجه الإبداعي ؛ليحقق فنيته ولمسته الجمالية المميزة. وبهذا المقترب يقول (بودلير):" إن اللمسة الروحية الهامة التي يضفيها الفنان في موضعها لها قيمة ضخمة (عظمى)"(4).

وهذه اللمسة الشفيفة أو الخلاقة هي التي تمنح المنتج الإبداعي فنيته، وأمتع اللذات الجمالية هي اللذة التي يضفيها المتلقي على المنتج الفني إثر تلقيها جمالياً، إذ إن لذة التلقي الجمالي لا تقل قيمة ولا أهمية عن لذة المنتج الفني ذاته. فكم من الفنون قد ارتقت بمغامرتها الجمالية إثر تلكم اللمسات المضافة من قبل المتلقي المبدع.

الحب ودافعه الجمالي:

إن نجاح أي منتج فني مغامر لا يتحقق إلا بدوافع شعورية، مصدرها الحب والإعجاب، والإخلاص الحثيث للهدف النصي أو الجمالي المتوخى في منتجه الفني؛ ولهذا، فإن شرط نجاح المغامرة الجمالية الرئيس الحب الزائد للموضوع المطروق جمالياً، وفنيته المثيرة؛ يقول (فلوبير):" فالحب عجينة العبقرية، والجو الذي تعيش فيه العبقرية، وما كانت الأعمال الفنية الرفيعة المستوى إلا نتيجة إفراز للمشاعر العليا"(5).

فعلى الرغم من أن مدرسة[ الفن للفن] تبعد الحب كقيمة جمالية جوهرية محرضة للفن، إذ تعتبر هذه المدرسة "الحب عاملاً يضر بنمو الفن والفنان، سواء أكان هذا الحب سعيداً، أو تعيساً، مشروعاً أو غير مشروع"(6).

فإن هذه المدرسة عضدت رأيها حين قال (بالزاك ] على لسان شخصيته المسرحية:
(شتاينبك):"إن شخصية المثال (شتاينبك) تتوقف عن إنتاج الأعمال الفنية في اللحظة التي يصاب فيها بالحب"(7).

وهذا الرأي ناقضه الشعراء الرومانتيكيون بقولهم:" إن العواطف الكبرى هي التي تخلق كبار الشعراء"(12). وهذا ما أكده برتليمي من خلال قوله:" إن عاطفة الحب تصطحب الفن وتقويه"(8).

وأياً كان رأي علماء الجمال من مؤيد لهذه القيمة أو معارض لها فإن هذه القيمة هي المفجر الحقيقي لأي دافع من دوافع الفن، بل وأي دافع من دوافع الإبداع ومحرضات الجمال؛ فالمبدع الذي لا يحب لا يغار ولا يبدع فنياً؛ ولن ينتج عملاً إبداعياً خالداً على الإطلاق.
الجرأة:

إن مصدر نجاح المغامرة الجمالية وسر تفوق الأعمال الإبداعية الخالدة الجرأة في الطرح، والجرأة والمهارة في ارتياد فضاءات إبداعية غير موطوءة من سابق، وأكثر المغامرات الجمالية إثارة هي تلك التي تتصف بالجرأة، والجسارة، والمهارة التحويلية؛ من منظور إلى آخر؛ ومن رؤيا إلى أخرى، في الفن أكثر عمقاً، وإثارة، وجدة، وابتكاراً؛ فالعظمة- في الفن- لا تقاس عموماً بالجمالية فحسب، وإنما تقاس بالجرأة والطرح الجديد الذي تنطلق منه، وتقبل إليه. يقول (برتليمي):
"العظمة في الفن ترجع إلى الأسلوب.. وهي التي ترفع أتفه الموضوعات إلى مستوى يفوق أسماها"(9). وهنا، تتحقق لذة المغامرة وتتأكد درجة سموها فنياً، ولهذا، يرى الناقد والشاعر المبدع أن الجرأة مصدر للنشوة في الشعر، خاصة عندما تسهم في تشكيل قصيدة جمالية تمثل جوهر الحياة.بهذا المعنى المقارب يقول الناقد علي جعفر العلاق:" القصيدة لحظة خاصة يسمو فيها الإنسان على نقصه ومحدوديته، حيث تمتزج النشوة بالعذاب، والأرض بالسماوي، والجسد بالذكرى. في هذه اللحظة يحقق الشعراء للحياة أجمل مثيراتها، حيث يمسكون بالزمن الهارب، فيمنحونه الخلود والنصاعة، وحين تشرق نصوصهم فيتبدل وجه الكون، وتغدو الكائنات والأشياء أكثر جمالاً، وأعمق دلالة القرى، والنساء، والذكريات والنهار، والنوم، وهمهمة الريح... تمثل القصيدة إسهام الشاعر في تشكيل جوهر الحياة، وتمثل – أيضاً- حصته في صنع ذاكرة الغد، أي تراث المستقبل، أو ماضيه الأكثر إشراقاً، إن الشاعر حين يضيف بقصيدته الجديدة بعداً آخر لحركة الحياة، فإنه يهيئ تراثاً لمستقبل لم يأت بعد، أي أنه يسهم، ومنذ اللحظة في الإعداد شعرياً لزمن جديد آخر. وهكذا، يكون الشعر ارتباطاً بالزمان والمكان الراهنين، وهو- في الوقت نفسه- انعتاق منهما معاً، إنه فيض الروح والجسد، وهما يتمردان على أغلالنا الترابية الباهظة، وهو تطلعنا القلق إلى الاكتمال أيضاً"(10).

وهذا دليل أن الفن جرأة وارتياد عوالم مبتكرة، وتجسيد حي لعالم الروح، ولن يسمو الفن بمغامرته الجمالية إن لم يحقق الإثارة، والمتعة، والجرأة. في ماهيته ورؤيته الجمالية.
المباغتة أو المفاجأة:

إن سر نجاح المغامرة الجمالية يرجع إلى عنصر المفاجأة والإدهاش في المنتج الجمالي، ولهذا يقال"الذوق المطلق للشيء الواقعي قاتل للذوق الجمالي السليم"(11).بمعنى أن ما يقتل الفن الاعتيادية، وما يحلق بالفن، ويسمو به جمالياً المباغتة، والمفاجأة، واللا اعتيادية. ولهذا، فإن كثرة مداولة ما هو معتاد والاستئناس به تقتل الذوق الجمالي، والحس الإبداعي لدى المتلقي والمبدع في آن. وبقدر ما ترتاد المغامرة آفاقاً إبداعية مغايرة لما هو متوقع أو مألوف تسمو، وترتفع أسهم المنتج الفني جمالية، وقشعريرة شعورية، تزيده متعة وجاذبية. ولهذا، ليس من مطلب الفن أن يصور شيئاً كاملاً أو مطلقاً – المهم فيه أن يباغتنا، ويفاجئنا بمنتج جديد، وبقيم جمالية مبتكرة. يقول (بودلير):" لا تقدم لنا شيئاً مطلقاً، ولا حتى كاملاً".(12)وهذا يعني أن الكمال قد تغيب فيه قيم مباغتة أو مبتكرة، لأن من لا نقصان فيه، لا انزياح، ومفاجآت، وابتكار في منتجه الإبداعي، ولا يعني الكمال أو الإطلاق النضج الفني دائماً يعني السيستم الإبداعي. وهذا مالا يمكن تحقيقه بشكل مطلق أو نهائي في كل منتج إبداعي على الإطلاق. وبهذا المقترب يقول الشاعر صالح هواري:" أزمة التلقي كامنة في المبدع نفسه، فهو بقدر ما يتواصل معه القارئ يحقق نجاحه ونجاح أثره الإبداعي، وكم من الشعراء استطاعوا أن يغزو قلوب المتلقين بإبداعاتهم الخارقة كـ (محمود درويش) بقامته الشعرية الباسقة، وما قدمه للشعر العربي من روائع، وكـ (أدونيس) الذي شكل مدرسته الشعرية المتميزة، و (نزار قباني) الذي استطاع أن يتسلل إلى أعماق الجماهير كأنسام الصباح على الرغم من سهولة شعره، وشفافيته، وأما بعض الشعراء الذين حاولوا استعراض عضلاتهم الفنية في حلبة النص فقد ظلوا خارج اهتمام القراء بهم؛ لعجز نصوصهم عن الوصول إلى دواخلهم"(13).

وهذا دليل أن المنتج الإبداعي بمغامرته ومفاجأته النصية؛ ولهذا، فإن لذة التلقي لا تتأتى إلا من لذة المنتج الإبداعي، وعنصر مفاجأته، وإثارته الجمالية، ولذلك، لا قيمة للمغامرة الجمالية إن لم تكن مباغتة وصادقة للقارئ، تحفزه للتفاعل مع المنتج الجمالي كما لو أنه خالقه، أو صانعه الجديد.

الحرية:

إن الحرية مصدر الإبداع، ولا نبالغ إذا قلنا: إنها مصدر الفنون الإبداعية جميعها، وهي الرسالة التي نوجهها لكل المبدعين:[ عش حريتك، ولا تتخلى عن إنسانيتك، في ممارستك لهذه الحرية بالشكل الجمالي لمعنى الحرية والتعبير الشفيف أو الجمالي عنها]؛ ولا يمكن لأية مغامرة جمالية ناجحة أن تتحقق بشكلها الأمثل إن لم يكن صاحبها حراً يمارس حريته الوجودية والإبداعية على خير ما يرام، يقول (بودلير):" لينتج الفنان ينبغي أن يتمتع بحرية كاملة إزاء الواقع"(14).
هذه الحرية تخوله أن يغامر، وأن ينتج فنياً في مغامرته، ويسمو بإنتاجه الإبداعي، وليس كذلك فحسب، بل في تفكيره الإنساني والوجودي؛ وأعتقد أن الفنان لا ينتج إبداعاً حقيقياً إن لم يتنسم عبير الحرية، ويتنفس أريجها بحرية، وهذا ما ألمح إليه الناقد والشاعر الكبير حميد سعيد بقوله:" إن الإبداع كان –باستمرار- هو الذي يزيح الكبت من خلال ما يؤسس من وعي للتغيير..... فهي الحرية التي يكتشفها الإبداع، وليست هي التي تحدد بنصوص وفرمانات وتعليمات. وسرعان ما تضيق بالإبداع، أو أن جموح الإبداع يضيق بها، فتتحول هي الأخرى إلى أدوات كبت"(15).

إن هذا الرأي لهو خلاصة مفهوم الجمال بل إنه صفوة الجمال.وهذا يؤكد أهمية الحرية ومتنفسها في الإبداع الجمالي، ولا يمكن أن نتنسم عبيرها إلا من مبدع وهاج يؤسس للجمال، ويسعى إلى ممارسته في مغامرته الجمالية، وبهذا المقترب يقول الشاعر فائز العراقي، مبيناً أهمية الحرية في الخلق الإبداعي ما يلي:" باختصار شديد: بدون حرية ليس هناك إبداع، وحتى إذا وجد فإنه سيكون جنيناً ناقصاً وغير مكتمل، وأحياناً يكون مسخاً مشوهاً. اقرأ كل الإبداعات العظيمة في تاريخ البشرية ستجد أنها ولدت في حضن الحرية الوافرة، أو أنها استفادت من توفر الحد الأدنى للحرية، الحرية هي قرينة الإبداع والتفتح والنور، والاستبداد هو علاقة الموت والتفسخ والتشوه، نعم تشكل الحرية محفزاً كبيراً في الإبداع، وهي (أس) الظواهر الإبداعية جميعاً، فالتجربة في استخدام أشكال فنية جديدة هو حرية والتجريب هو شكل من أشكال الحرية،فالحب يحتاج إلى حرية، وتحقيق العدالة يحتاج إلى حرية، والتعبير عن كل ظواهر الحياة المتعددة يحتاج إلى مناخ الحرية"(16).

وبهذا التصور، فإن الحرية زاد الإبداع الذي لا غنى عنه؛ ولا يمكن لأية مغامرة جمالية ناجحة أن تسمو، وترتقي بمعزل عن أسها الجمالي، ورحيقها الإبداعي، ألا وهو الحرية التي شغلت الكون، وشكلت معضلة وجودية في تاريخ البشرية جمعاء.. فمن لا حرية له لا حياة له... ولا إبداع ناضج منفتح انفتاح الحياة، والكون يمكن تحقيقه بمعزل عنها.

الأسلوب:

إن لذة أيَّ فن من الفنون تأتي من لذة مغامرته الجمالية. ولذة مغامرته الجمالية تأتي من جمالية الأسلوب، والطريقة الجمالية في التعبير عنها، والمساهمة في إنتاجها، وتحقيقها كقيمة جمالية عظمى؛ لتحقيق المنتج الإبداعي الفني المؤثر؛ يقول (ديلا كرما):" إن الحياة، والتعبير، والشكل مرتبطة ترابطاً وثيقاً لدى الفنان، وإن طريقته -في الملاحظة- حتى في الإدراك الحسي متكاملة أصلاً. فالفنان يرى الدوافع، وكل انفتاح لديه يتجه نحو الفن"(17).

وتبعاً لهذا، يرى (بودلير) أن" الفن – في حقيقته- كذلك مفيد، هدفه تسليتنا، وبعث البهجة فينا، وهو- بهذا- يتضمن حقيقة وواقعاً، لكن هذه الحقيقة وذاك الواقع اللذين يتصف بهما الفن لا يرفعان لا إلى الأشياء، ولا إلى الأحداث الجارية في الحياة العادية، بل هما الأثر الوحيد للأسلوب"(18).
وللتأكيد على المهارة في الفن يعتقد (بودلير) أن الفن المتع جمالياً هو الفن المغامر بأسلوبه، إذ يقول:" الأسلوب هو الذي يجعلنا نؤمن بالشيء.. وما من شيء يجعلنا نؤمن هكذا غير الأسلوب.
والدليل على ذلك هو أن أشد الأعمال الفنية دقة يلقي فينا شعوراً، بغير الحقيقة إن هو أخطأ في أسلوبه"(19).

وتأسيساً على هذا، فإن الفن الجمالي هو الفن الذي يباغت في طريقته، ويباغت في أسلوبه، ويباغت في رؤيته، ويباغت بموضوعه الجمالي ذاته. يقول الناقد والشاعر الفذ خليل الموسى:" إن سر نجاح أي عمل فني- وخاصة القصيدة- في العمارة، في العلاقات بين العناصر، في الشكل العضوي"(20).

ولن ترقى المنتوجات الإبداعية إلا بارتقاء أساليبها، وطرائقها التشكيلية؛ وخصائصها الإبداعية المميزة،ومن أجل هذا خلص (بودلير) إلى حقيقة مهمة:"إن الفن يأخذ الحياة كمادة من المواد الخام التي يعمل فيها، ويعيد خلقها وتشكيلها بأشكال جديدة، وهو لا يبالي بالحقائق، بل يخترع، ويتخيل ويحلم، ويبقى بينه وبين الحقيقة على حاجز منيع، هو حاجز الأسلوب الجميل"(21)..

ولهذا، يرى (بودلير) أن جمالية أي فن من الفنون تكمن في أسلوبه، والطريقة التي بها يتجسد ويتحقق إبداعياً، محركاً المتلقي بفاعلية تأثيره، والأثر الجمالي أو الطيف الجمالي الذي يتركه في نفسه لحظة تلقي هذا الفن وتلقفه جمالياً، إذ يقول:" إن الأشياء قائمة في الفن، لأننا نراها، ولا نراه، والطريقة التي نراه بها تتوقف على الفن، وهي التي تترك أثرها فينا"(22).

وتبعاً لهذا؛ فإن الفن الجمالي المثير أو المغامر جمالياً، هو الفن الذي يترك أثره فينا، أو الذي يكسبنا جمالية عديدة لحظة التلقي، نستشفها مع كل لحظة تأمل، وتأويل جمالية جديدة للمنتج الفني، يقول بودلير:" إن الحياة تقلد الفن أكثر مما يقلد الفن الحياة"(23).

وهو بهذا يشير إلى أن الحياة أحوج للفن أكثر من الفن ذاته بحاجة للحياة، وبقدر ما يولد الفن فينا من لذة وإثارة بأسلوبه وطريقة تشكيله بقدر يجعلنا ننظر للفن بمنظار جمالي محققاً قيمة جمالية عظمى؛ لأن الفن هو -أولاً وأخيراً- مغامرة في الأسلوب، والتشكيل، والرؤيا.. (فلغة الشاعر الفنية) هي التي تجعل منطوقه الشعري يمتلك أعلى درجات الحساسية والفن، ولهذا حاول نقاد الفن أن يعززوا العلاقة بين الفنون، أو ما يسمى ب(تراسل الفنون)، لتكتسب طرائق جمالية جديدة، وتقنيات أسلوبية مبتكرة، تزيد المنتوج الفني خصوصية إبداعية، وفاعلية جمالية مؤثرة، يقول ثائر زين الدين:" إن أكثر الشعراء – نجاحاً- هذه الأيام هم أولئك الذي ينفتحون على الفنون جميعها، ويوظفونها ما استطاعوا في عملهم الفني، الشعر يستطيع أن يسترفد فنون السرد وتقاناتها... ويستطيع أن يضيف جماليات جديدة إلى القصيدة؛ حين يوظف فن السينما، وبعض تقاناته، ولا تقل أهمية هذه المسألة في ذلك عن مسألة استلهام الفن التشكيلي في الشعر، والاستفادة من بناء اللوحة في بناء القصيدة، ومن اللون الذي هو علم قائم بذاته، ومن التكوين والثقافة البصرية، ونستطيع أن نذكر عديداً من الشعراء الأوربيين والعرب الذين فعلوا ذلك بدرجات متقاربة"(24).

وهذا يعني أن اقتراض بعض التقنيات الفنية من فنون أخرى، كفيل بتطوير الأدوات الفنية في كل فن من الفنون، لتتغذى الفنون على رحيق بعضها البعض، وترتوي بنكهة الفن، وجوهر الحداثة، والتطور التقني، وهي عنصر بارز في إنجاح المنتج الفني، وتخصيبه جمالياً.

الرؤيا المبتكرة أو الجديدة:

لا شك في أن نجاح أي منتج إبداعي مؤثر يتوقف على عنصرين جوهريين هما: (الرؤيا المبتكرة)، و (الأسلوب الجمالي الرائق) في تجسيدها. والمبدع الجمالي لن تنجح مغامرته الإبداعية إن لم تنطوِ على مغامرة جمالية، ورؤيا مبتكرة في تجسيدها، فالرؤيا هي المنظور الرؤيوي العميق لكل فن إبداعي مؤثر، أو مدهش فنياً؛ خذ مثلاً: على حد تعبير (سان صالص) ) قوله:" كم تكون الجاذبية عظيمة عندما تأتي لذة موسيقية خالصة، لتنضم إلى لذة الخيال الذي يعبر طريقاً معروفاً دون تردد، رابطه في ذلك بين الفكرة والموسيقا. وهذا ما يحدث بسهولة مطلقة، لأن كل قدرات الروح تجد مجالاً لنشاطها، وكلها ترمي إلى نفس الهدف"(25).

وهذا يعني أن قمة اللذة الجمالية لا تحدث إلا بالتلاقي الروحي العميق بين (الرؤيا) أو[ الخيال المتوهج الذي يجوبه]، و (إيقاعها المتوهج) عبر الشكل الجمالي الذي تتخذه، أو تشكله فنياً، لهذا يقال: إن الفن صنعة المجهول، أو صنعة الواقع بطريقة مجهولة، ووسائل مألوفة. يقول الأستاذ (باير) – وهو عالم من علماء الجمال البارزين" إن جميع القيم البشرية تصعد قطعاً في سماء الفن، لكن الجمال الذي يصبغها بصبغ من نوع آخر، وما هذا إلا تقييم القيم"(26).

ومن أجل هذا، يعد الفن متعة مبعثها الخيال المجنح، والقيم الجمالية في التعبير أو طرائق التعبير الجمالي عنها؛ وبقدر ارتقاء الرؤيا وجدتها ترتقي فاعلية الفن، وتزداد أسهمه جمالياً:" أليس الشعر عبارة عن ارتعاش القلب الذي ينتصر لحظة على التافهات من أمور الحياة؟ ذلك أن النقاهة غير موجودة، لأنها عبارة عن شيخوخة القلوب التي جفت. وإذا كانت السريالية ما تزال تولي اهتمامها لأكثر القصائد ترنحاً قبل أكثرها صناعة واتقاناً، فذلك لأنها تلقي بنفسها في البحث عن ذلك القلب التائه الذي يبحث -هو بدوره- عن إشعاع الصور العذراء، إذ إن الشعر الحقيقي ليس بمثابة تسلية يقوم بها صانع مجوهرات، أو راقص، بل هو كوكب عظيم يجتاز مناطق الأرض، ويبعث الغرام إلى قلوب يضيئها"(27).

ولهذا، يعد فن الشعر فن المتعة الخالدة، أو فن المتعة الروحية ليطهرها مما علق بها من آثام الوجود، والحمل قيمة عليا يسمو بها الفن إلى لحظة الانعتاق والتطهير الوجودي، ولهذا، فإن أرقى الفنون جمالية هي التي تسكر الروح، وتبعث في نفس المرء نشوة أو لذة في تلقيها، يقول جان برتليمي:" لا أظن أن الشعر الحقيقي تسلية يقوم بها صانع مجوهرات، أو راقص، يلعب على الخيال ولذلك أؤكد أنه من الضروري أن يمر وقت يطول أو يقصر بين تحرك العاطفة والعمل الفني"(28). وهذا الوقت هو وقت التملي للمنتج للتفاعل معه شعورياً، والإحساس بجاذبية المغامرة الجمالية وانعكاسها داخلياً على نفسه وحركة شعوره الداخلية.

وهكذا، فإن ما ذكرناه من شروط لكفيل بتعضيد أسس المغامرة الجمالية، ومصدر نجاحها، وهذا لا يعني توافرها جميعها حتى تحقق المغامرة الجمالية نجاحها في المنتج الإبداعي المثير، إذ قد يتوافر فيها البعض، ويغيب عنها البعض الآخر، أو تتفتق معايير جمالية جديدة ؛ لكن ما ذكرناه من معايير لا شك في أنها تملك أهميتها في تحديد مفاصل نجاح أي منتج إبداعي في مغامرته الجمالية؛ لأنها شروط موضوعية تتوافر في كل منتج فني إبداعي أصيل أو مؤثر.

فواعل المغامرة الجمالية في شعر بشرى البستاني:

إن من يطلع على تجربة الشاعرة بشرى البستاني يدرك أن المغامرة الجمالية هي ما تسم قصائدها الشعرية،لاسيما قصائدها الموسومة ب(البسي شالك الأخضر وتعالي) التي تتمتع برؤاها المكثفة،ودلالاتها الصوفية المفتوحة ومؤثراتها الجمالية الخلاقة من ناحية تكثيف المشاهد والصور المتحركة،والاستعارات المغرية في سياقها النصي؛ ناهيك عن تفعيل إيقاع السرد بالحوار البوحي الصارخ،وما يتضمنه من دراما المشاهد المتحركة بالأحداث واللقطات المتضادة، التي تنم على قمة الصراع والتوتر والاحتدام الشعوري، على مستوى الأحداث واللقطات الشعرية المتوترة،كما في قولها:

"و تقولُ... انظري في عينيّ تبصري الشجرَ الآتي
وانظري إلى النهر يتطهرْ من دمائه النازفة
ومن صبيرٍ يكتنف ضفافهْ
قلتُ لكن زرقاء اليمامة ماتت من زمن
واندثر ألقُ عينيها.
قلتَ.. لكن الألق لا يموت ْ
الألق ينحلُّ ليعاود النهوض مرة أخرى
على وقع همسه تشتبك السمواتُ بالأرض بالبحر
والعشب بالعطر بالدم بالغسق
والشهداءُ بالخمر والضوء والحمى
دليلي انك تنظرين إليَّ فأتوهج.
وتلمسينني فأتحول إلى ماء"(29).

بادئ ذي بدء، نشير إلى أن المغامرة الجمالية الناجحة في قصائد بشرى البستاني تؤسس إثارتها على تقنية الحوار البوحي الوجدي الذي يتم فيه تمثيل الحالة الصوفية بإيقاع الأخذ والرد، بين (المخاطَب،والمخاطِب)،و(الفعل ورد الفعل)، وكأن الذات الشاعرة ترمي إلى إبراز الحالة الوجدية، أو المشهد الصوفي بإيقاع الحوار، لإبراز حرارة الموقف الصوفي،وبثه بمصداقية،وشفافية مبئرة للمشهد الصوفي، على شاكلة النسق الحواري التالي:[ قلتُ لكن زرقاء اليمامة ماتت من زمن واندثر ألقُ عينيها.قلتَ.. لكن الألق لا يموت ْ..الألق ينحلُّ ليعاود النهوض مرة أخرى]؛ إن الحوار على الرغم من بساطته يحمل رؤيا دالة على الوجد،والوله الصوفي، وقد تبدت فاعلية الحوار ببثه الوجدي أكثر كلما تغورت الشاعرة في إبراز دفق المشاعر وخصوبة الأنساق التصويرية التي تشدها على شاكلة قولها:

"وإذ تقولين احبك َ.. أدخل ُ في الغياب ْ
دليلي انك تمسحين جرحي
فيطلعُ ورد ٌ أحمرْ
وتغمضين بورد شفتيك عينيَّ
فتنهمر الحقول وسنىً،و تتلعثمُ الغيومْ
دليلي أنك تنظرين إلى الصخر فيتبسَّم
ويبللُ رموشَهُ ندى يتوهجُ في نبع عينيكِ"(30).

بادئ ذي بدء،نقول إن المغامرة الجمالية – في قصائد بشرى البستاني- أثبتت نجاحها من خلال المفارقات الجمالية المنتجة للأحاسيس والمشاعر المحتدمة،لاسيما باعتماد إيقاع التشخيص لتحريك الجمادات لتحكي اصطراعاتها ومواقفها المضادة لكل أشكال القمع والاستلاب، فهي تؤسس لما هو قميء، وبشع لإظهار وجه الجمال والإشراق؛ ولهذا غلبت على صورها الحركة لإبراز ملمح الحياة ضد سكونية الموت، وبشاعة الواقع الدموي المدمرلكل معالم الحضارة والجمال،فلم تجد أجمل من الصور الصوفية المشرقة بالحياة:[تغمضين بورد شفتيك عيني/فتنهمر الحقول وسنىً وتتلعثم الغيوم]؛وهكذا؛ تتأسس المغامرة الجمالية عند بشرى البستاني على الصور المركبة أو الصور التشخيصية المتحركة لتثبت فاعلية مشاهدها وصورها المتحركة.ومن أجل ذلك نلحظ ارتقاءً ملحوظاً في الأنساق اللغوية، لتمثيل الرؤيا وتعميق التجربة.

ولعل أبرز المؤشرات الجمالية الدالة على نجاح المغامرة الجمالية في قصائدها مايلي:

بلاغة الاستهلالات والخواتم النصية:

ما من شك في أن للاستهلالات النصية الموفقة إيقاعها الجمالي المؤثر الذي ترتقي من خلاله القصيدة،وتضرب بإيقاعها الجمالي المحكم،عندما يوفق الشاعر في استهلالاتها المحكمة ذات الدلالات البليغة والرؤى العميقة،والشاعر المبدع دوماً هو من يحقق لقصيدته التكامل والتفاعل الجمالي.

ومن يطلع على قصائد بشرى البستاني يلحظ إحكامها النصي،سواء أكان ذلك على مستوى فاتحاتها النصية، أم على مستوى خواتمها النصية،مما يحقق لها التكامل والتفاعل والانسجام، وهذا دليل مغامرتها النصية الجمالية الناجحة،وللتدليل على فاعلية هذه المغامرة،نأخذ قصيدتها (أسمع تراتيل النبع من بعيد)؛فقد افتتحتها ببلاغة وقوة جمالية من خلال قولها:

"تُولَدُ القَصِيدَةُ مِنْ نَارٍ في دمي
ونورٍ في عينيك.."(31).

إن هذه الفاتحة الاستهلالية تدلل بقوة على حراكها التصويري الدال على الحالة الشعرية،و بلاغة الرؤيا، ومثيراتها النصية؛ فالشاعرة على ما تبدو تحرك قصائدها بمغامرتها الاستهلالية التصويرية البليغة التي تجمع قوة اللفظ وتوهج الرؤيا الشعرية في نسقها، وهذا دليل فهم عميق وخبرة تشكيلية في بناء القصيدة بناءً محكماً يعتمد الدفقة المحكمة ومغرياتها،سواء في الاستهلال، ولاسيما عندما تتوجها في فاصلة الختام،وهذا يكسبها عمقاً وإحكاماً جمالياً يرتد على مستوى الرؤيا بشكل عام،كما في القفلة النصية للقصيدة نفسها:

"بجمرة حصاة في قلبي
وبلابل تهدم أعشاشها في دوالي الروح
زهرُ المشمش منهمكٌ بالرِّيحْ
لا يشكوها
بل يعطي راحته الوسنى
للرَّقصة في عزِّ القصف"(32).

لابد من الإشارة إلى أن القيمة الجمالية للقفلة النصية في قصائد بشرى البستاني-تتبدى في حنكتها الجمالية التي تحرك الفواعل الرؤيوية والنصية للقصيدة،لإبراز ملمحها الجمالي المؤثر؛ وبقدر مهارة الشاعر في خلق الصورة المؤثرة، والبلاغة في توصيلها رؤيتها في الفاصلة الختامية بقدر ما تترسخ في الذاكرة الإبداعية لدى المتلقي،وتدفعه لتمثلها وترددها بشكل تلقائي، وهاهنا نجحت الشاعرة في مغامرتها الجمالية عندما حلقت بنسق الصور إلى آفاق جمالية مراوغة قد لا تصلها في واقعها آخر،نظراً إلى ما تتضمنه من تضاد في الموقف والحالة الشعورية، بين ما تحسه وتشعر به،وما تعانيه بواقعها المؤلم، فجمعت جمال الصور وواقعها المضاد دلالة وإيحاءً على جمع النقيضين السلب بالإيجاب، والإيجاب بالسلب،كما في النسق التالي:[ زهرُالمشمش منهمكٌ بالرِّيحْ /لا يشكوها/بل يعطي راحته الوسنى /للرَّقصة في عزِّ القصف]؛وهذا يدلنا على أن الإحساس الجمالي المغامر الذي تملكه الشاعرة جعلها توظفه في خدمة صياغة القصيدة وبنائها النصي المحكم،مما يدل على أن شعريته موظفة بعناية لإبراز جمالية النسق الشعري،وبداعة الرؤيا التي يتضمنها.

وهكذا،تؤسس الشاعرة بشرى البستاني فواعل مغامرتها الجمالية على البناء النصي المحكم في قفلة الاستهلال وفاصلة الختام،لخلق درجة من التفاعل والتكامل الجمالي في الأنساق الشعرية بين الفاتحة الاستهلالية القوية في دلالاتها، والفاصلة الختامية في رؤاها ومغرياتها الجمالية، لخلق متغيرها الجمالي الفاعل، ومضمونها المؤثر.

2- جمالية الصور المتضادة وإثارتها الجمالية:

ونقصد ب: جمالية الصور المتضادة الصور التي تصور المواقف المحتدمة، برؤاها ومؤثراتها الجمالية، مما يخلق حالة من التفاعل بين دلالات الصور لإحلال رؤية إيجابية أو موقف رافض إزاء موقف ما أو رؤية معينة، وهذا يعني أن الصور المتضادة من فواعل الرؤيا الجدلية التي تتخذ موقفاً معيناً إزاء مشهد ما أو صورة معينة،مما يدل على حنكة في اختيار الصورة المحتدمة بفواعلها المعكوسة والمتضادة في دلالاتها ورؤاها لتخلق حالة من الصراع والديالكتيك الوجودي على شاكلة قولها:

"وأبحثُ عن لغةٍ تترصّدُ صمتكَ
كيف دخلتَ وأبوابيَ موصدةٌ
والمواقيتُ خانت مواعيدها
تترقَّبُ بوحاً غريباً يلوبُ،
ويرقى لغيمة روحكَ
بوحاً يفوحُ بلا لغةٍ
ويلازمني.. وجعاً وتعاويذَ خضراً،
وتعلو النداءاتُ
تلتفُّ أغصانها حول خصري
فأسلمها ساعديَّ
الجداول حولي تدورُ
ضفائرها تتهجاكَ
شوقي يزيّنُ لي أن أكسّرَ طوقَ الكلامِ
لأزرعَ سربَ يمامْ"(33).

بادئ ذي بدء، نشير إلى أن الصور المتضادة ليس من قوى تأثيرها إثارة الجدل فقط للمواربة في الرؤيا،أو العبث بها ؛ إنها في قصائد بشرى البستاني تقوي الدلالة،وتسهم في إنتاجها؛ وهذا ما يحقق من فواعل إثارتها،وتحفيزها جمالياً.

وهاهنا، لجأت الشاعرة في المقتطف الشعري السابق- إلى تقنية التضاد بالموقف والرؤيا والصورة،لترسيخ حالة الاحتدام الوجودية التي تعانيها من توق في توصيف الحالة الصوفية الوجدية بكامل اصطهاجها وتوترها واحتدامها؛ وكأن الصورة الصوفية تنتفض بدلالاتها،وتكنس رؤاها، لتأتي الرؤى المضادة فاعلة في تعزيز الموقف الشعوري الوجدي، بكامل احتدامه، وتوتره، وهذا ما جسدته عبر الصور التالية:[ الجداول حولي تدورُ/ضفائرها تتهجاكَ /شوقي يزيّنُ لي أن أكسّرَ طوقَ الكلامِ/لأزرعَ سربَ يمامْ". وهكذا،تعزز موقفها الصوفي ببداعة الرؤية الشعرية، عبر التضاد بين مؤثرات الصور؛ لإبراز الحركة الشعورية، بكامل احتدامها وحرقتها الوجودية.

ومن الصور ما تأتي لاهبة في مغامرتها الجدلية، لدرجة تبدو الحركة الجمالية من نواتج الرؤيا الجدلية الصاخبة كما في قولها:

أين يذهب النهر في الليل
هل يتوقف عن الجريان ليغفو
أين يمضي البحر في الليل
هل تتوقف أمواجه عن محاصرة الشواطئ
أين تذهب الشواطئ في الليل
هل تجمع أصدافها وتلاعب النجوم
أين تذهب الشوارع في الليل
حين نهجرها أنا وأنت
أين نذهب أنا وأنت
حين نغفو على سواعد المحنة
أين تتدحرج التفاحة الأخيرة
حين تعجز عن قطفها أصابعنا
أين تذهب "أين"
حين نكفُّ عن السؤال"(34).

هنا،تعتمد الشاعرة الجدل التساؤلي لإبراز ملمح التأمل والتدبر والتفكر بالأشياء، رغبة في إبراز متغيرها الجمالي، فهي هاهنا،تفتح بوابة الاكتشاف والمعرفة على مصراعيها من خلال عتبة التساؤل التي تفتح أفق المعرفة،وتسعى للوصول إلى اليقين، الذي تطمح إليه، وهي هنا الوصال والالتصاق؛ وقد أدت التساؤلات أدواراً مهمة جدلية تؤكد مواقفها المتضادة لإبراز منتوج الرؤيا بين جدل (الذات / الآخر)،والاصطراع البوحي الذي تثيره الذات الشعرية في معمعة وجودها وقلقها.
وهكذا تؤسس الشاعرة بشرى البستاني متغيرها الجمالي على بلاغة التساؤل الوجدي الذي تبث من خلاله تأملاتها ومشاعرها الوجودية المحمومة توقاً وحنيناً للوصال؛ ومن أجل ذلك يمكن القول: إن الصور عندما تأتي بصيغة التساؤل تؤدي فاعلية مضاعفة في الاستثارة والتأثير؛ لاسيما عندما تحفز التساؤلات الوجودية،وتؤدي دوراً تفعيلاً في مضاعفة مردود الصور جماليا، لترقى بالمردود الجمالي للدلالات ومؤثراتها ضمن النسق المتضمنة فيه.

3- الحرفنة التشكيلية:

ونقصد ب[ الحرفنة التشكيلية]: المهارة الجمالية في تشكيل الأنساق اللغوية المباغتة التي تثير الرؤيا،وتحقق بلاغتها التأثيرية في النص الشعري، من خلال فاعلية المشهد وقوة الدافع الجمالي في اختيار النسق الجمالي الملائم في سياقه الشعري المناسب، وتفعيل الرؤيا، بما تتضمنه من رؤى ودلالات مبتكرة تسهم في توسيع الدلالات، ومضاعفة مردودها الجمالي.

وما ينبغي التأكيد عليه أن الحرفنة الجمالية - في قصائد بشرى البستاني - تعتمد الشكل اللغوي المبتكر، والحيازة الجمالية المحركة للأنساق الشعرية المراوغة لترقى درجات من التكثيف والإيحاء الشعري؛ ولا يمكن للمغامرة الجمالية أن تحقق مبتغاها الجمالي بمعزل عن حيازتها التركيبية،وألقها التشكيلي المؤثر.

وبتقديرنا: إن بؤرة نجاح المغامرة الجمالية في قصائد بشرى البستاني حيازتها على كم وافر من الاستعارات اللاهبة في دلالاتها، والمحمومة بالمشاعر،والقيم الجمالية على شاكلة قولها:
"في أيّ نبعٍ،

أيّ حلم ْ،
داخل َ الزمنِ، أم خارجَهْ،
بحضور ِ الشقائق والزنابقِ والسكاكين ِ
أم في غفلةٍ من الشجرْ....
داخل َ الوجع والحمّى،
أم خارجَهما..
أين كان ذلك ْ..
في تسلُّل ِ خطوكَ المرهف ِ فوقَ كلوم ِ روحي،
في أنين اللهفاتِ المذعورة،
في همس شاطئٍ يناديني،
أم شاطئٍ يناديكْ..
في نزيف الغابة ِ الخريفيّ،
في انبهار العطر ِ،
في وجع القداحِ وهو يتلمسُ حضوراً يدّعي النبوّة َ
ويُعيدُ تشكيلَ الأشياءِ"(35).

لابد من الإشارة بداية إلى أن الحنكة الجمالية أو الحرفنة التشكيلية في إثارة الأنساق الصوفية المشتعلة، ترتقي بالرؤى الصوفية،وتثير نواتجها الدلالية،وصورها المحمومة بالدلالات،والرؤى المكثفة لدرجة الاحتراق، فتأتي الصور الشعرية كاشفة للكثير من الرؤى والدلالات المباغتة التي ترتقي بالحالة والمشهد الشعري في آن.وهاهنا استطاعت الشاعرة بحنكتها التشكيلية أن تخلق درجة من الاستثارة واللذة الجمالية في الأنساق الاستعارية التالية:[وجه القداح- نزيف الغابة الخريفي- انبهار العطر- همس شاطئ ينادي- أنين اللهفات المذعورة-تسلل خطوك المرهف]؛ واللافت أن محفزات هذه الأنساق تكثف من نواتج الرؤيا الصوفية وحالة التوق والاحتراق والوله الروةحي الذي أثارته،لاسيما في قولها[في تسلُّل ِ خطوكَ المرهف ِ فوقَ كلوم ِ روحي،/في أنين اللهفاتِ المذعورة،في همس شاطئٍ يناديني ]؛ وهكذا تكتسي هذه الاستعارات أهمية جمالية في نسقها الشعري، لتؤدي دلالات لاحصر لها،من حيث الفاعلية والبكارة،وعمق التأثير؛لدرجة تشير إلى خصوصيتها في التشكيل على مستوى الوسائل والأدوات الجمالية،والحس الجمالي في ترسيم الصورة الصوفية اللاهبة التي تقتحم عالم المتلقي بقوة، محركة فيه شعوراً باللذة والنشوة والدهشة في تلقيها.

وهذه المغامرة التشكيلية في اختيار النسق المؤثر جمالياً هي ما يمنح محراب القصيدة عند بشرى البستاني ألقها وتناميها الجمالي على شاكلة قولها:

" لكنْ بالأساطير التي أوصدتْ أبوابَ الخلقْ..
وأقولُ..
أدخلني في نوركَ كي أُمسك َ بجذور الرياحْ
واصنعْ لي لغةً تتَّسع ُ لأمجاد حزني كي أبصرَ براهينكْ ….
وادخلْ زمني...
كي تظل َّ مُشتعلاً فيهْ.."(36).

إن القارئ هنا، يتحثث بسهولة مهارة الشاعرة وحنكتها الجمالية في اختيار النسق الملتهب بالدلالات والرؤى الصوفية عبر مبدأ التكثيف والاقتصاد اللغوي من أجل تشكيل الرؤيا البليغة والموقف الرؤيوي الصوفي الجذاب، بالانتقال من المتخيل إلى المرئي، ومن المجرد إلى المحسوس، لتحريك النسق الشعري وإبراز نواتجه الدلالية الملتهبة على شاكلة الاستعارات التي تؤكد شعرية مغامرتها،عبر ما تبثه من رؤى ودلالات مبتكرة:[أوصدت أبواب الخلق= أمجاد حزني]؛وهذا يدلنا على أن الشعرية من محركات الحنكة الجمالية التي تمارس سطوتها؛ بإيحاءات بليغة؛ غاية في الاستثارة والتأثير.وقد جاء قول الدكتور خالد مصطفى بليغاً في وسم تجربة الشاعرة بشرى البستاني، وفق ما يلي:[حين أقرأ قصيدة بشرى البستاني أشعر بنوع من الاشتعال الروحي يبعد عني كل ما له صلة بنوع اللغة والإيقاع ومجالات التصوير، فكانت القصيدة تنثال في القلب لا على هيئة أصوات لغوية بل على هيئة تصورات صوفية تنتفي فيها الحدود، ويصبح الإنسان والوجود والأشياء فيها دالا بعضه على بعض، فانيا بعضه في بعض،لقد تحققت في هذا النص القيم الفنية من تكرار نسقي واسترسال التعبير، والحس الصوفي] (37).

وهذا دليل غنى تجربة الشاعرة بشرى البستاني على صعيد الرؤى والأخيلة والدلالات المفتوحة التي تثيرها في النسق الشعري،محققة قيمة جمالية،سواء في سلاسة التعبير ورشاقته، أم غنى الصور بالدلالات والرؤى المفتوحة، وهذا يدلنا على أن مرجعية اللغة وحراكها الفاعل،وجودة تشكيلاتها الفنية المبتكرة في نسقها الشعري الخلاق؛ مما أضفى على هذه التجربة خصوصية نادرة في الخلق والإشراق الجمالي.

4- الأسلوب الجمالي:

لاشك في أن للأسلوب الشعري جماليته الخاصة التي تتأتى من فواعل التجربة ومحركاتها الشعورية العميقة،والخبرة الجمالية في نقل هذه المشاعر بطرائق جمالية مبتكرة تؤكد فرادة هذه التجربة وخصوصيتها عن باقي التجارب الأخرى؛ ولهذا، فإن الشاعر المبدع هو الذي يرقى بأسلوبه الشعري، ليحقق قيمة جمالية في هذا التشكيل اللغوي أو ذاك، وبهذا المعنى المقارب تقول الناقدة خلود ترمانيني:" الشاعر وحده يقوم بإعادة تركيب عناصر اللغة، بعد أن يتم انتقاء عناصر يحددها الشاعر الذي يمتلك قوة روحية تندغم مع انتظام لغوي ملهم؛ وهذا يعني أن اللغة انعكاس لروح الشاعر التي تعد أساساً من أسس الإبداع الشعري"(38).

وبتقديرنا: إن سر نجاح المغامرة الجمالية – في قصائد بشرى البستاني – جمالية الأسلوب الشعري الذي تتصف به الشاعرة محققة قيمة جمالية في الشكل الجمالي، أو النسيج اللغوي الجمالي لأنساقها الشعرية، لدرجة تسهم في إثارة الرؤى والدلالات المحمومة في هذه القصائد،كما في قولها:

"علمني الخلاصَ لأعلمك الكلام
دونما سردٍ ولا حكاياتْ،
ففي الخلوة نقهر اغتراب اللغة،
ونجوبُ الوجدانَ لحظة َ انفلات الكون من جسده ْ،
وهيامه فوق أفلاكي
إذ تغادر روحي قضبانها
محلقة ً في مياه أناملك َ"(39).

لابد من الإشارة إلى أن الأسلوب الجمالي هو سر المغامرة الجمالية الناجحة في كل تجربة شعرية على الإطلاق، فكيف بتجربة الشاعرة بشرى البستاني التي اعتمدت كل الوسائل الجمالية اللغوية المتاحة للارتقاء بتجربتها الشعرية آفاقاً مفتوحة من الرؤى،والاحتمالات المتعددة من سرد وحوار وتناص ودراما وصورة، ولقطات سينمائية (مونتاجات سريعة) و (مونتاجات بطيئة) ولقطات مفردة ولقطات مركبة،وهذه لوحدها تحتاج بحثاً مطولاً ينوء بحثنا الموجز الاضطلاع به؛ لكن ما يهمنا أن الأسلوب الجمالي هو ما يميز قصائد بشرى البستاني من حيث القيمة والفاعلية والأثر البديع،وهذه ما يثبته المقتطف الشعري السابق، إذ اعتمدت الشاعرة الوصف تارة،والصورة المتحركة في نسقها الجمالي لإبراز النبض الشعوري،وبث حالة الوجد والوله بكامل احتراقها واتقادها وولعها الداخلي، على شاكلة قولها:[ إذ تغادر روحي قضبانها /محلقة ً في مياه أناملك]؛وهذا التناغم بين ما يحرك النسق، ويستثير الحساسية الجمالية هو ما يشد من قيمة الأثر الجمالي الذي تحققه في أسلوبها الشعري؛وهذا سبب غناها بالمحركات الجمالية الخلاقة التي تبثها في قصائدها.

وما ينبغي التأكيد عليه أن جمالية الأسلوب تعد الأس الجمالي في الحكم على فنية المغامرة الجمالية ومصدر نجاحها، وبمقدار جدة الأسلوب وبكارته يستطيع الشاعر أن يثبت مغامرته الجمالية الناجحة وخصوصية تجربته وفرادتها وتميزها في النص، وللتدليل على ذلك نأخذ قولها:

"فيا أيتها السكينُ المدلاةُ أبداً..
هاكِ جيدي،
ناعماً،
وطرياً..
وصامتَ الأنينْ..
أتعبه حبلٌ متدلٍ،
يلوّحُ له كل يوم بالوضَمْ،
حتى اجتُثّتْ فرسُ الروحِ،
واسودَّ الشفقْ..
وعمَّ المنصَّةَ صمتٌ كبيرْ..
برقٌ يخضُّ جبل المكابدةْ،
والموتُ فيك يحييني
انظر إلى الجبل كي يطلع في عروقي برقٌ اخضرْ
ويؤمنُ الماء بالحصادْ..
انظر إلى الجبلِ
كي تستقرَّ جذورُ الطين
في سرب النميمةْ،
وتطلع النارُ في عينين تخضبان الضوء بالحمى
انظرْ إلى الجبلِ،
كي يكتبَ الماء قصائده
وتنهضَ أدغالُ الكلامْ."(40).

إن القارئ -هنا-يدرك اللعبة الجمالية في بث الحالة الشعورية المأزومة،وتنوع الأساليب في تمثيلها، من وصف، وسرد، وإخبار، وانتقال مفصلي على مستوى الأنساق اللغوية،لتحريكها وإثارة مرجعها الجمالي، فكل صورة تستدعي بحرقتها الأخرى، لتصور كامل المشهد الشعوري المأزوم؛ واحتراقها الداخلي، وليس ذلك فحسب، لكنها تجسد إيقاع اغترابها بالغياب والتشكيل الفراغي بين الكلمات؛ لتمارس حضورها محواً،وغيابها حضوراً مضاعفاً، كي تكتب على أدغال الكلام حقيقة ما تحسه، ويعتصر أعماقها من رؤى، وهواجس مؤلمة تتوق من خلالها التنفيس عنها بلغة التشظي، والإحساس المأزوم عبر هذه الأنساق الملتهبة بدلالاتها، ورؤاها المفتوحة:[سرب النميمة= جذور الطين- تخضبان الضوء بالحمى= تنهض أدغال الكلام]،وهكذا تبث الشاعرة من خلال تنوع أسلوبها كامل ما يعتصرها من وهواجس مأزومة، تعبر عنها بلغة الصورة حيناً،والسرد الوصفي حيناً آخر،لتدلل على شعرية مغامرتها عبر أسلوبها الجمالي، ورشاقة التعبير، وخفته في الانتقال من مشهد إلى آخر،ومن صورة إلى أخرى؛ ليكتمل المشهد الشعري، وتكتمل رؤاه،وحرارته الشعورية التي لم تجد وسيلة أنجع في الإحاطة التفصيلية به إلا من خلال تنوع الأساليبب،وطرائق التعبير الشعري،لتقف على حرارة ما تحسه ببلاغة وقوة وإثارة شعرية.

وهكذا، تؤكد الشاعرة بشرى البستاني نجاعة أسلوبها التعبيري في التأكيد على فاعلية مغامرتها الجمالية،وقيمتها في تشكيل نسق شعري يثبت جدارته وقوته التعبيرية على خارطة الإبداع الحقيقي الذي ترومه في تجربتها الإبداعية التي استقصينا بعضها، تاركين الطريق واسعاً أمام القراء ليلتمسوا منافذ جديدة لم تطرقها الدراسة، وحسبي بهذا جهداً.

نتائج أخيرة، لقد عمدت الشاعرة في مغامرتها الجمالية إلى تخليق الدلالات المتجانسة في السياقات الوجدية أحياناً،والدلالات الضدية تارة أخرى لإبراز جوانب الصراع التي تعانيها الشاعرة في واقعها المأزوم، ولهذا حشدت في قصائدها الصور الجدلية في السياقات الصوفية التي تفيض بالمشاهد الدرامية التي تتنوع الأصوات الشعرية لترصد محاورتها الأشياء عبر إيقاع الأنسنة وتشخيص المجردات، كنوع من الارتداد الشعوري لتعرية الواقع السوداوي وتقويض أركانه.

اعتمدت الشاعرة الصور المركبة التي تعتمد المشاهد المركبة أو المتداخلة لتفعيل الرؤيا الشعرية،وتوسيع الدلالات المرتبطة بها.مما يدل على بلاغة الرؤيا ومنظورها الرؤيوي المجسد.
إن لذة المغامرة الجمالية في قصائدها اعتماد التراكب أو الأنساق الاستعارية المركبة التي ترتكز على أكثر من صورة استعارية لتزيد من بواعث الرؤيا الشعرية ومنتوجها الرؤيوي المكثف.

إن المغامرة الجمالية – في قصائد بشرى البستاني- اعتمد ت الحنكة والتلاعب بالأنساق اللغوية، وتنويع مؤثراتها من سرد، ودراما، وحوار، ما يدل على أن شعريتها متنوعة الأساليب، و المشارب الشعرية، وهذا ما يجعل الأنساق اللغوية في تفاعل تام على مستوى الأنساق وفواعلها ضمن القصيدة؛ وبالتأكيد سيرتد صداها على النص بتمامه وكماله.

إن الدهشة التي وصلت إليها قصائد بشرى البستاني في مغامرتها الجمالية لاسيما بالسرد الوصفي، جعلت النص الشعري لديها يجري رشيقاً يفيض بالدلالات،، ما يدل على نجاح مغامرتها الجمالية في إصابة المعنى العميق والدلالات المفتوحة.

الحواشي:

(1) المرجع نفسه، ص 387.

(2) شرتح، عصام، 2012- ملفات حوارية في الحداثة الشعرية، ص 215-216.

(3) برتليمي، جان، 1970- بحث في علم الجمال، ص 456.

(4) شرتح، عصام، 2012- ملفات حوارية في الحداثة الشعرية، ص 215-216.

(5) برتليمي، جان، 1970- بحث في علم الجمال، ص 246.

(6) المرجع نفسه، ص 457.

(7) المرجع نفسه، ص 457.

(8) المرجع نفسه، ص 457.

(9) المرجع نفسه، ص 458.

(10) المرجع نفسه، ص 458.

(11) المرجع نفسه، ص 245.

(12) المرجع نفسه، ص 335.

(13) المرجع نفسه، ص 248.

(14) المرجع نفسه، ص 248.

(15) المرجع نفسه، ص 278.

(16) المرجع نفسه، ص 136.

(17) شرتح، عصام، 2012- ملفات حوارية في الحداثة الشعرية، ص 307.

(18) المصدر نفسه، ص 399.

(19) برتليمي، جان، 1970- بحث في علم الجمال، ص 136.

(20) المرجع نفسه، ص 251.

(21) المرجع نفسه، ص 351.

(22)شرتح، عصام، 2012- ملفات حوارية في الحداثة الشعرية، ص 251.

(23) برتليمي، جان، 1970- بحث في علم الجمال، ص 252.

(24) المرجع نفسه، ص 252.

(25) شرتح، عصام، 2012- ملفات حوارية في الحداثة الشعرية، ص 206.

(26) المصدر نفسه، ص 206.

(27) برتليمي، جان، 1970- بحث في علم الجمال، ص 72.

(28) المرجع نفسه، ص 442.

(29)البستاني، بشرى2014- البسي شالك الأخضر وتعالي،ص34.

(30) المصدر نفسه،ص35

(31) المصدر نفسه،ص290.

(32) المصدر نفسه،ص293.

(33) المصدر نفسه،ص306.

(34) المصدر نفسه،ص383.

(35) البستاني،بشرى- كتاب الوجد،ص26.

(36) المصدر نفسه،ص27

(37) المصدر نفسه،أقوال في الشاعرة،ص93.

(38) ترمانيني،خلود،2004- الإيقاع اللغوي في الشعر العربي الحديث، ص31.

(39) البستاني، بشرى،2015- البسي شالك الأخضر وتعالي،ص 69.

(40) البستاني،بشرى- كتاب العذاب،ص21


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى