أبو مثقال
كان صاحبُنا، أبو مثقال، يحملُ على عاتقه الدهرَ كله. أَكان بَلَغَ مائةً من سني عمره، أم أكثرَ أم أقلَّ، لا أدري والله، ولا أخالُه هو أيضا يدري. ذلك أنَّ الناسَ في ذلك الزمن الذي هبط فيه صاحبُنا من رحم أمِّه، خاصةً في الأرياف، لم يكونوا ليحفلوا بقيدِ النفوس الذي اقتضتْه الحضارةُ التي لم تكنْ لتُثبتَ لأهلِ ذلك الزمن الغائرِ ضرورةً لها في كثير من مناحي الحياة. يقول أبو مثقال إنه شهدَ السفربرلك وتطيُّرَ الناسِ منه، ويروي قصصا عن أعمامِهِ وأخوالِهِ وشبابِ جيرتهم من أهل البلاد، ممن كانوا يفرُّون من جنودِ السلطان العثماني إلى مفازاتِ الأرض وشِعابها، أو يقطعون بعضَ أصابع أيديهم أو أرجلِهم، لكي لا يصلحوا للعسكرية. وفي هذا، بطبيعةِ الحال، حيرةٌ ما بعدها حيرة. ذلك أنّ في العسكريةِ وصلاحِ الرجلِ لها مفخرةً للشبابِ أيَّ مفخرة. إنها الفروسيةُ المتوارَثةُ عن الآباءِ والأجدادِ، والموقفُ الذي تُعجَمُ به أعوادُ الرجال. لكنَّ السفربرلك، كما يروي لنا صاحبُنا الشيخُ، لم يكنْ ليرى الناسُ فيه فروسيةً ولا رجولة. ولعلكَ لا تفهمُ من أبي مثقالٍ تبيانا لذلك غيرَ إشارةِ ازدراءٍ من يدِهِ المرتجفةِ من وطأةِ الشيخوخة، وقولٍ مقتضَبٍ ينمُّ عن تحصيل حاصل يُخرجُهُ من فيهِ بصوتٍ خفيضٍ لا تكاد تتبيّنُ ملافظه، مفادُه أنّ السفربرلك للعبيد لا للرجال. يتساءلُ صاحبُنا الشيخُ أنْ "لماذا نموتُ في بلادِ واق الواق؟ ألكيْ يُعَزِّزَ السلطانُ مُلكَه؟ وما لنا ولهذا السلطانِ الذي لا نراهُ إلا جابيا للضرائبِ، مُقاسِما الناسَ في أرزاقِها، والويلُ والثبورُ لمن لا يُحبُّه؟ أسمعتَ، يا بُنَيَّ، بحبٍّ تفرضُهُ عليكَ الشرطةُ فرضا؟ والسلطانُ دائما وأبداً هو الرجلُ الحكيمُ، العاقلُ، الفهيمُ، الشجاعُ، الكريمُ، الطيِّبُ، الذي لا يأتيه الباطلُ من فوقه ولا من تحته. تكادُ تخالُ ما يُلصَقُ به من صفاتٍ أنها أسماؤه الحسنى، وعلينا أن ندعوهُ بها." يضحكُ أبو مثقالٍ مستهزِءًا، ثمَّ يستأنِفُ حديثَه بلسانٍ أوهاهُ الزمن: "هكذا كان أبوه وجدُّه وهكذا هو وأولاده وأبناءُ أولادِهِ إلى يومِ يُبعَثون. كلُّهم في موضع الحكمةِ حكماءُ، وفي موضع الشجاعةِ شجعان، وفي الكرم أين منهم حاتم الطائي! حتى طفلُهم الرضيعُ، الذي "تخرُّ له الجبابرُ ساجدين"، أفهمُ من أفهمِنا وأشجعُ من أشجعِنا وأكرمُ من أكرمنا. والمشكلةُ أنّ للسلطان بطانةً لا تكلُّ ولا تملُّ من تمجيده وآلَ بيته، والويلُ لمن لا يصدِّقهم. سبحانك اللهمّ!" قلتُ له، "صدقت، يا أبا مثقال، لعنَ اللهُ السلاطينَ وأيامَهم، ولعنَ الله كلَّ صخرةٍ تضغطُ على صدورِ العبادِ فتعتصرُ مهجةَ القلب فيها. بل لعن اللهُ العبادَ إذا استكانوا لعبادٍ مثلهم، ونصَّبوهم فراعنة عليهم. ويا فرعونُ، من فرعنك؟"
ما لنا؟
لا بدّ لي من أنْ أمرَّ ببيتِ صاحبنا أبي مثقال كلما غدوتُ إلى عملي أو رحتُ إلى بيتي. وصاحبي الشيخُ هذا لا يبرحُ صُفّةَ بيتِهِ المطلةِ على الشارع، يُحيّيه كلُّ من مرَّ به من أهل السوق، فيردُّ التحيةَ بمثلِها، بل بأحسنَ منها. لكنَّ لي عندَه حظوةً خاصّةً لعلَّها تولدتْ في قلبِه لحبِّه لأبي وجدِّي، رحمهما الله. لكني حقيقةً أحبُّه وآنسُ لمعشره، وأحسبُ أنّ المحبَّة يتبادلها الناسُ فيما بينَهم، تسري في سرائرهم من غير وعي. وإلا، فما سرُّ هذه العلاقةِ بيني وبين صاحبي الشيخ؟
ذاتَ صباحٍ مدَّ أبو مثقال عصاه صوبي، كما يفعلُ كلما مررتُ به. وهذا إيذانٌ منه أنّ عليَّ أنْ أجلسَ معه سويعةً أرتشفُ وإياه بعضَ رشفاتٍ من ركوةِ القهوةِ التي لا تكادُ تفارقه ما دام متربِّعا في مجلسِه الأثير ذاك. كنتُ، بطبيعة الحال، أحسُبُ لتلك الزيارةِ حسابا خاصّا، فأهبطُ من منزلي قبل الوقتِ بنصفِ ساعة أقضيها مع العم أبي مثقال. وفي كلِّ مرة يكادُ الحديثُ لا يختلفُ عن حديثِ كلِّ يوم، أتبارَى وإياه في لعنِ هذا الزمن الرديء. وكم أطربُ له كلما استعرضَ ببراعةٍ يُحسَدُ عليها خنوعَ الحكّام العربِ من المحيط إلى الخليج، يسمّيهم واحدا، واحدا، واصماً جبينَ كلٍّ منهم بما يستحقه من نعتٍ، لا أظنُّ أيا منهم يرى في نعوته تلك خفةَ دم لدى صاحبِنا الشيخ. وكم أطربُ له وهو يُردِّدُ قصيدةَ مظفر النواب التي يحفظُها عن ظهر قلب، ويترنم لسطرين منها بزهوٍ يُغمِضُ له عينيه ويُحرِّكُ عِطفيه طربا. فإذا ذُكِرَ زعماءُ العرب قال: "يا أولادَ القحبة،" ثم يرفع يده اليمنى ويمد منها سبّابته ويعلي صوته مكملا: "لا أستثني أحداً منكم!" وإذا ذُكرتْ فلسطينُ قال، ونظرةُ الاستهزاءِ على وجهِهِ لا تُخفي شيئا من مشاعره: "القدسُ عروسُ عروبتكم؟ … أهلا، أهلا!" أما "أهلا، أهلا" تلك فيطلقها وهو يحرك ردفه كالرقاصة اللعوب. ولعلَّه يقصدُ بهذا تقليدَ الرقّاصات، لأنه كلما فعل ذلك قال ضاحكا: "هؤلاء لا يريدون استردادَ الوطن، بل يريدون تحيّة كريوكا!" ثم يقول جادّا، "رحم الله تحيّة كريوكا، والله كانت أنفعَ منهم."
بعد ذلك، لا بدَّ له من أن ينتقلَ إلى الشكوى من وهَنِ العظم ووجع المفاصل. يشتكي من الشيخوخة؛ لكنه في الوقت ذاته لا يعترفُ لها بحقٍّ على جسده، وهو ذلك الفارسُ الذي لم يكنْ يُشقُّ له غبارٌ في شبابه الذي ذهبت أيّامُه. نعم، ذهبت أيّامُه، ولكنه لا يزالُ ماثلا بين عينيه كأنه حدثَ الساعة. وشكواه من وجعِ المفاصلِ كان بيتَ القصيدِ في هذا الصباح. يريدُ أن يذهبَ إلى الطبيبِ لعله يعطيه بلسما يشفي به حاله. والمشكلةُ أنه لا يقوى على الذهابِ وحده، وهذه السياراتُ اللعينة تملأ بمكارهِها الشوارعَ. والناسُ في الأسواق سكارى وما هم بسكارى. كلٌّ في حال سبيله، متعجِّلٌ أمرَه لا يلوي على شيء، كأنه مسحورٌ يحرِّكه ساحر خبيثٌ، فلا يرى من حولِه شيئا. "ألم أقلْ لك، يا بنيَّ، أنْ لعَنَ اللهُ هذه المدنيّةَ التي حوّلتنا أنعاما لا همَّ لنا إلا البحثُ عن كلأ نجترُّهُ، ثم نسعى إلى غيره إنْ أسعفنا اللهُ ولم تُحرنْ أمعاؤنا، فلا تتحرَّكُ من غير حبةِ مُليِّنٍ تفكُّ ما اعتراها من إقباض؟" أمّا أولادُه، فهذا، كما كان يقول، يعملُ في دائرةٍ حكومية؛ لعن اللهُ الحكومةَ ويومَها. تأتي ولدَه الأصغرَ بسيّارةٍ في الفجرِ لتأخذَهُ إلى حيث لا يدري أحدٌ، ثم لا تعودُ به قبل المغرب. أما الأكبرُ فمغتربٌ في الخليجِ لا يكادُ ما يجنيه هناك يسدٌّ رمقَ أولادِه الكثر. ولا يرى أبو مثقال معنى لعملٍ في الخليج لا يوفِّرُ فيه صاحبُه قليلا لتالي العمر. والثالثُ غضيبُ والديه، يخرجُ من البيتِ حينما يشاءُ ويرجعُ متى يشاء، لا تدري إن كان عاملاً أو عاطلاً عن العمل، يعيشُ على إرثٍ ورثته زوجته عن أبيها، رحمه الله، ووالدُهُ الشيخُ يخجلُ كيفَ لولدِهِ أن يقبلَ أنْ يمدَّ يدَهُ إلى مالٍ هو لزوجته. لكنه يفعل، فالرجولةُ هذه الأيامَ باتت تحفةً عتيقةً لا تصلحُ إلا للمتاحف.
قلتُ لصاحبي: دعني آخذك أنا إلى الطبيب. فانشرحَ صدرُه والتمعَ بريقٌ في عينيه، وقام لتوِّهِ من مجلسِه، بعد أن أشارَ على أهل بيته أن يأخذوا عنه ركوةَ القهوة.
في السوقِ مشينا معا متأبطا هو ذراعي بيسراه، وضاربا الأرضَ بعصاه التي أمسك بها بيُمناه، حتى وصلنا عيادةَ الطبيب. كان علينا أن نصعد درجا ضيقا لا تدري لمن بناه البنّاء. وكان هذا كافياً لفصفصة مفاصلي أنا، فكيف بمفاصلِ صاحبي الشيخ. على أننا أخيرا أنجزنا صعودَ ذلك الدرجِ المتهافتِ حتى صرنا إلى عيادةِ الطبيبِ الذي استقبلنا بحفاوةٍ كبيرة. ذلك أن أبا مثقال كان واحدا من مرضاه المزمنين، إذا اعتبرتَ كلَّ زائر لطبيبٍ مريضا. وكان مثلي يأنسُ لحديثِهِ الذي فاضَ منه الكثيرُ ذلك الصباحَ، إذ كانت العيادة خاليةً من المرضى. ولما سأله الطبيبُ عن شكواه، شرحَ له كيف يجدُ صعوبةً في المشي وحده. سأله الطبيب إن كان يمشي أو لا يمشي، فأجابه أبو مثقال، "بل أمشي، ولكني أمشى الحائط، الحائط". فضحكَ الطبيبُ ضحكة ارتجّت لها حيطانُ المبنى العتيق الذي نحن فيه، وقال له: "يا عمّ، ومن منا لا يمشي الحائط، الحائطَ هذه الأيام؟ احمدْ ربَّك يا صاحبي أنك تجد حائطا تستندُ إليه. هناك إشاعةٌ يا عمّ، أنَّ الحكومةَ سوف تبيعُ حيطانَ البلد للمستثمرين. فإن فعلتْ، فغدا سوف يوقفون على كل حائطٍ جابيا يمكسُ من يمشي الحائطَ الحائطَ كراءَ الحيطان."