

أسرار الزقّورة
الشمس تهوي على أور ببطءٍ يشبه الوصايا القديمة، تكتب على حجارة الزقّورة قَدَمَ التاريخ كأنّها شيفرة لم تُفكّ بعد. الريح تدور في السلالم الحجرية، وتُثير غبارًا لا يُشبه الغبار، بل رماد أرواحٍ لم تغادر بعد.
ليلى، بعينيها اللتين تشبهان نافذتين مفتوحتين على الغياب، لم تدخل رحلةَ تنقيب كما كانت تظنّ، بل انزلقت إلى شعيرةٍ غامضة، حيث يصبح كلّ حجرٍ شاهدًا، وكلّ صمتٍ أشبهَ بنبوءة.
فرقة التنقيب بدت مهامّها وكأنها ليست سوى شخوصٍ في مسرحٍ خفيّ: ماستر أحمد، بوجهٍ تُقرأ فيه الأزمنة مثل ألواحٍ مسماريةٍ ممحية، يحدّق كمن يرى ما وراء الطبقات. أمّا ساهر، فينحني على الأرض ببطءٍ كأنّه يبحث عن ذاته المفقودة بين الفتحات. وليزا، بوجهها الغريب، عيناها تتسعان كلّما اقتربتا من أيّ قطعة، كأنها تعرف أنّها ليست غريبة على هذه الأرض كما تدّعي.
حين رفعت ليلى قطعةً طينيةً متهالكة، شعرت أنّ أصابعها لامست نبضًا، لا مادّة. كانت القطعة تحمل أثر ختمٍ أسطوانيّ، تتراقص فيه وجوهٌ صغيرة، ملامحها تميل بين بشرٍ وآلهة.
ليلى (بصوتٍ مبحوح):
"إنّها تنظر إليّ… لا أظنّها حجرًا. أسمع همسًا، كأنّهم يريدون أن يُكملوا جملةً انقطعت منذ قرون."
ماستر أحمد تناول القطعة ببطء، مرّر أصابعه عليها كما يمرّر راهبٌ يده على نصٍّ مقدّس، وقال:"ما يُنقش على الطين لا يموت… إنّه ذاكرة تنتظر جسدًا جديدًا لتسكنه. هل تظنّين أنّ هؤلاء الوجوه رحلوا؟ هم لم يغادروا… لقد اختبأوا في الصلصال."
ليلى (بتردّد):"لكن، لماذا الآن؟ لماذا اختارتني هذه العلامات؟"
ماستر أحمد ابتسم ابتسامةً متعبة، كمن يفضّل الغموض على الإجابة، وقال:
"الزمن لا يختار إلا من يتشابه معه. ربما وجدت فيكِ ما يُكملها. أو ربما، هي التي وجدت نفسها فيكِ."
سكتت، لكنّها رأت المشهد يتبدّل أمام عينيها. الزقّورة لم تعد مجرّد سلالم من الطين، بل صارت تصعد نحو السماء عاليًا. وجوه الطين تفتّحت كأبواب، وأصوات غامضة راحت تتردّد:
"السلام لم يكن يومًا وعدًا، بل اختبارًا. والماء لم يكن منحةً، بل عهدًا."
ارتجفت، وأسندت نفسها إلى صخرةٍ قديمة، غير أنّ الهواجس لم تهدأ. رأت في ومضة برقٍ خيالي قافلةً تسير عبر الصحراء، تحمل ألواحًا منقوشة، ثم تُدفن في جوف الأرض قبل أن يصلها الغزاة. رأت طفلًا سومريًا يُلقي طينًا مبلّلًا في نهر الفرات، وهو يضحك كأنّه يعرف أنّ الطين سيحمل اسمه إلى آلاف السنين. ثم رأت نفسها، واقفةً بين السلالم، والقطعة بين يديها تتوهّج.
ليلى (بصوتٍ مرتجف):
"هل هذا ماضٍ أراه… أم مستقبل؟"
أجابها ماستر أحمد دون أن ينظر إليها:
"لا ماضٍ ولا مستقبل… إنّها الدائرة. من يقرأ هذه الرموز يخرج من الزمن، ويدخل في السّر. لكن احذري، يا ليلى، فالأسرار لا تُمنح بلا ثمن."
تراجعت خطوة، لكن القطعة التصقت بيديها كأنها رفضت العودة إلى الأرض. شعرت بحرارةٍ غريبة تتصاعد من الطين، كأنّ الكلمات المنقوشة تستيقظ.
ليزا وضعت يدها على كتفها وهمست بارتباك:
"أترين؟ ليست أوهامك وحدك. هذه القطعة تُريد أن تُقال من جديد."
ساهر، منحنٍ على الأرض، تمتم بصوتٍ مبحوح:
"لقد وعدونا بالسلام… فلماذا ورثنا الحروب؟"
حينها، انفتحت السماء على غروبٍ أحمر، بدا كأنّه نزيف بطيء ينساب فوق أنقاض أور. ولم تعد ليلى تعرف: هل تمسك بقطعةٍ أثرية… أم بوصيّةٍ لم تُكتب لها وحدها، بل للعالم كلّه؟
وفجأة، تصدّع الهواء حولهم، وخرج من القطعة صوتٌ عميق، لا يُشبه لغة البشر ولا حفيف الريح. صوتٌ ارتجف له المكان بأسره، حتى بدت الزقّورة نفسها كأنها تنهض من سباتها، وجميعهم—ليلى، ماستر أحمد، ساهر، وليزا—تجمّدوا في صمتٍ مذهول، لا يعرفون: هل كانوا يسمعون بداية رسالة… أم صرخة النهاية؟