الخميس ٢ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠٢٣

ألوان من الصمود والتحدي

سلامة عودة

من على منصةِ التحدي، وفوق تلة حزينة، تربضُ مدرسة عرب الرماضين الثانوية المختلطة، يحفّها منازل الأهالي بعضها مشيدة جوانبها بالطوب، وبعضها الآخر بالصفيح، وتُحرّم على سقوفها الخرسانة، ومحاطة أفنيتها بسلاسلَ حجريةٍ وتتزين بأشجار متنوعة الثمار، تتفيأ ظلالها المواشي والدوابّ، فهي مصدر رزق لهذه القرية،ومما لا مرية فيه أن القرية مهددة ؛ ذلك بأنها تجثم على صدر الاحتلال في المنطقة المحايدة إلى الجنوب من مدينة قلقيلية وإلى الشمال من بلدة حبلة، ولا يسمح بالدخول إلى مرابعها إلا بالتنسيق والحصول على التصاريح اللازمة، فهي محاطة بأسلاك شائكة تطوقها من جهاتها الأربع، ولا يوجد متنفس لها سوى من معبر يسيطر عليه الكيان المحتل، وقد حصنوه بالجنود، وألجموه ببوابة إلكترونيّة،لكي لا يسمح بالدخول إلا بالحصول على تصريح خاص، أو بالتنسيق الأمني، وهناك منذ ضيق يطلق عليه بوابة من الجهة المطلة على بلدة حبلة وتحتاج إلى الإجراءات نفسها، فالقبضةتحيط بهذه القرية وفصلها عن مناطقنا إحاطة السوار بالمعصم،،إضافة إلى أن القرية تخاطب من على تلتها بلدة جلجولية التي يسكنها فلسطينيو 1948، ويحملون هوية الكيان الصهيوني،غير أن أهل القرية تشبثوا بالهوية الوطنية، وابتنوا مدرسة، يتعليم فيها أبناؤهم المنهاج الفلسطيني الذي يجذر الهوية ويوثق الوشائج بين أبناء الشعب الواحد، والمدرسة بها المراحل كافة: الأساسية الدنيا والأساسية العليا والثانوية.إن مصدر رزقهم يقوم على تربية الأغنام والزراعة والعمل في الداخل 48، يتحلقون حول هذه التلة التي تربض عليها تلك المدرسة، ويسكنون في بيوت من صفيح، حولها حظائر لأغنامهم، ويتصفون بجميل الأخلاق، وكرم الضيافة، ويتشبثون بأرضهم رغم مظاهر التضييق والخناق والحواجز التي تحد من حركتهم وتواصلهم، بحجة أنهم يسكنون في أراض مهمشة ليست تابعة لأحد، والحقيقة أنها أراض تابعة للمدينة، وبالإمكان أن تتواصل مع أراضي حبلة، فيخرجوا من هذا الطوق الظالم المفروض عليهم.

وفي صباح يوم الثلاثاء، وبتاريخ 13/9/2022، تنادى المشرفون لزيارة المدرسة بعد تلقيهم تصاريح خاصة بالزيارة، وقد استقلوا سيارة مديرية التربية والتعليم، وتوجهوا تلقاء تلك المدرسة، وعندما اقتربوا من فتحة في الجدار يطلق عليها البوابة من داخل بلدة حبلة، تقف على فوهتها مجندة، و سرعان ما استوقفت المجندة السيارة وقالت: (ليئان؟: إلى أين؟)، فقلت لها وكنت من الفريق الإشرافي الذي سمح له من خلال تصريح للزيارة: (هولخيم لبيت سفر عرب الرماضين).(إننا ذاهبون إلى مدرسة عرب الرماضين)، فقالت:

 (تفيلي توداة زهوت، وايشوريم)أعطيني الهويات والتصاريح.

أخذت الهويات والتصاريح، نظرت في التصاريح وشرعت تجري اتصالات، وبعد هنيهة جاءت وهي عابسة، بإشارة من يدها (تخزروا:ارجعوا)، فلقت لها (لما يش لانو اشوريم ؟) لماذا يوجد لدينا تصاريح؟. ردت بصوت عال: (لو رتسى تصريخيم): لا أريد تصاريح.

(أتم إين لخيم تؤوم، تخزروا، وايفشار لكنيس)أنتم لا يوجد لكم تنسيق، ارجعوا، لا يمكنكم الدخول.
عاجلتها قائلاً:

(انحنو من مسراد هخنوخ، وهكول مفكحيم، وروتسيم لبكور ات هبيت سفر) نحن من مكتب التربية وكلنا مشرفون، ونريد زيارة تلك المدرسة.

سمع الحديث (قتسين)ضابط، فتقدم وقال: (ما بعيا؟) ما المشكلة؟، وضحت له الأمر، فخاطبها وأنهت له بعدم السماح لنا بالدخول.

تقدمت منها وقلت: (تفي ات هاشوريم) هات التصاريح، فاستدركت قائلة: (ليخ لمعبار ياهو) اذهب لمعبر (ياهو)، ومعبر (ياهو) يبتعد قرابة ستة كيلو مترات، فكان الإصرار من الزملاء وأنا معهم أن نذهب إلى معبر (ياهو)، فلا بد من الذهاب وزيارة المدرسة، ولا تفت في عضدنا هذه المعاناة.

وعندما وصلنا معبر (ياهو) الذي يقبع في منطقة بين مدينة قلقيلية وبلدة جلجولية القريبة، استوقفتنا مجندة أخرى قد وقفت امام جهاز حاسوب محمول، وخلفها غرفة بها أجهزة، وقالت:

(تعودوت زهوت، وايشوريم) هويات وتصاريح.

وقامت بإجراء اتصالاتها، ثم قالت: (ييش لخيم تؤوم؟) هل يوجد تنسيق؟

قلت لها: (كين) نعم.

وطفقت تنظر في الهويات والتصاريح وتدخل أرقام الهويات على برنامج الحاسوب، وأسرعت إلى الغرفة تتصل؛ لتتأكد أن هناك تنسيقاً.

قلت لها: (انحنو مفكحيم ممسراد هخنوخ) نحن مشرفون من مكتب التربية، هزت برأسها، وسلمتنا الهويات والتصاريح، وقالت:

(يخول لخيم لكنيس) يمكنكم الدخول.

انطلقت السيارة إلى داخل الحاجز،وطُلب إلينا الترجل منها،والتوجه نحو غرفة التفتيش، وما إن دلفنا حتى ألفينا بوابة إلكترونية، ولجنا البوابة، ووضعنا أمتعتنا على شريط متحرك تعلوه غلالة غطاء سوداء، وتلقينا الأمتعة من الجهة الأخرى، بعد فحصها، ثم طلب إلينا فحص أجهزة الجوال التي بحوزتنا، ثم غادرنا الغرفة عبر باب كهربائي وآخر يدوي، إلى الشارع حيث سيارة التربية قد فرغوا من تفتيشها.

وما أن وصلنا المدرسة، وجدنا بوابتها قد تكللت بلوحة نقش عليها ما يثلج الصدر، فقد توّجت بجملة تخلد الوطنية، دولة فلسطين وزارة التربية والتعليم، مدرسة عرب الرماضين الجنوبي الثانوية المختلطة، عبارة تؤسس لهذه الرواية الفلسطينية الضاربة في الجذور والمتجلية في هذا الصمود الذي يشاطره صمود شجرها وحجرها، فهي أرض الآباء والأجداد الفلسطينيين، والمدرسة رغم أنها من صفيح إلا أنها تحتضن الكنوز كنوز الشباب الذين يقاومون بالعلم.دخلنا غرفة الإدارة وشددنا أزر الكادر الإداري والتدريسي وعززنا هذا التحدي وثمّنا الأداء، وقمنا بزيارة الصف الثاني عشر، عرفت في الصف طالبة قد شاركت زميلاتها من مدارس المديرية في مسابقة المناظرة وكانت رائعة، إنها أسماء طالبة في الثاني عشر وحاورت باقي الطلاب والطالبات في الغرفة الصفية، فوجدت عطاءهم يبشر بخير، وهمهم مشحوذة فاستبشرت بهم خيراً، وقلت: أريد جودة ومنتجاً.

ثم عرّجت على الصف السابع وكان درسهم تنهض فكرته على الرواية الفلسطينية، فالعنوان: فلسطين قلب الأمة، ولفت انتباهي في هذا الصف طالباً متميزاً، مراد يحب اللغة العربية ومتمكن فيها في صفه، فطلبت إليه أن يرسم شعاراً يجسد عنوان الدرس، قلب وفي عمقه خريطة فلسطين في لوحة فنية ؛لتمكين معلومة فلسطين قلب الأمة في الأذهان، وقد تجند لذلك.

ومما لا شك فيه أن الإبداع يتولد من رحم المعاناة، وأن السلاح الذي لا يستطيع الاحتلال أن يوقفه رغم مرارة حواجزه، وصلف جنوده، وهو العلم وبه نثبت هويتنا ونكتب قصيدة وجودنا على جدارية الواقع ونغمات الزمن، ففلسطين تستحق منا ذلك.

سلامة عودة

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى