أنا من هناك ولي ذكريات
عنوان كتاب بقلم الصحافي الاستاذ سمير ابو الهيجاء، اصدره قبل شهور عدة، وأهداني نسخة منه بتوقيعه. والسؤال الذي راودني عندما بدأت بقراءة الكتاب هل لا تزال تداعيات النكبة تتفاعل ضمن الحياة العامة والخاصة للفلسطينيين في الداخل الفلسطيني، او المنطقة الفلسطينية التي اقيمت عليها اسرائيل؟ تبين لي أن النكبة ليست مجرد حدث تاريخي وقع في زمن ما وانتهى امرها. تبين لي في قراءة هذا الكتاب أن جرح النكبة مفتوحا ويرفض الاندمال إلى أن يتم تصحيح الخطأ بل الخطيئة التي وقعت في ذاك العام الشؤم.
ليس الكتاب نصًّا تاريخيا جافا، وليس نظرية بحثية يسعى واضعها إلى إثباتها وإخراجها إلى النور. إنه كتاب يعكس مشاعر واحاسيس مهجري القرى والمدن التي التقى بهم الصحافي سمير وتحدث إليهم ليس فقط كصحافي بل كمهجر من قرية عين حوض. إذن، نحن أمام توجه مغاير لما اعتدنا عليه من نقل معلومات عن القرى المهجرة، وطرح نصوص لمقابلات مع مهجرين.
في واقع الأمر ان هناك الكثير الكثير من الأدبيات الفلسطينية حول التاريخ الشفوي والتي في اساسها مقابلات مع مهجرين شرحوا وأوضحوا وأسهبوا بكل ما لديهم من معلومات عمّا جرى في العام 1948 وما جرى لهم، بكونهم كانوا في قلب العاصفة القاسية والمؤلمة التي وقعت انذاك.
واترك القول هنا لسمير:"على مدار قرابة عقد من الزمان، تجولت بين القرى والمدن الفلسطينية، باحثا عن كل صوت يكمل الرواية... وكلما سمعت عن ناج من مجازر النكبة الرهيبة، اجريت معه مقابلة ونشرتها في إطار زاوية كرستها لرواية النكبة في صحيفة "صوت الحق والحرية" وفي صحف أخرى".
سمير ابو الهيجاء ليس فقط صحافي بل مُهجّر ابن هذا البلد المتألم والحزين والذي فقد أعزّ ما لديه "الأرض"، ويريد ان يبحث عن الحقيقة. والحقيقة ليست في الوثائق التي تزخر بها ارشيفات اسرائيل لتبين صدق الرواية الصهيونية وتمحو الرواية الفلسطينية، إنما الحقيقة لدى أصحابها. اصحاب الحقيقة هم اهل البلاد الذين تعرضوا إلى النكبة وإلى تدمير حياتهم وفقدانهم لكل شيء تقريبا إلا العزيمة والإصرار والصبر.
من هذا المنطلق اخذ سمير على عاتقه مهمة ليست سهلة بالمرة، فهو لا يدون فقطن بل يتعاطف مع الاشخاص المقابلين، بكونه صاحب قضية. هل في حديثه مع الآخرين تعزية له ولأهل بلده؟ ربّما يكون الامر هكذا، ولربما يكون اكثر من ذلك.
في مراجعتي الدقيقة للمقابلات التي اجراها سمير يتبين لي انه لم يحصر عمله وجهده في منطقة واحدة ومحددة في فلسطين، بل قدم نماذج متنوعة لقرى ومدن كثيرة في طول فلسطين وعرضها(من سحماتا، إلى الغابسية، فعكا وحيفا والطنطورة وبيسان ومسكة وطيرة بني صعب والقائمة تطول...). هذه النماذج تحمل في طياتها ليس معلومات رقمية وعددية، إنما تحمل ذاكرة فردية وجماعية لأناس لا يزالون يحملون قضية مصيرية. ومن جهة اخرى فإن هذا الهم لا ينتهي بمال أو جاه او هدية، ينتهي مع انتهاء القضية وعودة أهل البلاد إلى بلادهم ووطنهم.
طريقة الاسئلة التي تعامل معها سمير لم تكن ممنهجة، بمعنى أنها أخضعت لأسس البحث الأكاديمي، إنما ذات صلة بالشخص ذاته، وبلده، والحالة التي كان هو فيها او اهل بلدته. وهذا يعني انه يتعامل مع كل بلد وفقا لوضعيته، ولكن في المحصلة النهائية نلحظ وحدة حال القضية ووحدة حال الرؤى لدى جميع الاشخاص الذين خضعوا للمقابلات مع واضع الكتاب.
من جهة أخرى، أرى أن هذا النوع من الكتب ليساه محصورا في المقابلات بقدر ما فيه من التعبير عن المشاعر والأحاسيس التي اشرت إليها في مطلع حديثي هذا. أليس من حق الفلسطيني واي انسان اخر ان يعبّر عن قضيته من خلال أحاسيسه ومشاعره! أليس من حق الانسان الفلسطيني ان ينطق بالكلمة التي تعبر عما يجيش في داخله من حزن وألم ووجه بل جرح نازف بشدة من ذاك العام! أليس من حق الفلسطيني ان يقول للعالم كافة أنا متألم!
إن الفلسطيني كشخص متألم وكشعب متوجع، ما فيه الكفاية من قوة الدفع والتحفيز نحو مزيد من الصمود، لأنه صاحب حق وصاحب قضية.
من خلال المقابلات تبينت أن خطا مركزيا يوجه المقابلين، وهو أنهم يريدون العودة إلى قراهم بأي ثمن، وبأي صورة؛ اعني احياء أو أموات.
فلننظر إلى عمق هذه المشاعر التي يخاطب بها الفلسطيني العالم قائلا له: أنا من هناك، أنا من هنا، من فلسطين وليس لي وطن آخر سواه. وفي وطني ذكريات خاصة بي وذكريات خاصة بنا كمجموعة بشرية تاريخها ضارب في جذور هذه الأرض.
أُبارك لأخي سمير ابو الهيجاء هذا العمل، وأدعوه إلى نشر المزيد من المقابلات لأنها تثري وتؤكد صدق قضيتنا وصدق مطالبنا بالعودة. فالعودة حق لا يتنازل عنه اي فلسطيني شريف.