

أَيْقُونةُ الحُرِيّةِ
"لا كرامةَ دون حريّة، نحن نفضّل الفقر في الحرّية على الغنى في العبوديّة" هذه الجملة الناريّة والعبارة الفولاذيّة والمقولة الأبيّة العَصيّة شُعلةٌ مُقتَبَسَةٌ من الخطاب البليغ المُقيمِ المُقْعدِ، والبيان الرَّصين المُزلزِل الذي فجّره المُقاوِم البطل، والثائرُ المِغوارُ أبو الاستقلال وأيقونة الحريّة لجمهورية غينيا (منجو توري) في وجه المُسْتَعمِر الغاشم المتغطرس الجنرال (ديغول) رئيس فرنسا، وقد تناقلت المصادرُ أنّ الجنرال من شدّة وقع الخطاب عليه غادر القاعةَ ناسيا قُبَّعتَه على طاولة المذلّة!
فمن هو هذا المُقاوِمُ الأسطوريُّ الشُّجاع الفَذُّ (منجو)؟ وما البطولاتُ المَلحَميّةُ التي ضرب أرْوَعَ أمثِلتِها في ميادين الكِفاح والمُقاوَمةِ والرُّسوخ والتَّضْحيَة؟ وكيف استطاع الإبحارَ عكس تيّار الاستعمار الهائج إلى أن رسا زورَقُه المخَّارُ على جوديّ الاستقلال؟ وماذا على الأجيال اقتباسُه من سيرة مقاومته الصّامدة؟
للأصول انعكاس فعّال وتأثير قويّ على الفروع، لأن هذه الأخيرة تستمدّ طاقتَها الأوّلية من الأولى، وبالعودة إلى البدء فإنّ البطلَ المِقدامَ الهُمَام والمرشِدَ العبقريَّ الحاذِقَ مُنحدِر من فصيلة دمويّة حُرّة أبيّة جبّارة، لم يُقارِبِ الوهنُ والخُنوعُ والمَذلَّةُ شِريانا يجري فيه، ورِث همّتَه الشّامخةَ، وبُطولتَه القاهرةَ، وإباءَه الأنوفَ عن جدّه الإمبراطور العملاق والقائد المحنّك والمناضل الشِّمِّير الإمام (ساموري توري) الذي قضى ستَةَ عشَرَ عاما يُحارب الجيش الفرنسي المحتلّ ويُصادمه ذَودا ودِفاعا عن أرضه المقدّسة الشريفة، وحمايةً لوطنه العزيزِ من أن يَخدِش عرضَه مِخلبُ عارٍ، أو يدوسَ تُربَتَه الكريمةَ حافرُ مَذلةٍ، أو يستبيحَ حِماه بغيٌ طمّاحٌ وضيمٌ قامعٌ، ومع قلّة عَتاده وعُدَّته وعدده، صمد أمام عدوان الاحتلال زمنا طويلا، وألحق به أضرارا وخسائر بشرية ومادية فادحة على تفوّقه الفاحش في العُدّة والعتاد.
ولد (منجو) الثائر البطل في مدينة (كوروسا) من أبيه السفير الاجتماعي البارع، والتاجر المزارع الكبير (لانفيا توري) وأمّه السيّدة الفاضلة النبيلة (فاديما كمارا) وهو الابن الثاني بعد أخيه الأكبر (تيجان توري) الذي أصبح فيما بَعدُ مَلكَ مدينة (فارانا)، ومنذ صِغَرِه المبكِّر، كانت أماراتُ النَّجابةِ والبَراعةِ، ومَلامِحُ الْبَسالةِ والإباءِ بادية على أسارير وجهه، وناطِقةً في سكتاته وكلماته، يُلهِمُ كلَّ من يراه الثِّقةَ والعظَمَة والهَيْبَة والجلالةَ، ويملك في طينته الفطرية حِسَّ القيادةِ وبَصْمةَ السِّيادةِ، ممّا جعل كثيرا من النُّبَهاء المُحنَّكين، والمُحدَثين المُلهَمين وأصحاب الفِراسة الثّاقبةِ يتنبّؤون بنجمه الصاعد ومستقبله الواعد وشمسه الوهّاجة المُشرقة على الأجواء.
بدأ مُقاوَمتَه الاستقلاليّة، وخاض مُغامرتَه التّحريريّة في فجر حياته، وقد لاقى في ذلك مَشقَّاتٍ جسيمة، وواجه عقباتٍ وعِرَةً كأداءَ، وتَعرَّض لتحدِّياتٍ فوق المقاييس، ومع ذلك تابعَ السَّيرَ، وواصلَ التّحليقَ واستمرّ في الكفاح دون تعثُّر أو تراجُع أو فُتور، ومن بوادر ثورته، وتباشير نضاله، إباؤه الصارم ورفضه القاطع للخضوع والانقياد للوائح والضوابط المدرسية التعسّفية التي وضعها النظام الاستعماريّ الغاشم لتقييد الحرّيات، والقضاء على القيم والهُويّات، ومُحاربة العادات والتقاليد والأعراف المحلّية السّائدة، مثل حظر التحدّث باللغات الوطنية بين التلاميذ حتّى خارج قاعات المحاضرة، وفرض حفظ النصوص الشعرية المتغنّية بأمجاد فرنسا ومآثرها، مع الإجبار على حمل الأسماء الفرنسية كأسماء ثانويّة أو أكاديميّة، إضافة إلى ضرورة تطبيق النّمط الفرنسيّ في اللباس وكل ما هو وارد في باب الزّينة والتّأنّق داخل المدرسة وفي جميع المناسبات الخارجية ذات الصلة بها.
ذاق كلَّ أصناف العُقوباتِ الْمَدرسيّةِ مِن ضربٍ بالسِّياطِ والعِصِيِّ، ووقوف على إحدى الرِجلَين، وأخذ الأذنين باليدين متعاكستين مع النزول والصعود، ورفع الرِّجْلين على الجِدار، ومدّ اليدين عموديًّا مع وضع شيء ثقيل في الكفّين، وغير ذلك، فها هو صديقه الظّريف العبقريّ (سيلو) يقف عليه ذات يوم وهو محبوس في زنزانة العقوبات المدرسيّة تحت شمس الهاجرة لخرقه قانون حظر التحدّث باللهجات المحلية فيقول ناصحا له أن يخفّف تمرُّدَه العنيفَ على القوانين التعليمية الداخلية:
– ماذا يَضرُّك لو تَنازلتَ عن بعض إبائك الزِّنجيِّ المُفرِط إلى أن تخرُج سالما مُعافى من هذه الغابة الدِّراسيّةِ المَسْبَعةِ؟
– إنّ اقتراحَك صائبٌ صديقي العزيز! وفيه توفير لبعض الراحة النّفسية لكنّ نفسي تأبى هذا السيناريو، إذ لا ينبغي أن نكون جميعا حُملانا وديعة لهؤلاء السّباع الضارية، بل لا بدّ من أن يلمسوا من جلودنا خشونة الإباء والمقاومة، ويسمعوا من أفواهنا كلمة (لا) الفَّظة الغليظة على مسامع الطّغاة المحتلّين.
ومع تقدُّمه في العمر، ونُضجه في العقل، زادت ثورتُه حِدّةً وتصعيدا، وبدأتْ مقاومَتُه تأخذ خطواتٍ أسرع، وتضع خُططا واستراتيجياتٍ أشدّ جرأةً وإقداما، فصار يعترض على التّزوير التّاريخيّ الذي يرد في الكتابات الغربية عن تاريخ أفريقيا المجيد، ويُناقِش المدرّسين بِرصانة عقلية مُذهِلة، وحُجج منطِقيَّة دامِغَة، ومن ذلك ما جرى بينه وبين أستاذه (جوزيف مارتن) وهو في الصفّ الخامس حين تعرّض الأستاذ للحرب العالمية الثانية، وأشاد ببطولة الجيش الفرنسيّ وبسالته في دحر الألمان وتحرير باريس من احتلالهم دون أن يشير ولو ضمنيا إلى دور آلاف المجنّدين الأفارقة الذين كانوا دماء ساقية وسمادا بشريا لنبات هذا النصر.
في تدخّله وردّه على الأستاذ قال الشّاب المِقدامُ المُقاوِمُ الصّامدُ: باستنطاق الوثائق والسجّلات التاريخية ندرك أنّه لولا تضحيات المجنّدين الأفارقة لكانت فرنسا اليوم ألمانيا الشرقية أو الغربية أو الجنوبية أو الشّمالية، ألم ير الأستاذ تلك الصور الحربية الموثَّقة التي يختبئ فيها الجنودُ الفرنسيّون وراء المقاتلين الأفارقة؟ وكيف نسي الأستاذ الوعود الاستقلالية الزائفة التي توسّل بها الجنرال (ديغول) لاستقطاب الشباب الأفارقة واستنفارهم إلى إنقاذ فرنسا المهزومة المُحتلّة؟
بأمثال هذه التصرُّفات الثوريّة الجريئة، صنّفته اللجنةُ الأكاديميّةُ العليا تهديدا عاليَ الخطورة للنّظام الاستعماريّ، يجب استئصاله قبل أن يستفحل ويتفاقم ضرره، وعلى ضوء توصيّتها صدر قرارُ فصله عن المدارس الاستعمارية في كلّ أنحاء الدولة، مع حظر بيع الكتب أو إعارتها له، وحصل ذلك وهو في نهاية الفصل السادس، إلا أنّ هذا لم يكن فَتّا في عَضُد همّته الشمّاء، ولا عرقلة أمام عزيمته القعساء، بل واصل الدِّراسة بواسطة التّعليم والتكوين الذاتيّ في البيت، وكان تلميذا ألمعيّا عبقريّا مُثابِرا مُتشمِّرا وموهوبا، تمكّن في سنّ مُبكِّرة من إتقان اللغة الفرنسية كتابةً وتحدُّثا.
بعد فصله عن الدّراسة ومنعه من شِراء الكتب واستعارتها، ملأ فراغَه بالقراءة الحرّة، ولم يكن عنده ما يقرأ سوى الكتب المدرسية القديمة وبعض الكتب الأدبية التي كان والده قد اشتراها له ليقرأها مستقبلا إضافة إلى الصّحف والمجّلات، فأكبّ على هذه المُدوَّنات المتوفِّرة لديه فقرأها كلّها مرارا وتكرارا وحفظ كثيرا منها، ثم صار يرتاد بيوت أصدقائه خُلسة ليقرأ ما عندهم من الكتب، كما أن والده كان يُزوِّده بالكتب لكن عن طريق غيره لأنه أيضا كان على القائمة السوداء في حظر شراء الكتب.
بشخصيّته القويّة المؤثّرة، وروحه القياديّة البارعة، وطبعه الاجتماعيّ المنفتح، وحسِّه الانسانيّ المرهَف، وحُنكته السياسية الثّاقبة، نجح في جمع خِيرة شباب المنطقة المتميّزّين وأصحاب المواهب والكفاءات، وضمّهم إلى صفّه النضاليّ، أمثال الشاب الأديب (سانجو) والشاب الدبلوماسيّ الحاذق (صوريبا) والشاب الصّحفيّ الفصيح (أوري) إضافة إلى السياسيّ العبقريّ (جوماندي) والشّابة المغنّية المناضِلة (كاديبا) وغيرهم من الشّبان ذوي النجوم الصاعدة، وبقيادته الناجحة لهؤلاء الشباب النّجباء الموهوبين، بدأ صيته يَذيع، وأخذ شأنه يعلو، وانبرى نجمع يزداد التماعا.
– أرى أن نُشكّل حزبا سياسيّا محلّيا يكون لنا سلّمَ صعودٍ إلى أعلى الهرم السياسيّ في الدولة! طرح (جوماندي) هذا الاقتراح خلال اجتماع أسبوعيّ لعصابة (منجو) المارقة حسب تسمية السلطة الاستعمارية المحلّية!
وافق الكثيرون على اقتراحه، لكنّ (مانجو) بعد إصغائه إلى جميع الآراء تدخّل قائلا: إنّ نجاح أيّ قائد نزيه مرهونٌ بكسبه لثقة الجمهور وتأييدهم له ولن يُحقِّق ذلك إلا بسعيه الدؤوب لإنجاز المصلحة العامة، وعلى هذا أقترح مشروع إنشاء نِقابَة عامّة للدّفاع عن حقوق العاملين في القطاع الرسميّ وغيره، لنعمل على إنهاء أو الحدّ من الانتهاكات الحقوقية المستشرية في بيئة العمل. وما كاد يبلع رِيقَه ويلتقط أنفاسَه حتّى نهض إليه (جوماندي) نفسه، فصافحه وهنّأه على حُنكته القيادية، وأعلن موافقتَه التّامّةَ على اقتراحِهِ ودعمَه الكاملَ له، وبعد طرح جملة من الاستفسارات والتساؤلات التي سلّط (منجو) الضوء على إجاباتها بأساليب مقنعة، انتهى الأمر إلى الإجماع على مشروع النِّقابة على المستوى المحلّيّ، ثم بعد سنة من إنشائه وبرئاسة (منجو) قويتْ شَوكتُهم، واستبحر نفوذهم، فافتتحوا مكاتب فرعية في معظم المدن الكبرى، بعد تأسيس المقرّ الرئيس في العاصمة حيث أصبح مقام القائد (منجو).
بهذه النّقابة العامّة للعمّال وما تبذله من جهود ونضالات تحسّنت أوضاع العمل في جميع أقطار الدولة، وأُزيل كثيرٌ من الانتهاكات التي كان يتعرّض لها العمّال، وبدأ القلق والتوجّس يدبّ في قلوب المستعمرين من جرّاء إنجازات (منجو) ومواقفه الثورية الصّارمة، وخوفا من شعبيّته، لم يجرؤوا على استعمال العنف معه، بل لاذوا باستراتيجية المراوغة، فدعاه الحاكم العام لمنطقة غينيا آنذاك في منزله في ليلة باردة مقمرة، وقدّم له عرضا مُغريا لشراء ضميره قائلا: أنت شاب فطِن ومشروع سياسيّ مستقبليّ ناجح لهذه البلاد؛ لذلك قرّرت منحك وثلاثة من زملائك مع خطيبتك بعد زواجكما مِنَحا دراسيّة في فرنسا، كلّ في تخصّص اختياره، إضافة إلى تعيينك من الآن نائبا محلّيا عنّي، تتقاضى راتبا كافيا لإعالة أسرتك كلّها في غيابك، فما رأيك في ما سمعت؟ علما بأن هذا العرض السخيّ فرصة ذهبية نادرة جدا، لا تسنح إلا مرة أو مرتين في كل قرن.
– بعد أخذ جرعة من كوب الماء الذي كان بين يديه أجابه بكل صراحة: أشكر سيّدي الحاكم العام على هذا العرض المشرِّف، ولكنّني شخصيّا أرفضه لأسباب خاصة، أما الآخرون فستصلك إجاباتهم من أنفسهم!
من هذه اللحظة أدرك السلطاتُ الاستعماريّةُ أنّ استراتيجيةَ الإغراء والتطميع الماديّ لن تُجدي نفعا مع خَصْمِهِم المُقاوم الجريء الباسل، فشغّلوا معه استراتيجية غارقة في الراديكالية، وهي العنف والقهر والقوّة، فألقوا عليه القبض بعد أسبوع من لقاء الحاكم العام بتُهمة التّحريض على العنف وتهديد الأمن الوطنيّ، إلا أنّ اعتقاله التّعسّفيّ كان زندا عارما وفتيلا طائشا، أدّى إلى اندلاع مظاهرات سلمية وعنيفة كثيرة في جميع أنحاء البلاد، فلم يجد السلطاتُ بُدّا من تهدئة الوضع بإطلاق سراحه بعد أسبوعين، ولم يكد يتعافى من أثر التعذيب القاسي الذي لاقاه في السجن، حتى تعرّض لسلسة من محاولات اغتيال مدبَّرة على أيدي عملاء أفارقة مستأجَرين من قِبَل النظام الاستعماريّ الحاكم بحسب استنتاجات منطق الواقع المعيش.
على تفاقُم التحدّيات وضَراوةِ المشقّات، ظلّ (منجو) جبلا شامخا ومُقاوِما جسورا مِقداما لا يعرف القهقرى، بل ازداد صمودا ومضاء وتقدّما، فأنشأ مع زملائه حزبا سياسيّا باسم "حزب الثورة والتضامُن لتحرير أفريقيا" وهو الحزب الذي أحرز الفوز السّاحق في الاستفتاء العام الذي أجراه الاستعمار الفرنسيّ لتخيير الدول الأفريقية الفرنسية بين الاستقلال باختيار (لا) لرفض وصاية فرنسا عليها، أو الاستمرار تحت إشرافها بالتصويت بخيار (نعم)، وهكذا بالتضحيات الكبرى والنضالات العصيبة التي قدَّمها هذا البطل المناضل المثابر والثائر المغوار الهُمام ورُفقاؤه الأبطال المغاوير رفعت جمهورية غينيا راية استقلالها الكامل في اليوم الثاني من شهر أكتوبر عام 1958م برئاسة القائد البارع والنقابيّ المكافح والسياسيّ الحاذق، والوطنيّ المتفاني سيادة الرئيس (منجو توري) أيقونة الحرية وأبو الاستقلال الغينيّ.