«صدى في المدى» للشاعر محمد شنوف
رغم ارتهان شعر ديوان «صدى في المدى» للشاعر المغربي محمد شنوف للنهج الإيقاعي في بناء وتراكيب نصوصه إلا أنه ينحو منحى مغايرا على مستوى التنويع والغنى لما ضمنه للمتن الشعري من موضوعات تتوزع بين العديد من الموضوعات مختلفة الأبعاد والدلالات، فضلا عن استعمالات إيقاعية وبلاغية ترقى بالمجموعة الشعرية إلى مراتب جمالية ودلالية موسومة بالعمق والغنى والتنوع.
فنصوص المجموعة انبنت على نهج إيقاعي في شقيه الداخلي كما في أول نص (الشعر رزق) بما خلقه من جرس عبر تكرار حرف الراء ثلاث مرات: "الشعر لب المرء يسكبه ذوب من الوجدان يعتصر" ص 10، الشيء الذي يتكرر مع حرف الثاء في قصيدة (ليلي سليماني):"وكم ثملت برشف الشعر منتشيا ثملت حتى جثا عقلي فأرداني"ص60، وخارجي في قصيدة (بكم درعي وأقواسي) التي استغرقتها قافية السين المشبعة، ومثل ذلك في آخر نصوص الديوان (يا شعر خذني) مع قافية اللام المشبعة، وموازاة مع ذلك، وبشكل تكاملي، توسل الشاعر بعنصر البلاغة والمجاز؛ كالطباق في: ضاقت / رحبت: "إذا ضاقت به الدنيا بما رحبت على الناس"ص 79، وفي قوله:"والليل مهما سجى للصبح شطآن"ص 122، في الليل والصبح. والجناس كما ورد في قوله: "وما القصيد قصيد في تدينه"ص93، فضلا عن الجانب المجازي الذي تزخر به العديد من نصوص المجموعة في صور بحمولات جمالية ودلالية، حيث يقول في نص (وكيف لأنسى): "وأغزل شوق الليالي دثارا من البرد يقسو بطول جفاك"ص 69، في استعارة للغزل وتحويله من مستواه المادي الملموس إلى مقام مجرد مرتبط بالزمن (الليالي) عبر إحساس بشري (شوق) على شكل غطاء مقترن بالقساوة مع امتداد زمن القطيعة والبعاد (طول جفاك). وفي: "ويمتطي صهوات الخلد من شهب"ص 88، فيغدو للخلد، وهو زمن لا محدود، وسيلة نقل من شهب تحلق عاليا في ارتياد لأجواء لا نهائية. واستعمال لعنصر التشبيه مقترن بأداة الكاف تارة:"كالسلسبيل بدت في عين ولهان" ص55، و (مثل) طورا: "تأتي القصيدة جذلى مثل جارية" ص92، أو بدون أداة: "أكنافها جنة المأوى..." ص120، لتضفي العناصر البلاغية على المتن الشعري جمالية ساهمت، إلى جانب نسقها الإيقاعي، في خلق تنويع شعري صادر عن رؤية تنم عن حس إبداعي مؤسس على تصور وتصوير لماهية الشعر:"الشعر لب المرء يسكبه ذوبا من الوجدان يعتصر"ص 10، مع التعبير عن الطقوس المحيطة بالكتابة الشعرية، وما يطبعها من معاناة نابعة عن عمق الإحساس، وفيض الوجدان في رسم صور خالية من الشوائب والأمشاج، وتكامل عناصرها، في تواشج وتناغم:"الشعر سبحة أحرف نظمت عقدا تضامت كلها درر"ص 10، والإشارة إلى أهم مكوناتها من خيال وعاطفة ورؤى:"الشعر نسيج خيال عاطفة ورؤى بها الأبعاد تختصر"ص 10، مع خلع مجموعة من الأوصاف على بنائه الدلالي والتعبيري مثل النور الجواني:"الشعر نور بالجوى"ص 11، والنجوى المدثرة النغم، والمهووسة بعشق الرمز: "الشعر نجوى ترتدي نغما من عاشق بالرمز يستتر"ص 11، انتقالا إلى الجانب الإيقاعي، وما يستدعيه من خبرة النظم،ومهارة الوزن: "إني خبرت بحور الشعر أنظمها"ص56، بذكر أسماء بحور شعرية:"كأنه خبب، أو أنه هزج أو ربما مكمول أوزان"ص 56، فعلاقة الشاعر بالفعل الشعري وتشكلات وتموجات حركته مشروطة بخبرة معرفية في تمثل لعناصره الإيقاعية (بحور، وأوزان)، والبلاغية (صور، ومجاز) التي تساهم، وتبرع في رسم لوحات إبداعية، وتشكيل نصوص بصيغ وعبارات جمالية ودلالية. كما نهل الشاعر من معجم تراثي كما تدل على عبارات مثل (صافنة، الحور، سنان،الحشا، رُطَب، هيدب، لمى، سدرة، وسن) مم أكسب لغته رصانة وجزالة خصوصا في تقاطعها مع نصوص ذات سلطة إبداعية كقصيدة حافظ إبراهيم المرجعية عن اللغة العربية وتحديدا في قوله: أنا البحر في أحشائه الدر كامن فهل سألوا الغواص عن صدفاتي، ففي نفس الموضوع (موضوع اللغة العربية)، ونفس السياق يقول الشاعر محمد شنوف:"كالبحر للغواص أنتِ إذا سعى يبغي لآلئه برصد كنان"ص 23، في توافق يجسد، وبلغة أكثر رصانة، مكانة لغة الضاد الوجدانية والمعرفية لدى الشاعريْن، اللذين سخرا طاقتهما الإبداعية للكشف عن ذخائر هذه اللغة الثمينة، ودررها الغالية في تفنيد لكل ادعاء يروم قصورها، وعجزها، وبالتالي وصفها بالعقم: "بالعقم قد وزرت بلا حق فهل تجدي سهام القوس دون سنان" ص24، وفي نفس السياق جاء قول حافظ إبراهيم: رموني بالعقم وليتني عقمت فلم أجزع لقول عداتي. نفس التقاطع يتكرر مع قصيدة المتنبي الذي قال: أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي وأسمعت كلماتي من به صمم، وقول الشاعر شنوف: "أنا الذي نظر الأعمى إلى صوري من جرس ما عكست من حليها الغرر"ص51، في تعبير شعري يجسد قيمة الإيقاع، في نصوص مجموعة (صدى في المدى) خصوصا داخل نسق تنتظمه موسيقى ذات جرس يمنحها إشعاعا وألقا يطرب الأذن، ويحرك المشاعر والوجدان. ولم يفت الشاعر، إغناء لنصوص مجموعته، استحضار أعلام بارزين من مجالات مختلفة كزرياب في مجال الفن والطرب:"أنا من نسل زرياب أمير الذوق والوتر"ص17، فهو، كشاعر، امتداد لزرياب اعتبارا لما يوحدهما من ذوق فني محدد في موسيقى الشعر (محمد شنوف)، وموسيقى أوتار العود والطرب (زرياب)، و الشاعر امرئ القيس في مجال الشعر، الباحث عن ملك ضائع:"كما يئن ضليل الملك في كأب"ص 89، وفي التاريخ والحضارة فاطمة الفهرية المؤسسة لجامع القرويين:"فيك ارتضت تبتني للعلم فاطمة أولى الجوامع في التاريخ والدول"ص 101، مما يوسع من آفاق المعاني، ويثري دائرة أبعادها فتغدو أكثر انفتاحا ورحابة. وجانب الانتماء والهوية الذي ينطلق محليا:"أنا من مغرب الأوطان أنا من أطلس الأسْد"ص17، ويرتبط بمكان كمكناس التي أفرد لها نصا خاصا (مكناس... ما الخبر؟) تغنى فيه برحابها وربوعها:"ياروضتي الغناء ربعك لا يعييه إيراد ولا صدر"ص 32، مشيدا بأبرز رجالاتها وأعلامها كالمجذوب الذي طال به المقام فيها:"يا جبة المجذوب طرزها برباعيات ملؤها درر"ص29، في إشارة إلى رباعياته الشهيرة وما تضمنته من أشعار غنية بالحكم والأمثال، وسيدي قدور العلمي الشاعر والمتصوف، والذي أسس الزاوية العلمية بمكناس:"يا ندبة العلمي سبحته نجواه والمغنى وإن غدروا"ص 29، وفاس التي أشاد بقيمتها الثقافية والحضارية والفكرية والدينية في قصيدة (إليك فاس):"نبع الثقافة ما شهدت ركائبها دفق الحضارة والإبداع من أزل وريثة السر من شرق وأندلس في الدين والفكر والأمجاد والصول"ص 101، لينتقل إلى ماهو قطري عربي كالبليدة الجزائرية التي أنجبت صوتا أطرب جماهير عربية عريضة، وحرك مشاعرها ووجدانها هو المغني الشهير رابح درياسة:"إن البليدة تزهو اليوم في فرح سعيا لما وضعت في الخلد من ولد"ص 106. وبيروت عاصمة لبنان وما عاشته من مأساة تمثلت في حدث انفجار مرفأها يوم الرابع من غشت سنة 2020:"بيروت من ثكلها أدمت مدامعنا في كل ناحية نحب وأحزان"ص 119، هذا الانتماء الذي تتآلف عناصره وتتكامل لتشكيل مشهد ما تفتأ دائرته تتسع وتنفتح فتنتقل مما هو محلي وطني (مكناس، فاس) إلى ما هو عربي (الجزائر، لبنان) عبر لغة تغلغل عشقها في ألياف فؤاد الشاعر، وامتزج بكل ذرة في الذاكرة والوجدان كأداة للتعبير عما تجيش به الحنايا من مشاعر، وما يختمر في الذهن من خواطر وتعابير كما يسر بذلك الشاعر:"ولكم هززت قريحتي فاساقطت أكمامها ُرطَبا بطيب بنان"ص23.
فمجموعة (صدى في المدى) الشعرية ترسم لوحات شعرية بأشكال متنوعة، وأساليب متعددة بما تطرقه من موضوعات، وما تنحته من صور تنم عن حس إبداعي صادر عن رؤى غنية المنابع، مختلفة الطرائق والمسلكيات.
عبد النبي بزاز
ــ الكتاب: صدى في المدى (مجموعة شعرية) لمحمد شنوف
ــ مطبعة ديكابرينت ـ مكناس 2021
مشاركة منتدى
27 كانون الثاني (يناير), 11:13, بقلم محمد شنوف
شكرا لأخي الناقد القدير الأستاذ بزاز عبد النبي على هذه الورقة النقدية اللطيفة الرفيعة المحيطة بتجربتي الشعرية من خلال ديواني الثالث:●صدى في المدى●.
27 كانون الثاني (يناير), 11:56, بقلم عامر شارف
قراءة جيدة،حاول الاستاذ ملامسة جملة من القضايا الشعرية منها الموضوعاتية ،ومنها الفنية، وتعرض الى جمالياتها البلاغية، ثم تناول الجانب (العَروض) الايقاعي,وقد فصل فيه الاستاذ البزاز ما يراه مميزا في ديوان صدى في مدى للشاعر المغربي الكبير محمد شنوف، وشهد على شاعريته، وخبرته في الميدان الشعري، وقد استمتعت لشاعرنا عبر الزوم، وشاركت معه في عدة جلسات شعرية، كان مبدعا.تحياتي للجميع.