احتفال
امتلأت قاعة الشركة عن آخرها. احتفال بهيج، نهاية سنة وولادة أخرى. موسيقى تستوطن المكان وتسافر به الى عالم آخر. كله سحر وهدوء وجمال. كان الاحتفال. وكانت، هي هناك، ترمقه من بعيد. من وراء باب مكتبها. تتبعه بنظراتها الخجولة. تراقب كل حركة من جسده وكل تعابير وجهه. تبتسم لما يبتسم، تخاطب نفسها "هل لاحظ اهتمامي به؟" تسافر من جديد مع كل حركة من حركاته النشيطة. تخاطب نفسها من جديد وهي تكاد تحضنه بعينيها "أكيد لاحظ اهتمامي به وبكل حركاته وسكناته." ابتسمت وفي غفلة منها، اقتربت منها زميلة لها، وقالت لها في هدوء وسرية" أما زلت متيمة به؟" انتفضت كطائر جريح، وقالت لها "أنا؟ لا أبدا. لقد نسيته منذ مدة." وعادت تتكلم معها في أي كلام. لكن نظراتها ظلت بعيدة عنها، تراقبه وتغازله.
توارت عن الأنظار، لما لاحظت أنه تائه مع الآخرين في حديث وضحك. عادت الى مكتبها وعينيها تشعان حزنا وألما. مسحت دمعة هاربة وأعادت الى خزانتها هدية صغيرة كانت قد اشترتها له. فهي دائما تحب المفاجآت، وتحب أيضا أن تفاجئ من تحب. سمعت صوتا تعرفه جيدا يلقي تحية مؤدبة، التفتت. كان هناك، متكئا على حائط مكتبها ويرسم على شفتيه ابتسامة هادئة. كأن نظراتها سافرت اليه وحكت له عن حبها. خجل شديد على محياها، ارتباك غير مفهوم. ضحك بصوت مسموع. وقال لها "الكل يحتفل وأنت هنا. هل أنت مشغولة؟" فركت يديها دون وعي منها، وابتسمت وقالت له بصوت مبتهج" لدي عمل متأخر وقلت أنجزه اليوم."
اقترب منها وقال لها "لدي هدية، أرجو أن تقبليها مني." تردد كبير. "كيف علم بأنني أنا أيضا اشتريت له هدية؟" همست في غفلة منه. أخذت الهدية وكل جسدها يرقص فرحا. انها اللحظة التي كانت تنتظرها منذ سنة. احساسها لا يخونها. "انه يبادلني نفس الشعور" هكذا عبرت في صمت وهي تستعد أن تكتشف هديته. قال لها وهو يراقب حركات يديها وملامح وجهها الذي تحول الى ساحة صراع لإحساسيها: "هل أعجبتك؟" كانت ساعة يد رقيقة جدا وبسيطة جدا. قال لها "انها تشبك." ابتسمت كطفل حصل على هدية يوم العيد. وقفت وابتعدت عن مكتبها وقالت له بعينين دامعتين" جميلة جدا. شكرا لك." احتار في أمر الدموع، مسح دمعة فارة من مقلتيها وقال لها: "لماذا الدموع؟" لم تتمالك أحاسيسها التي استولت عليها وفضحت ارتباكها وفرحها، قالت له" انها دموع الفرح. أنا سعيدة جدا بهذه اللحظة." ثم تابعت دون أن تنظر اليه" أنا بدوري، اشتريت لك هدية." ابتسامة عريضة استوطنت شفتيه، وهمس اليها بصوت حنون" أين هديتي؟ " فتحت درج مكتبها وأعطتها له وهي ترتجف كأنها ارتكبت جرما. دقات قلبها ارتفعت، تردد سيطر على خطواتها كأنها تنتظر نتيجة الامتحان. فتحها وقال لها" لماذا أنت دائما متميزة؟ انه كتاب جد مهم ونادر. أين وجدته؟ " لم تكن تنتظر هذا السؤال. كانت ابتسامتها كالبدر أنارت المكتب، جلست الى مكتبها ونظرت اتجاه الباب حتى تتحاشى نظراته التي لا تقوى على مقاومة اغرائهما وقالت له" هل تذكر يوم زرنا تلك المكتبة المتواجدة في آخر الشارع؟ وقلت ساعتها ان هذا الكتاب جد مهم." أثارته هذه التفاصيل الصغيرة التي تنتبه اليها. مع أنه نسي تماما أين ومتى دخلا الى تلك المكتبة.
كلام وحديث ثم ضحك. وانطلقت كالريح تتسابق مع أنغام الموسيقى وتتحدث الى كل زملائها وزميلاتها، كانت الفرحة تكاد تنط من عينيها الخجولتين. في لحظة هاربة من أجواء سعادتها، سمعت صوتا يطلب من الجميع أن ينتبه. التفتت، كان هناك أحد مسئولي الشركة يزف خبر خطوبة حبيبها الذي أحبته في صمت، مع احدى زميلات العمل. كانت مفاجأة لها وحدها. كما قالت لها زميلتها" الكل هنا انتبه الى العلاقة التي بينهما منذ مدة. الا أنت. لقد نبهتك وقلت لك أنه يتلاعب بمشاعرك." ظلت حائرة، تنظر اليه وتحاول أن تفهم. فاختفت عن الجميع وانسحبت في هدوء. مشت تحت المطر وصوت الرياح القوية. وهي تحمل كم كبير من الحزن. لم تفكر ولم تتكلم. ما ان وصلت الى بيتها، حتى انفجرت بالبكاء.
فكرت في السفر حتى تنساه، قررت في لحظة دون تفكير مسبق، أن توافق على عمل كان مدير شركتها قد طلب منها أن تقوم به وكانت جد مترددة نظرا لتعلقها بحبيبها. كانت تحبه جدا وتفرح لما تراه، وتبتسم لما يلقي عليها تحية الصباح. قبلت العرض وسافرت على الفور.
احتمت بعالم تلك البلدة، وبناسها وهواءها وسكونها. بيت صغير ودافئ، حاولت أن تعمل كثيرا حتى لا تهاجمها صوره وكل اللحظات التي قضاياها مع بعض. انتابها شعور بالإحباط والملل، خرجت تكتشف المدينة، وتنساه. فقد كان حب من طرف واحد. وكل العلامات كانت تدل على ذلك، لكن عشقها له، منعها من الرؤية الصحيحة. مشت كثيرا دون هدف، تلقي التحية وتبتسم. شعرت بسلام داخلي وتأكدت من أنها اتخذت القرار المناسب لأنها بدأت تشعر بحالة سلام داخلي ينام بين أحاسيسها. لكن ما ان تخطت عتبة باب البيت، حتى تذكرت كيف أنه اشترى لها هدية وفي نفس الآن أعلن خطبته على أخرى. صرخت "كم كنت غبية." ساعتها، رن جرس الباب، "من سيكون وأنا لا أعرف أحدا هنا " همست لروحها ومسحت دموعها التي تهاجمها كلما تذكرته. كان بالباب رجل مسن، أنيق جدا. يحمل ابتسامة جميلة على شفتيه. ابتسمت أيضا وقالت له بكل هدوء:
– أهلا سيدي،
– أعرف أنك لا تعرفينني، أنا صاحب هذا البيت.
ابتسمت أكثر ورحبت به أكثر. وقالت له:
– لقد دفعت ثمن الكراء لشهر كامل. هل هناك من مشكل؟
جلس وهو يفتح معطفه وقال لها:
– كل شيء على ما يرام. فقط أنا تعودت أن أعرف بشكل شخصي كل من يسكن بيتي.
طلب كأس ماء ثم أضاف:
– أنا أرمل، توفيت زوجتي منذ سنة. أولادي يشتغلون خارج البلد. ففكرت أن أكتري هذا البيت وأعيش في شقة صغيرة.
ازدادت طمأنينة وهدوء بال. وارتاحت له كأنها تعرفه من زمان. جلست بدورها وهي تبتسم وتنتظر ان يكمل حكايته. تابع:
– قررت أن أكلف شركة مختصة في كراء الشقق. لما أخبروني بقدومك، فضلت أن أحضر بنفسي اليوم لأتعرف عليك.
لاحظت كم هو طيب وأنيق ويتحدث بشكل جيد. فهمت أنه متعلم. سألته:
– هل يمكن لي أن أعرف ماذا كنت تشتغل؟
ابتسم من جديد واتجه بنظراته صوب غرفة بالبيت مغلقة ثم قام وقال لها:
– اتبعيني، أخرج مفتاحا من جيبه، وفتح باب الغرفة.
انبهار كبير على محياها. كانت تنظر وتتأمل في ذلك الكم الهائل من الكتب المتراصة بشكل أنيق ومرتب.
قال لها:
– كنت أعمل صحفي بإحدى الجرائد. وأنا مولع بالشعر وعملت العديد من الحوارات الأدبية والسياسية ...
ظلت صامتة كأنها حصلت على كنز، ضحكت ورقصت من الفرحة. فقالت له:
– لماذا تترك هذا الكنز هنا؟ ألا تخاف ان يسرق؟
جلس وراء مكتبه ونظر اليها وقال:
– لهذا أريد دائما أن أتعرف على من يسكن بيتي. سألها بشكل مفاجئ:
– هل تحبين القراءة؟
– نعم، ربما هي الشيء الوحيد الذي ظل وفيا لي.
قام من وراء مكتبه واقترب منها وقال لها:
– أنا ارتحت اليك كثيرا يا ابنتي، فيك شيء من ابنتي البعيدة عني. سأترك لك هده الغرفة مفتوحة لكن بشرط أن تحافظي عليها كأنني موجود.
طارت فرحا وقبلته، لم تكن تعلم أن الحظ سيبتسم لها بهذه السرعة.
عاشت تلك الأيام في هدوء داخلي، انكبت على مهمتها التي جاءت من أجلها. وفي نفس الآن، كانت تقوم بحبس نفسها لساعات داخل المكتبة حتى يحل الليل. سعدت بحياتها الجديدة البعيدة عن تلك الأيام الحزينة. في يوم، وجدت بين الكتب التي كانت تتفحصها، ورقة، ملامحها قديمة. تجرأت وفتحتها. كانت عبارة عن اعتراف حب من طرف واحد. كانت مفاجأة بالنسبة اليها. "هل كل ما يقع لي عبارة عن صدفة؟" قرأت الاعتراف المختوم بحرفين م-م.
نامت وهي تحمل بداخلها قصة الاعتراف الذي يشبه قصتها مع الاختلاف في الزمن. تعودت خلال تلك الفترة أن تتكلم مع السيد الأنيق صاحب البيت بالهاتف كلما لزم الأمر. يومها قررت أن تدعوه للعشاء لتتعرف عليه أكثر وخصوصا أن مهمتها قربت على الانتهاء. كانت سعيدة كطفلة، نسيت الأمس الجارح. أعدت عشاء متنوعا، كانت تنتظر تلك اللحظة بفارغ الصبر لأنه بداخلها سؤال كبير عن ذلك الاعتراف. ولا تدري كيف ستكون ردة فعله.
أمضيا ليلة جميلة، حكى لها عن حياته وكيف عشق مهنة الصحافة وكيف أن هذه المكتبة أنجته من الاكتئاب بعد وفاة زوجته. تجرا أكثر وسألها:
– إذا سمحت لي، هل أنت مرتبطة؟
لم تكن تنتظر هذا السؤال، لكنها وجدته فرصة لفتح الباب لكل تلك المعاناة التي ما تزال ترفض الرحيل من داخلها. ابتسمت كعادتها وقالت له:
– أحببت زميلا لي بالشركة، كنت أعتقد أنه يبادلني نفس الحب. رغم تحذير زميلة لي منه. كنت عمياء، أفرح لفرحه، وأبكي لبكائه. اساعده في عمله. كنت لا أرى سواه.
تركت الحرية لدموعها تسبح فوق ملامحها الحزينة، كأنها لم تتكلم منذ زمن وأكملت:
– يوم علمت بخطبته من أخرى، حاولت أن أغرق نفسي في العمل. وأحتفل، وأتسوق، وألعب رياضة. لما ألج بيتي، ألفني لوحدي، أغرق في البكاء وأنهار.
انتبه السيد الأنيق، لحالتها النفسية التي تغيرت. حاول تغيير النقاش، قال لها بكل هدوء:
– اسمعي يا ابنتي، لست وحدك من مر من هذه التجربة. تجربة الحب من طرف واحد.
وبدأ يحكي قصته التي قرأتها في ورقة الاعتراف. كم كانت محرجة أن تفاتحه في الموضوع، فجاء الجواب من عنده.
وقال لها:
– الكتب أنقذتني من حبي الأول، وأنقذتني من الموت بعد وفاة زوجتي التي كانت هي حياتي.
فجأة وقفت، ضحكت وقبلت رأسه وقالت له:
شكرا لك، لقد حررتني من سجن كبير كنت أعيش فيه رغم محاولاتي المتكررة للهروب منه. وأطلقت العنان لآهات متكررة وصرخت بكل سعادة:
– الآن أنا ارتحت وصرت حرة وطليقة.
قبل أن يودعها، قالت له:
– أطلب منك أن تغفر لي جرأتي.
ظل صامتا ينتظر. ولم يشأ أن يحرمها من تلك الفرحة التي كانت تنط من عينيها كأشعة شمس يوم صيفي. وتابعت:
– بالأمس، وأنا في المكتبة وقعت بين يدي ورقة اعتراف حب، ومختومة بحرفين: م-م
قبل أن تكمل، نظر اليها واتجه صوب الباب، توقف قليلا ثم قال لها:
– انها حكايتي التي حكايتها لك قبل قليل. والحرفان هما اسمي، محمد واسمها مريم.
خرج وتركها تعيش حالة من الفرح والتردد والتأمل. انطلقت كالسهم الى غرفة نومها وعانقت وسادتها ونامت كما لم تنم من قبل.
اتصلت به في اليوم الموالي، دعته الى لقاء في مقهى بالمدينة. وهي فرصة لتشكره على ثقته وعلى الساعات الجميلة التي قضتها بصحبته وجعلتها تستعيد ثقتها بنفسها وتتحرر من صمتها. خلال استعدادها للخروج، جرس الباب من جديد، فتحت. كان هناك، لم تتوقع أنه سيكون هو. حبيبها الأول، حل سكون ليل البراري. ظلت واقفة أمام الباب. نظرات متوجسة، ارتفعت نبضات قلبها. قال لها بابتسامة واثقة:
– كيف حالك؟ لقد اشتقت اليك.
– .....
– هل سأظل واقفا ؟
– ...
– لم أستحمل غيابك المفاجئ. وقررت أن أحضر بنفسي لأشرح لك كل شيء.
– لدي موعد مهم، وأرفض أن ألتفت الى الوراء. وأنت ورائي الآن.
انطلقت سعيدة، تكاد تطير من الفرح لأنها استطاعت أخيرا أن تقول له إنك لم تعد تهمني. واحتفلت مع السيد محمد بلقائهما. وطلبت منه أن يزورها في بيتها لما تعود الى عملها.