الأحد ١٦ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠١٨
بقلم رشيد سكري

الأنساقُ الثقافيَّة بين الغذامي وإدوارد سعيد

ظل الأدبُ عريشا ممتدا، يتفيّأ به الإنسان؛ للتعبير عن عواطفه وإحساساته و شعوره، ووسيلة من وسائل تفاعله اللامشروط مع الحياة. فالتفنن في الأساليب الإبداعيّة، جاءت كنتيجة حتمية، ساهمت في تعميق رؤيته للقضايا التي تؤرِّقه، و تهدده في وجوده. وبذلك، فمن البديهي جدا أن يكون الخطابُ اللّغوي وسيلة لدراسة الأنساق المهيمنة، والتي شكلت رافدا أساسيا من روافد التلاقح الحضاري بين الشرق و الغرب.

إن هذه الأنساق الثقافية والاجتماعية فتتت المركزيات المهيمنة في الثقافة و الأدب، فإلى جانب الخطاب الأدبي المباشر، الذي يعتمد على الوضوح، نجد خطابا أدبيا آخرَ موازيا يتغيا التأويل كشرط أساسي لوجوده؛ بهدف القبض على المعنى المضمر الزاحف. فما كان للأدب العربي إلا أن يستعيد نهوضه، و يستجمع هممه رافعا التحدي، في مواجهة غطرسة وسيادة الآخر، بما هو يسعى حثيثا إلى تفكيك البنى الثقافية، التي خلقت من الشرق منارة للحضارة قديما.لاسيما أن ما خلفته، هذه الأخيرة في التاريخ، من شواهدَ دالة على رقي فكري وعلمي حقيقي، ترتب عنه تقدمٌ سياسي وازدهار اقتصادي واجتماعي.

سياقيا، كان بعض الباحثين و المفكرين مسجورين بقضايا حماسية تنذر بإشعال فتيل المواجهة ؛ بعدما أرسوا العزم على أن الآخر كان سببا مباشرا في تخلف الذات وتقهقرها. وذاك نتيجة للظروف التاريخية، التي اختلت معها موازين القوى بين الشرق والغرب. فكانت للحروب الصليبية، مثلا، التي امتدت من القرن الحادي عشر إلى القرن الثالث عشر للميلاد، يد واصلة في إرساء التبعية و الاستبداد و العبودية، بعد ما كان الهدف منها، تطهير قبر المسيح فحسب. إن روحي الخالدي في كتابه "تاريخ علم الأدب" قد أشار إلى ما حملته هذه الحروب الثمان من ويلات، أتت على الأخضر واليابس، وساهمت في غزو حواضر الشرق تباعا. كما أن لحملة نابليون بونبارت، من جهة أخرى، في القرن الثامن عشر وقعا مدويا على مصر، حيث إنها أنهت ما بدأه الصليبيون قبلهم بخمسة قرون من الزمن.

فمن الوجاهة أن يكون الوعي مستشر بين المفكرين و الأدباء بمدى الخطورة، التي أقدمت عليها هذه الحروب والحملات التبشيرية، وغيرت من مجرى التاريخ الإنساني. فضلا عن مساهمتها الفعالة، في محو تلك الصُّورة المثالية، التي ظهر بها الشرق العربي المتفوق، في المخيال الغربي. فأول ردة فعل للنخب، على هذا الوضع الموبوء، محاولتهم تجديد قنوات الاتصِّال، وبعث أواصر جديدة تهتم بالتراث العربي قديمه و حديثه. زيادة على تأصيل البحث العلمي و الأكاديمي في الجامعات على طول الوطن العربي. لذا كان الشعر الجاهلي، عند عبد الله الغذامي، منطلقا أساسيا لتحديث البنى، وذلك عبر ضخ دماء جديدة في عروقه، وتوسيع مقاماته التداولية. إن الشاعرَ الفحلَ، حسب الغذامي، يجب أن يتردد صداه في باقي الأنساق الموازية الأخرى، التي يعتمد عليها الإنسان في حياته اليومية، ولا يجب أن يظل حبيس الخطاب الشعري فحسب. مضيفا أنه لا ضير أن يتشكل الفحل في أنساق مختلفة؛ فحل اقتصادي واجتماعي وسياسي...

من هذا المنظور، كان يسعي الغذامي، في مشروعه الثقافي الضخم، إلى إعادة ترتيب البيت من الداخل. فانفسح له البابُ على مصراعيه، خصوصا عندما رسخ جذور دوحة الشاعرات في تربة فحولة الشعر العربي، ناسفا قولة أبي النجم العُجيلي؛ الشعر شيطان ذكر. إن هذا المسعى يضمن، من خلاله الغذامي، حضور الشاعرات في رقعة، ظلت لعهود من الزمن حكرا على ثقافة الرجاجيل. وبات من الطبيعي أيضا أن ينعكس ذلك على بنية النسق، الذي يطمح إليه الباحث من خلال ابتكاره ترْسنة من المصطلحات تخدم مشروعه الثقافي. فكان لعبارات من قبيل: "تأنيث القصيدة" و"الأنثوية الشعرية" و "البحور المؤنثة" و"القصيدة الأنثى" وغيرها... محجٌّ حقيقيٌّ للعديد من الدارسين والباحثين. خصوصا، من أولئك الذين ينتصرون للفكر التقدمي الحداثي. علاوة على ذلك فما فعلته نازك الملائكة بعمود الفحولة، انطلاقا من قصيدتها "الكوليرا"، كان بمثابة وثبة حقيقية نحو المستقبل، حيث استعادت من خلالها ـ أي القصيدة ـ الدور الفعلي للمرأة في صلب الحياة الثقافية، إلى درجة أنها لم تقف عند حدود الشعر فقط، وإنما أشفعت ذلك بجرأة في اتخاذ قرارات حاسمة في الحياة العامة، والدفاع عنها جهرا و أمام الملأ.

فتهشيم صنم عمود الشعر العربي، حسب عبد الله الغذامي، كان وصيدا حقيقيا نحو إعادة تشكيل فسيفساء النسق الاجتماعي والاقتصادي والسياسي وفق معايير هندسية جديدة، تراعي للجنس اللطيف مقامه، و تصون كرامته. بالموازاة مع ذلك، فهي تساير مبدأ القوة الناعمة في مواجهة الآخر، والحد من بسط هيمنته وحضوره المطلق.

أما إدوارد سعيد في كتابه، الذائع الصيت "الاستشراق"، فكك صورة الآخر ومركزيته عن طريق رفضه كمصدر إشعاع يحوي ثقافات أخرى. فالاستشراق يقول عنه إدوارد هو: "أسلوب غربي يهدف إلى السيطرة على الشرق وإعادة بنيته، وامتلاك السيادة عليه". فكلما كان الآخر مصدرا للمعرفة و الثقافة، كلما استفحلت معه التبعية والاستغلال. من هذا المنطلق، كانت الظروف التاريخية، التي مر منها الشرق، انطلاقا من القرن الثامن عشر إلى حدود منتصف القرن العشرين، بؤرة حامية الوطيس سعت إلى تشكيل صورته وترسيخها في الأذهان. حيث إن الازدهار، الذي عرفه الشرق، جاء مع حروب الكلنيالية الغربية على المشرق. ومن هذا المنطلق، ظلت الحملة النابليونية على مصر في القرن الثامن عشر، وما أحدثته من تغييرات بنيوية في المجتمع المصري آنذاك، مشجبا يعلق عليه الاستشراق كل أمانيه، وما يطمح إليه من إعادة هيكلة الشرق، وفق مخططات استعمارية جديدة. فأيّا كانت التأويلات المحتملة للحدث التاريخي، فإنها تنحوا في اتجاه ترسيخ القوة، كمفهوم بديل للحضارة الإنسانية عامة. وبذلك فهي تستمد من النتشوية طاقتها المتمثلة في: الإنسان المتفوق، الإنسان القوي والفعال.

إن "الاستشراق" لإدوارد سعيد كتاب في النقد، ريادي من حيث الأساليب البلاغيّة والفنية. وهو بمثابة دعوة صريحة إلى البحث الأركيولوجي في الذات وتعريتها،ووضعها أمام الأضواء الكاشفة. وهذا مما دفع بإدوارد إلى البحث في تأصيل جنس الرواية في الثقافة العربية، كنسق ثقافي ينتمي إلى تراث الشرق، انطلاقا من إرهاصاتها الأولية، والمتمثلة في فن المقامة عند كل من بديع الزمان الهمذاني في القرن الرابع الهجري، والحريري في القرن السادس الهجري. وقد خلص إدوارد سعيد إلى هذه القناعة المترسخة في وعيه، بعدما قرأ الإنتاج الروائي الغربي طيلة مائتي عام من الإبداع، أسوة بما فعله ت.س. إليوت عندما انكب على قراءة التراث الشعري الانكليزي من هوميروس إلى شكسبير.

وبهذا يمكننا أن نقول إن المقامات تستعمل الشخوص أبطالا في الكدية و الشطّارية، وهذا مهد الطريق إلى الرواية، من حيث هي جنس أدبي تجعل من شخوصها أدواتا فنية تجسدن رؤية الكاتب للقضايا التي يراها. ولمَّا كان الاهتمام بالخطاب الروائي من قبل إدوارد، على علة مفادها: أنه يدور في فلك الخطاب الاستعماري، فإن اهتمامه أصبح منكبا على المفكرين الغربيين، الذين تلتحم في خطاباتهم الأدبية صورة القوة السياسية بالأنساق الثقافية. وبعد بحث مستفيض، والذي اقتفى فيه إدوارد آثار جل المفكرين الغربيين، على امتداد رقعة زمنية تمتد في حدود قرنين ونصف تقريبا، وجد أن الباحثين و المفكرين "ميشال فوكو" الفرنسي و أنطونيو غرامشي الإيطالي يحملان جينات الخطاب الكلنيالي، مستعيرا من هذا الأخير مقولته الأساسية و الشهيرة حول المثقف العضوي. من هذا المنظور المقارناتي استطاع الباحث الفلسطيني إدوارد سعيد، وفي ظرف وجيز، أن يهتم به كبار المفكرين الأكاديميين العالميين، بدافعين جوهريين أولهما: جدارة المشروع الثقافي بالاهتمام، الذي يسوق له عالميا، من زاوية الأدب المقارن، وثانيهما ينحدر الباحث من دولة فلسطين، التي تعيش النكبة منذ الإعلان عنها كوطن بديل ليهودية العالم.

إن الشرق العربي ظل في مخيال الغرب صورة للهيام و الحلم و الرمز و الأسطورة، انطلاقا من كتاب " ألف ليلة و ليلة " الكتاب الغواية و التيه في الكتابة و العيش. و ثـُلمَة ضيقة نطل من خلالها على عوالم الشرق الساحرة. تلك الصورة استبدت بها المواقف، وغمرت بها كل أنحاء المعمور. فإن اقتران الشرق بالحلم عند الرومانسيين، إنما هو نزع فتيل الصراعات حول بقعة كانت مهد الديانات السماويَّة، تزخر بأجداث الرسل و الأنبياء، حيث أريقت فيها دماء تنضح شلالات، ومبعث الألم الدفين المتجدد لشعوب على مر الزمان، فكان من البديهي أن تظل أرضا للغواية و التيه و العيش في زمن الكتابة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى